محمد صلى الله عليه وسلم شخصيته وصفاته (5)

خلاصة لأحـداث السـيرة النبوية -3-

شهدت الشهور الثلاثة التالية هجرة كل من استطاع الهجرة من المسلمين من أهل مكة إلى يثرب، إذ ترك هؤلاء مكة في مجموعات صغيرة، آخذين معهم ما استطاعوا أن يأخذوه من أمتعة قليلة. فهجروا بيوتهم وأعمالهم، وتخلوا عما هو أكبر لديهم من ذلك، وهو ولاؤهم لعشائرهم وقبائلهم. ولم يبق في مكة من المسلمين إلا من لم يستطع الهجرة لأن أهله احتجزوه ومنعوه من مغادرة مكة. وظل في مكة أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي، فالنبي كان ينتظر إذن ربه له بالهجرة. وشعرت قريش بما كان يدور في أحيائها، وتخوفت من النتائج. فعقد رؤساء قريش اجتماعا طارئا يتدارسون فيه الموقف وما ينبغي أن يتخذوا حياله، فاستعرضوا كل الاحتمالات، وقرروا أن يسارعوا بعمل حاسم، فيقتلوا النبي فورا. وكانت خطتهم أن يأخذوا من كل فرع من فروع قريش شابا جلدا قويا، فيضربه هؤلاء بسيوفهم ضربة رجل واحد، كي تتشارك قريش كلها في هذا الاغتيال، ويتفرق دمه بين بطونها، فيعرف بنو هاشم أنهم لن يقدروا على حرب قومهم جميعا، فيقبلوا بالدية، فتدفعها قريش عن رضا وطيب نفس.

غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استطاع الخروج من مكة متفاديا أولئك الذين اجتمعوا لقتله، واتخذ كل ما يلزم من احتياطات لتفادي مطارديه، فوصل المدينة بعد أسبوعين من خروجه، فاستقبله أهل المدينة مرحبين، يشعرون بسعادة غامرة أن أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. وابتدأ النبي من فوره بتنظيم المجتمع الجديد الذي يضم المهاجرين والأنصار، فاتخذ أربعة إجراءات كبيرة الأهمية:

1. بنى المسجد الذي أصبح مكان العبادة، ومدرسة يتعلم فيها المسلمون أمور دينهم ونظام حياتهم، ومنتدى يجتمعون فيه، ومركز الحكومة.

2. عقد رابطة الأخوة بين المهاجرين والأنصار، فقال لأصحابه أن يتآخوا في الله فيكون لكل فرد من المهاجرين أخ من الأنصار. وقد اعتبرت هذه الرابطة الجديدة الأهم في حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كانت أقوى وأهم من الرابطة القبلية.

3. وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عرف باسم "صحيفة المدينة"، وهي أول دستور مكتوب في تاريخ البشرية، إذ نظمت العلاقات بين مكونات مجتمع الدولة الإسلامية في المدينة، وهم المسلمون واليهود والعرب المشركون. وقد فصلت الصحيفة التزامات كل فريق وواجباته في دولة تعددية.

4. وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا من أصحابه، لتسير في المناطق القريبة من المدينة، فتظهر قوة الدولة الجديدة، وأنها لا تخشى أحدا. إذ كان المجتمع العربي معتادا على الغارات التي تشنها القبائل المختلفة تبتغي المكاسب السهلة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يعرف الجميع أن المدينة كانت أقوى من أن يطمع فيها أي طامع. وقد هددت هذه السرايا طريق قوافل قريش التجارية، ولكنها لم تخض قتالا، باستثناء سرية صغيرة حيث اشتبك ستة من المسلمين مع عير صغيرة لقريش. وكانت هذه السرايا تقتصر على المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بدأ مجتمع المدينة يتعرف إلى جوانب جديدة في الحياة لم يكن العرب يعرفونها، فالتعامل مع الآخرين على أساس الأخوة في الدين، لا على أساس رابطة الدم والقبيلة، أعطى المسلمين معنى جديدا للحياة. وبما أنهم أصبحت لهم قضية يعملون من أجلها، فقد اكتسبت نظرتهم للحياة بعدا جديدا، إذ أصبح المسلم يعتبر الدعوة إلى الله من أول واجباته، فأخذ الصحابة يدعون أهليهم وأصدقاءهم إلى دين الله. ولأول مرة أحس المسلمون أنهم في وضع يمكنهم من أن ينظموا حياتهم على أساس تعاليم دينهم، دون أن يخشوا أحدا. وفي كل يوم كانوا يرون أناسا من أهليهم وقبائلهم، بل ومن خارج مدينتهم يقبلون على الإسلام ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل عمله في صياغة الجماعة المسلمة في قالبها الجديد، فيسوي ما هو معوج، ويؤلف ما هو متنافر، وفوق هذا كان يركز دعائم الدولة الناشئة. غير أن هذه الحال لم تكن لتدوم طويلا، إذ كانت قريش تشكل خطرا كبيرا، لا سيما وأنها استطاعت أن تقوي مركزها الذي جعلها القوة الكبرى في الجزيرة العربية. ومعنى هذا أنه إذا أرادت الدعوة الإسلامية أن توسع دائرتها خارج المدينة فإن عليها أن تتعامل مع الخطر الذي تشكله قريش.

ومن جهة أخرى كان المسلمون في فقر، إذ إن هجرة المهاجرين إلى المدينة شكل عبئا ثقيلا على اقتصاديات المدينة، وكانت قريش قد صادرت كل ما خلفه المسلمون من ممتلكاتهم في مكة. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى الفرصة لإعادة التوازن.

وجاءت هذه الفرصة في رمضان من السنة الثانية للهجرة، حيث عرف النبي أن عير قريش العائدة من الشام باتت على مقربة، فدعا أصحابه إلى الخروج بسرعة لاعتراضها. وسار في 313 من أصحابه، معظمهم من الأنصار، يريد اعتراض العير. ولم يأمر النبي بالتعبئة لقتال، لأن ذلك يستغرق وقتا قد يعطي العير فرصة للنجاة. ولم يكن المسلمون الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجهزين لمعركة كبيرة. وعندما اقتربت العير، بقيادة أبي سفيان، من المدينة سارت بحذر شديد، ثم سمع أبو سفيان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعتراض العير، فاتخذ خطوتين هامتين، إذ انحاز بالعير شطر البحر، ليبتعد عن الطريق المألوفة، وبعث رسولا يسير على جناح السرعة إلى مكة ينذر أهلها بالخطر الذي يتهدد عيرهم، ويهيب بهم أن يرسلوا من يدافع عنها. فخرج جيش مجهز قوامه ألف رجل، للدفاع عن العير. واستطاع أبو سفيان أن ينجو بالعير ويفلت من مطارديها.

أصبح جيش المشركين يواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بدر، فحاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبذل النصح لقريش بأن القتال ليس في مصلحتها، إذ كان حريصا على أن لا تقع حرب، ولكن المتصلبين في جيش المشركين نظروا نظرة مختلفة، إذ رأوا أن في إمكانهم إلحاق هزيمة بالمسلمين تدعم مركز قريش بين العرب، فأصروا على القتال، وانتهت المعركة بهزيمة مدوية للمشركين. وقتل معظم من كان في الجيش القرشي من أشراف مكة ورؤساء بطون قريش، وبلغ عدد قتلى قريش سبعين رجلا ووقع عدد مثلهم أسرى في يد المسلمين. واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ماذا يصنع بالأسرى، فأشار عليه بعضهم بقتل الأسرى كي يعرف الناس جميعا أن الأمة المسلمة لا يمكن أن تساوم في أمر دينها. غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر، بعد أن استمع إلى آراء أصحابه، أن يقبل الفدية من الأسرى، وجعل فدية من كان يعرف القراءة والكتابة من الأسرى أن يعلم عشرة من أطفال المسلمين.

وشهدت السنوات القليلة التالية أحداثا كبيرة، إذ سعى أعداء الإسلام إلى المجابهة مع الجماعة المسلمة بطرق شتى، فكانت البداية مع بني قينقاع من يهود المدينة، إذ انتهك هؤلاء المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل القبائل اليهودية في المدينة ومع العرب المشركين فيها. فحاصر المسلمون بني قينقاع، ثم وافق هؤلاء على الخروج من المدينة ففعلوا.

ثم جهزت قريش جيشا لمهاجمة المدينة كي تثأر لهزيمتها في بدر. وسار الجيش الذي كان قوامه ثلاثة آلاف رجل بسرعة كبيرة، يحرص على مباغتة المسلمين في عقر دارهم. أما جيش المسلمين فلم يزد على سبعمئة مقاتل. ودارت معركة عند جبل أحد، خارج المدينة، وسارت في بدايتها لصالح المسلمين، غير أن مجموعة الرماة التي وضعها النبي على جبل عينين لحماية ظهر المسلمين وطلب منها أن لا تغادر موقعها في أي ظرف، ظنت أن المعركة قد انتهت وأن النصر قد تحقق، فغادرت موقعها ونزلت من الجبل. فاستطاعت كتيبتان من جيش المشركين الالتفاف من خلف المسلمين لتشن هجوما مضادا، وبذلك وقع المسلمون في وضع صعب يقاتلون عدوا يأتيهم من الخلف، وعدوا من الأمام. وكان عدد من رجال قريش قد تعاهدوا وأقسموا أن يقتلوا النبي، صلى الله عليه وسلم، ولذلك فعندما دبت الفوضى في صفوف المسلمين بسبب الهجوم الخلفي الذي تعرضوا له، شن أولئك هجوما مركزا يحاولون قتله، واستطاعوا إصابته وكسر بعض أسنانه، غير أن مجموعة صغيرة من المسلمين استبسلت في الدفاع عنه وصدت مهاجميه. وانتهت المعركة بنصر عسكري للمشركين، وفقد المسلمون سبعين شهيدا، أي عُشر قوتهم المقاتلة.

كشفت هذه المعركة عن وجود المنافقين في المدينة، إذ كان هؤلاء يدّعون أنهم مسلمون ولكنهم لم يكونوا في قرارة أنفسهم يؤمنون بالإسلام. وكان على رأسهم عبد الله بن أبي الذي استطاع أن يحدث شقا كبيرا في صفوف المسلمين، عندما انسحب مع ثلاثمئة من أتباعه قبل المعركة، مما نزل بعدد جيش المسلمين إلى سبعمئة مقاتل كانوا يواجهون أربعة أضعافهم. وقد تعلل أولئك المنسحبون بعلة واهية، إذ قالوا – كما جاء في كتاب الله تعالى: "قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم" (آل عمران 167).

لعل من الممكن القول إنه إذا كانت الدولة تقوم على أساس مجموعة متجانسة من المبادئ، أو على عقيدة متكاملة، لا بد أن يكون فيها أناس يعارضون نظامها وعقيدتها. وإذا كان هؤلاء يعبرون عن آرائهم علانية، فإنهم لا يشكلون مشكلة للمجتمع في تلك الدولة. أما إن كانت هذه المعارضة تسعى إلى التآمر سرية من أجل تخريب نظام الدولة، فهنا تبدأ المشكلة. وعندما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الدولة الإسلامية الأولى في المدينة كان أهلها من العرب الذين لم يسلموا فئتين: إذ كان أولئك الذين ظلوا على دينهم معلنين ذلك، ولم تحدث أي مشكلة مع هؤلاء، سواء على الصعيد الفردي أو على صعيد الجماعة. كان عدد هؤلاء كبيرًا في البداية، غير أن الكثيرين منهم أسلموا إذ تبينت لهم حقيقة رسالة الإسلام. أما الفئة الأخرى فضمت أولئك الذين رأوا أن الإسلام يزداد قوة يوما بعد يوم، وظنوا أنهم ما لم يسلموا فإنهم سيصبحون في عزلة عن قومهم، ومع ذلك فإن الإيمان لم يلامس قلوبهم، ولم يؤمنوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم تظاهروا بأنهم مسلمين. كان هؤلاء هم المنافقون، وقد سببوا للمجتمع الإسلامي سلسلة من المشكلات الكبيرة.

شجعت الهزيمة التي تعرض لها المسلمون في أحد بعض القبائل العربية على اللجوء إلى المكر والحيلة للقيام بعمليات ناجحة ضد الدولة الإسلامية. وكان من أقسى هذه الحالات حادثان سببا للنبي صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين معه ألما كبيرا. الحادثة الأولى هي ما يعرف باسم "الرجيع"، إذ جاء أناس من قبيلتي عضل والقارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا إن في قومهم بعض المسلمين، وطلبوا منه أن يرسل معهم بعض أصحابه ليعلموهم القرآن، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم معهم ستة من أصحابه، غير أنه عندما وصل الجميع قريبا من مساكن أولئك النفر اعتدوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوا منهم أربعة، وباعوا الآخرين إلى قريش ليقتلا ثأرا لقتلى قريش في معركة بدر. أما الحادثة الأخرى فنالت عددا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتراوح بين أربعين وسبعين، كان معظمهم من القراء. وقد ذهب هؤلاء إلى نجد للتبشير بدعوة الإسلام، بعد أن ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم حماية شيوخ العشائر النجدية. غير أنهم تعرضوا لهجوم مباغت وقتلوا جميعا.

كان للجبهة الداخلية في الدولة المسلمة مشكلاتها، وجاءت المشكلة التالية من يهود بني النضير. فقد ارتبط بنو النضير، وسائر القبائل اليهودية في المدينة بالميثاق الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، ليكون دستورا للدولة الجديدة، وقد ألزم هذا الدستور أطرافه الموقعة عليه بواجبات محددة للمواطنة في دولة المدينة. وأراد النبي أن يمتحن مدى التزام اليهود بواجباتهم تلك بعد ما تعرض له المسلمون من نكسات، فذهب مع ثلاثة من أصحابه إلى بني النضير يطلب منهم العون في جمع دية قتيلين قتلهما بعض المسلمين خطأ. فقالوا له: إنهم سيعملون على جمع المال وطلبوا منه ومن أصحابه أن يجلسوا ريثما يجمعون المال، ولكنهم في أثناء ذلك رأوا أن وجود النبي في حيهم يعطيهم فرصة سانحة لاغتياله، ولكن الله تعالى أخبره فغادر المكان من فوره، وحده، متجها إلى مسجده. ثم أرسل إليهم يطلب منهم الجلاء عن المدينة على أن يأخذوا معهم ما شاؤوا من أمتعتهم وأن يعينوا وكلاء عنهم في إدارة مزارعهم. فوافقوا أول الأمر، ولكن عبد الله بن أبي أرسل إليهم أن لا يفعلوا، لأنه سيمدهم بقوة كبيرة تحارب معهم. ولذلك عادوا فرفضوا عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم المسلمون في حصونهم. وعندما اشتد عليهم الحصار وتبينوا أن أحدا لن يأتي لنصرتهم وافقوا على الجلاء عن المدينة ورضوا بشروط أقل كثيرا مما كان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم في البداية. إذ اشترط عليهم التخلي عن مزارعهم، ولكنهم قبل جلائهم خربوا بيوتهم بأيديهم كيلا يستفيد المسلمون منها.

بالرغم من النجاح الكبير الذي حققه المسلمون ضد بني النضير فإن ذلك لم يمنع بعض القبائل العربية من التفكير في مهاجمة المدينة. فجمع بنو المصطلق جمعا يريدون الإغارة على المدينة علهم يحرزوا بذلك بعض الغنائم، إذ ظن هؤلاء أن النكسات التي أصابت المسلمين قد أضعفت معنوياتهم وجعلتهم فريسة سهلة. غير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستخدم عنصر المفاجأة بنجاح كبير. فعندما يأتيه خبر أن عدوا يستعد للإغارة على المدينة كان النبي يتحرك سريعا لمواجهة الخطر المرتقب. غير أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهاجم أي عدو مباغتة، بل كان يستغل عنصر المفاجأة ليواجه العدو قبل أن يستكمل استعداداته، فيدرك هذا العدو أن المقاومة لن تكون مجدية. وكان هذا الأسلوب يحقق للمسلمين نتائج أفضل كثيرا دون كبير خسارة. كان هذا ما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الخبر بما يريد بنو المصطلق، ولذلك فعندما ظهر جيش المسلمين عند المريسيع، وهي الآبار التي يستقون منها، لم يكن بنو المصطلق يتوقعون ذلك، فدارت بين الفريقين معركة قصيرة قتل فيها عشرة من بني المصطلق قبل أن يستسلم الجميع.

بالرغم من كل هذه الاشتباكات والانتصارات التي حققها المسلمون ظلت الدولة المسلمة لا تحظى بالسلام. إذ كان لها أعداء في كل أنحاء الجزيرة العربية، وكان هؤلاء الأعداء أقوياء يحيكون لها ويأتمرون بها، دون أن يكون لديهم أي استعداد للإصغاء لرسالة الإسلام. بل إن القبائل العربية التي كانت تعيش في مناطق بعيدة، ولم يكن النزاع بين قريش والاسلام يعنيها أو يؤثر عليها فضلت أن تقف موقف المراقب الذي ينتظر ما ينجلي عنه الموقف بين الفريقين. وظلت هذه القبائل ترى الوضع على أنه نزاع داخلي بين قريش وواحد من أبنائها. أما الأطراف التي كانت تشعر بعداء سافر نحو الإسلام فقد أحست أنها لابد أن تضم صفوفها وأن تتحالف كي يكون لديها فرصة التغلب على الإسلام الذي كانت تراه يزداد قوة يوما بعد يوم. ولذلك تم تشكيل تحالف الأحزاب الذي ضم قريشا وغطفان، إحدى القبائل العربية الكبيرة، واليهود. فسار هؤلاء في جيش قوامه عشرة آلاف رجل، لعله كان أكبر جيش شهدته الجزيرة العربية حتى ذلك الوقت، وساروا حتى بلغوا المدينة، متعاهدين أوثق العهود أنهم لن يبرحوا حتى يستأصلوا الجماعة الإسلامية عن بكرة أبيها.

لا يمكن لأي جيش يريد أن يغزو المدينة أن يشن هجومه إلا من جهة الشمال، فإلى الشرق والغرب من المدينة تمتد حرتان، واقم والوبرة، والحرة أرض حجارة بركانية لا يستطيع جيش كامل أن يعبرها بسهولة. أما إلى الجنوب فكانت مزارع الأنصار التي تمتلئ بأشجار النخيل، وكانت هناك حصون بني قريظة، القبيلة اليهودية الكبيرة التي كانت ترتبط بمعاهدة مع المسلمين توجب عليها المشاركة في الدفاع عن المدينة. وبناء على مشورة سلمان الفارسي، رضي الله عنه، أمر النبي بحفر خندق على طول المدخل الشمالي للمدينة، بحيث لا يستطيع جيش العدو عبوره. وقد تم حفر الخندق بسرعة كبيرة، وشارك المسلمون جميعا، والرسول معهم، في حفره ونقل التراب والحجارة. وعندما وصل جيش الأحزاب كان حفر الخندق قد اكتمل وأصبحت المدينة محصنة. فلم يعد في مقدور المهاجمين شيء أكثر من أن يحاصروا المدينة، على أمل أن يؤدي ذلك إلى إضعاف الروح المعنوية بين المسلمين.

لم يدب شيء من الضعف إلى صفوف المسلمين في الأسبوعين الأولين من الحصار، ولذلك فإن العقل المدبر وراء هذا التحالف، وهو حيي بن أخطب، كبير أحبار بني النضير، عمل جاهدا لتحقيق الغاية التي كان يبتغيها من تنظيم هذا التحالف. فذهب إلى بني قريظة، ونجح بعد جهد في أن يغريهم بالانضمام إلى التحالف وأن يهاجموا المسلمين من الخلف، وبذلك يصبح المسلمون المدافعون عن المدينة بين فكي كماشة. وعندما علم المسلمون بذلك استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دعاهم إلى الاعتماد المطلق على الله وحده، والثقة الكاملة بموعوده. وقبل أن يستكمل يهود بني قريظة استعداداتهم لشن الهجوم الخلفي، أرسل الله تعالى ريحا قاصفة اجتاحت معسكر المشركين، مما أضعف معنوياتهم كثيرا، لا سيما وأن مؤنهم بدأت تنفد، إذ كان الحصار قد استمر سبعة وعشرين يوما. ولذلك أمرهم قائدهم أبو سفيان بالانسحاب. فلم تلبث غطفان أن انسحبت كما انسحبت قريش. وما إن أصبح الصباح حتى نظر المسلمون عبر الخندق فوجدوا أن عدوهم قد رحل.

خلّف انسحاب المشركين بني قريظة في مواجهة المسلمين، فقد انهارت العلاقات بين الفريقين، وما كان يمكن استعادة الثقة بينهما. فحاصر المسلمون بني قريظة في حصونهم خمسة وعشرين يوما، انتهت باستسلام بني قريظة ونزولهم عند حكم النبي فيهم، أيا كان حكمه. فأعطاهم النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يختاروا من أصحابه من يحكم فيهم، فاختاروا سعد بن معاذ، الذي كان حليفهم قبل الإسلام. وقد حكم سعد بأن يقتل المقاتلون من بينهم، فتم إعدام حوالي عشرين منهم، بينهم حيي بن أخطب، الذي كان هو الذي حزّب الأحزاب وجاء بجيشهم يريدون استئصال شأفة المسلمين. (وسننفصل الحديث في قضية بني قريظة والحكم فيهم في الفصل الثامن عشر).

أصبحت الدولة الإسلامية في مركز أقوى بكثير مما كانت عليه. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى المشركين قد انسحبوا: "الآن نغزوهم ولا يغزونا". ولكن هذا لم يكن في شيء من أولوياته. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستعدا لمواجهة أي خطر، أيًّا كان مصدره، ولكنه لم يكن يسعى لقهر أي قبيلة أو شعب. ولقد كان يسعده أن يرى الناس تفكر في الرسالة التي كان عليه أن يبلغها لهم، ثم يقرروا رأيهم على بينة من أمرهم، ولكنه لم يكن ليجبر أحدا على اعتناقها، فهو يعرف أن إرغام الناس على اعتناق الدين بالقوة أمر يخالف طبيعة الإسلام. وقد كان انتهاء المواجهة مع المشركين في الخندق إيذانا ببدء فترة من السلم النسبي بالنسبة للدولة الإسلامية، عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على تثبيت أسس المجتمع الإسلامي الذي قام في المدينة المنورة. فرابطة الأخوة التي كانت طابع ذلك المجتمع كانت أقوى لُحْمة من أي رابطة تربط بين ابناء أي مجتمع، يقوم فيه أي نظام أو عقيدة غير الإسلام. ومع تثبيت دعائم هذا المجتمع وتمتين رابطة الأخوة بين أبنائه، أخذت الدولة الإسلامية تزداد قوة وبأسا دون أن يدرك خصومها ذلك. ولهذا فقد استقبل المسلمون في المدينة بفرح وحماس غامرين ما أنبأهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنهم سيزورون البيت الحرام للعمرة.

سار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ألف وأربعمئة من أصحابه يقصدون مكة، وليس معهم من السلاح إلا السيوف في أغمادها، وهي العدة الضرورية لأي راكب في الصحراء. وساق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم الهدي لينحروه عند البيت عند انتهاء شعائر العمرة. وقد أزعج هذا الخبر قريشا إلى حد كبير. إذ بات عليهم أن يقرروا ما يفعلون إزاء مقدم المسلمين للعبادة، فهل يمنعونهم من الدخول أم يسمحون لهم، وإن منعوهم فهل ترى ذلك يؤدي إلى قتال؟ والمشكلة التي حيرتهم هي أنهم بحكم كونهم سدنة الكعبة لا يستطيعون أن يمنعوا من يقصدها للطواف والعبادة. ثم إن المسلمين جاؤوا في شهر ذي القعدة الذي يتوسط الأشهر الحرم، التي يحرم فيها القتال. وقد كان هذا تقليدا متعارفا عليه بين العرب، ورثوه من دين إبراهيم عليه السلام. وفي المقابل، فهم إن تركوا المسلمين يدخلون مكة ويطوفوا بالبيت في أمان، فإن ذلك سيؤخذ على أنه يميل بميزان القوى لصالح المسلمين. وبعد نقاش كثير قررت قريش أن تمنع المسلمين من دخول مكة أياً كانت النتائج. وبعثوا بقوة استطلاعية إلى خارج مكة لتشتبك مع المسلمين إن هم حاولوا الدخول عنوة. ولئن نشب قتال بين المسلمين وهذه القوة الأمامية، فإن إمداداتهم كانت جاهزة. وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قررت قريش فسلك طريقا وعرا بين الجبال ليتفادى لقاء القوة الأمامية التي بعثتها قريش لصده. غير أنه عندما وصل إلى الحديبية، قبل أن يدخل منطقة الحرم، بركت ناقته. وبذل أصحابه جهدا كبيرا في محاولة إنهاض الناقة، بيد أن ذلك لم يفلح، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه إشارة أن عليه أن يسعى للتوصل إلى ترتيبات سلمية مع قريش. فأعلن لأصحابه أنه سيقبل أي خطة تعرضها قريش لحقن الدماء ومنع الاقتتال.

أرسلت قريش عدة مبعوثين تطلب من المسلمين العودة من حيث أتوا، ولكن كل مبعوث أرسلته رجع إليها ينصحها أن تخلي بين المسلمين والبيت، فهم إنما جاؤوا للعبادة لا للقتال. ولكن قريشا رفضت كل هذا النصح. ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، رضي الله عنه، ليطمئن قريشا ويبين لها نية المسلمين، غير أن عثمان احتجز طويلا في مكة، وسرت إشاعة مفادها أنه قد قتل. وهنا أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بيعة الرضوان عاهدوه فيها على القتال حتى النهاية. وأدركت قريش أن احتجاز عثمان سيوردها مورد التهلكة فأطلقت سراحه، ثم بعثت سهيل بن عمرو ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم على ترتيب يرضي الفريقين. وقد نهج سهيل منهجا فيه الكثير من العجرفة، إذ حاول أن يفرض شروطا قاسية، غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل كل شروطه دون مناقشة. وقد استغرب أصحابه موقفه هذا كل الاستغراب، لأنه كان يستشيرهم في كل الأمور. والسبب الذي جعل النبي لا يستشير أحدا من أصحابه هو أنه كان يسير وفق ما أمره الله به. فتم الاتفاق على صلح يعرف باسم صلح الحديبية، وقد نصت شروطه على ما يلي:

1. توضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض.

2. من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه، رده عليهم.

3. من جاء قريش ممن مع محمد لم يردوه عليه.

4. إن بين الفريقين عيبة مكفوفة (أي تنطوي الصدور على ما فيها لا تبدي عداوة)، وأنه لا إسلال ولا إغلال (أي لا سرقة ولا خيانة.

5. من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

6. ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، فإذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب، السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.

عندما تم الاتفاق على هذه الشروط، حدث أمران كانت لهما آثار هامة. أولهما: أن قبيلة بني بكر أعلنوا دخولهم في حلف قريش بينما أعلنت قبيلة خزاعة دخولها في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الأمر الثاني فهو أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو وصل إلى الحديبية بعيد إتمام الاتفاق. وكان أبو جندل مسلما لم يتمكن من الهجرة لأن أباه حبسه. وقد تمكن من الفرار من محبسه، آملا أن يستطيع الانضمام إلى المسلمين. غير أن أباه طالب النبي بإعادته إليه فورا. وناشد النبي، صلى الله عليه وسلم، سهيلا أن يعطي ابنه حريته، فرفض وتعنت في الرفض. فبيّن الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي جندل أن المسلمين عند شروطهم في كل الأحوال والأوضاع، ولذلك فإنه لا يصح لهم إلا أن يردوه إلى أبيه، فأعيد إليه. وعاد المسلمون إلى المدينة من دون أن يكملوا عمرتهم. وقد شعر المسلمون بغم عظيم لما آلت إليه الأمور، غير أن النبي، صلى الله عليه وسلم، طمأنهم إلى أن الأمر سينتهي إلى صالحهم.

تم إقرار معاهدة الصلح في الحديبية قبل انتهاء السنة السادسة للهجرة بأسابيع قليلة (628 م)، وقد مثلت هذه المعاهدة نقطة تحول كبيرة بالنسبة لرسالة الإسلام ولأحوال الدولة الإسلامية. غير أن السياق التاريخي للأحداث يتطلب أن نتحدث أولا عن غزوة خيبر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين