نبي الرحمة (32)

عمرة الحُدَيْبِيَةِ ذي القعدة ٦هـ.

سبب عمرة الحُدَيْبِيَةِ:

بعد أن صد المشركون المسلمين عن المسجد الحرام ستة أعوام, أُرِي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، وهو بالمدينة، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر.

استنفار المسلمين:

واستنفر العربَ ومن حوله من البوادي ليخرجوا معه، فأبطأ كثير منهم، وغسل ثيابه، وركب ناقته، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم أو نُمَيْلَة الليثي، وخرج منها يوم الإثنين غرة ذي القعدة ٦هـ، ومعه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة، أو ألف وخمسمائة ولم يخرج معه بسلاح، إلا سلاح المسافر.

المسلمون يتحركون إلى مكة:

تحرك في اتجاه مكة، فلما كان بذي الحُلَيْفَة قَلَّد الهدي وأشْعَرَه وأحرم بالعمرة ، ليأمن الناس من حربه، وبعث عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش، حتى إذا كان قريباً من عُسْفَان أتاه عينه، فقال: إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعاً وهم مقاتلوك، وصادّوك عن البيت. واستشار صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وقال:(أترون نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله، أم تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟) فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجيء لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (فروحوا) فراحوا.

محاولة قريش صد المسلمين عن البيت:

قريش لما سمعت بخروج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عقدت مجلساً استشارياً، قررت فيه صد المسلمين عن البيت كيفما يمكن، فبعد أن أعرض صلى الله عليه وآله وسلم عن الأحابيش، نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشاً نازلة بذي طُوًى، وأن مائتي فارس بقيادة خالد بن الوليد مرابطة بكُرَاع الغَمِيم، في الطريق الرئيسي لمكة. وقد حاول خالد صد المسلمين، فقام بفرسانه إزاءهم يتراءى الجيشان، ورأى خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون فقال: لقد كانوا في غِرّةٍ، لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ثم قرر أن يميل على المسلمين- وهم في صلاة العصر- ميلة واحدة، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف، ففاتت الفرصة خالداً.

تبديل الطريق ومحاولة اجتناب اللقاء الدامي:

أخذ صلى الله عليه وآله وسلم طريقاً وعراً بين شعاب، وسلك طريق ثَنِيَّةُ المُرارِ مهبط الحديبية من أسفل مكة، تاركاً طريق الحرم الرئيسي الذي يمر بالتنعيم، فلما رأى خالد أنهم خالفوا عن طريقه انطلق يركض نذيراً لقريش.

وسار صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إذا كان بثَنِيَّةُ المُرارِ بركت راحلته، فَقالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ، فألَحَّتْ، فَقالوا: خَلَأَتِ القَصْوَاءُ، خَلَأَتِ القَصْوَاءُ، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ: (ما خَلَأَتِ القَصْوَاءُ، وما ذَاكَ لَهَا بخُلُقٍ، ولَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ، ثُمَّ قالَ:(والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إلَّا أعْطَيْتُهُمْ إيَّاهَا) ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثَمَد- حفرة- قليل الماء، فلم يلبث أن نزحوه، فشكوا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا.

بُدَيْلُ يتوسط بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقريش:

جاء بُدَيْلُ بنُ ورْقَاءَ الخُزَاعِيُّ في نفر من خزاعة، وكانت خزاعة عيبة- محل- نصح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، نزلوا أعدادَ - كثرةَ- مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إنا لم نجيء لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإنَّ قُرَيْشًا قدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ وأَضَرَّتْ بهِمْ، فإنْ شَاؤُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْنِي وبيْنَ النَّاسِ، فإنْ أظْهَرْ: فإنْ شَاؤُوا أنْ يَدْخُلُوا فِيما دَخَلَ فيه النَّاسُ فَعَلُوا، وإلَّا فقَدْ جَمُّوا، وإنْ هُمْ أبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ علَى أمْرِي هذا حتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، ولَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أمْرَهُ). قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشاً: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولاً، فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا، فبعثت قريش مِكْرَز بن حفص، فلما رآه صلى الله عليه وآله وسلم قال:(هذا رجل غادر) فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه فرجع إلى قريش وأخبرهم.

رسل قريش:

قال الحُلَيْس بن عَلْقَمَة من كنانة لقريش دعوني آته. فقالوا: ائْتِهِ فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قال صلى الله عليه وآله وسلم:(هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها)، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك. قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أرى أن يصدوا. فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته فقالوا: ائْتِهِ، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نحواً من قوله لبديل، فقال له عروة: أي محمد، أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الآخرى فو الله إني لا أرى وجوهاً وأرى أوباشاً من الناس خلقاً أن يفروا ويدعوك, فقال له أبو بكر: أمصص بظر اللات، أنحن نفر عنه؟ قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عندي لم أجزك بها لأجبتك. وجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومعه السيف وعليه المِغْفَرُ، فكلما أهوى عروة إلى لحية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخِّرْ يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرفع عروة رأسه وقال: من ذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أيْ غُدَرُ، ألَسْتُ أسْعَى في غَدْرَتِكَ؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء). وكان المغيرة ابن أخي عروة. ثم إن عروة جعل يَرمُقُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلاقتهم به، فرجع إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تَنخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلَّكَ بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدِّونَ إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

هو الذي كف أيديهم عنكم:

لما رأى شباب قريش الطائشون والطامحون إلى حرب، رغبة زعمائهم في الصلح، قرروا أن يحدثوا أحداثاً تشعل نار الحرب، فخرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبطوا من جبل التّنعيم، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أن محمد بن سلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعاً. ورغبة في الصلح أطلق سراحهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعفا عنهم {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}[الفتح:٢٤].

عثمان بن عفان سفيراً إلى قريش:

أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث سفيراً يؤكد لقريش موقفه وهدفه، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم، فاعتذر قائلاً: يا رسول الله ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مُبَلّغُ ما أردت، فدعاه، وأرسله إلى قريش، وقال:(أَخْبِرْهُمْ أَنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ وَإِنّمَا جِئْنَا عُمّارًا، وَادْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ). وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان. فانطلق عثمان حتى مر على قريش بِبَلْدَح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، قالوا: قد سمعنا ما تقول فانْفُذْ لحاجتك، وَقَامَ إلَيْهِ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَرَحّبَ بِهِ وَحَمَلَهُ عَلَى الْفَرَسِ وأجاره، وَأَرْدَفَهُ حَتّى جَاءَ مَكّةَ، وبَلَّغ الرسالة إلى زعماء قريش. فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت، لكنه رفض هذا العرض، وأبى أن يطوف حتى يطوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان:

احتبست قريش عثمان عندها- ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم ويُبرموا أمرهم، ثم يردّوا عثمان بجوابهم- وطال الإحتباس، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا نبرح حتى نناجز القوم) ثم دعا أصحابه إلي البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على أن لايفروا وبايعته جماعة على الموت، وأول من بايعه أَبو سِنان الأَسَدِيّ، وبايعه سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ على الموت ثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ صلى الله عليه وآله وسلم: بيد نفسه وقال: (هذه عن عثمان) ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه، ولم يتخلف عن البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له: جَدّ بْن قَيْسٍ. أخذ صلى الله عليه وآله وسلم هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذاً بيده، و مَعقِلُ بنُ يَسارٍ آخذاً بغصن الشجرة يرفعه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:١٨].

إبرام الصلح وبنوده:

عرفت قريش حراجة الموقف، فأسرعت إلى بعث سهيل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدت له أن يكون في الصلح أن يرجع عنا عامه هذا، لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً. فأتاه سهيل، فلما رآه عليه السلام قال:(قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل) فجاء سهيل فتكلم طويلاً، ثم اتفقا على قواعد الصلح وهي: ١-الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- يرجع من عامه، فلا يدخل مكة وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تتعرض قريش لهم بأي نوع من أنواع التعرض.٢-وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.٣- من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق.٤- من أتى محمداً من قريش من غير إذن وليه- أي هارباً منهم- ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد- أي هارباً منه- لم يردّوه عليه.

ثم دعا علياً ليكتب الكتاب، فأملى عليه (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل: أما الرحمن فو الله لا ندري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهم. فأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم علياً بذلك. ثم أملى: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك. ولكن أكتب محمد بن عبد الله فقال: إني رسول الله وإن كذبتموني، وأمر علياً أن يكتب محمد بن عبد الله، ويمحو لفظ رسول الله، فأبى علي أن يمحو هذا اللفظ، فمحاه صلى الله عليه وآله وسلم بيده، ثم تمت كتابة الصحيفة، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش.

رد أبي جندل:

بينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَنْدَلِ بنُ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ في قُيُودِهِ، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل: هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده. فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إنا لم نَقْضِ الكتاب بعد) فقال: فوالله إذاً لا أقاضيك على شيء أبداً. فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(فأَجِزْهُ لي). قال: ما أنا بمجيزه لك. قال:(بلى فافعل)، قال: ما أنا بفاعل. وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأُرَدُّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(يا أبا جندل أصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم). فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه، يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية.

النحر والحلق للحل عن العمرة:

لما فرغ صلى الله عليه وآله وسلم من قضية الكتاب قال: قوموا، فانحروا، فو الله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك؟ أخرج، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنَهُ، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّاً، ونحر صلى الله عليه وآله وسلم جملاً كان لأبي جهل، وكان في أنفه بُرَةُ-حلْقَةٌ- فِضَّةٍ، وهي ، ليغيظ به المشركين، ودعا صلى الله عليه وآله وسلم للمُحَلّقين ثلاثاً بالمغفرة وللمُقَصِّرين مرة. وأنزل الله فدية الأذى لمن حلق رأسه بالصيام، أو الصدقة، أو النسك.

الإباء عن رد المهاجرات:

جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهنّ أن يردهنّ عليهم بالعهد الذي تمّ في الحديبية، فرفض طلبهم هذا، بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصدد هذا البند هي:(وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته علينا) فلم تدخل النساء في العقد رأساً. وأنزل في ذلك {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} حتى بلغ {بِعِصَمِ الْكَوافِرِ} [الممتحنة:١٠]، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يمتحنهنّ بقوله تعالى:{إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً}[الممتحنة:١٢]إلخ، فمن أقرت بهذه الشروط قال لها:(قد بايعتك). ثم لم يكن يردهنّ.

وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم. فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. تزوج بإحداهما معاوية، وبالأخرى صفوان بن أمية.

ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة:

من سبر أغوار البنود لا يشك أنه فتح للمسلمين، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين، وتريد استئصالهم والحيلولة بين الدعوة الإسلامية والناس. والجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين والعجز عن مقاومتهم، والبند الثالث يدل على أن قريشاً نسيت صدارتها الدنيوية والدينية لا تهمها إلا نفسها، أما سائر الناس فلو دخلوا في الإسلام كلهم فلا يهمها. وهذا فشل لقريش وفتح مبين للمسلمين.

إنّ الحروب التي جرت بين المسلمين وأعدائهم كان هدف المسلمين منها هو الحرية للناس في العقيدة {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر}[الكهف:٢٩] وقد حصل هذا الهدف. ونجح المسلمون في الدعوة، إذ كان عددهم ثلاثة آلاف قبل الهدنة فصار جيشهم في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف. أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[التوبة:١٣] وكان مقصود دورياتهم العسكرية أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل الله، ووضعُ الحرب عشر سنين حد للغطرسة والصد، ودليل فشل من بدأ بالحرب وضعفه وانهياره. أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام، وهو فشل لقريش وليس فيه ما يشفيها سوى الصد لعام واحد. أعطت قريش الخلال الثلاث، وحصلت على خلة واحدة وهي البند الرابع، وليس فيها ضرر بالمسلمين، فالمسلم لا يفر عن الله ورسوله وعن مدينة الإسلام إلا إذا ارتد، فإذا ارتد فلا حاجة إليه، وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله) وأما من أسلم من أهل مكة فأرض الله واسعة، ألم تكن الحبشة واسعة قبل المدينة؟ وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً).

حزن المسلمين ومناقشة عمر مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:

هناك ظاهرتان عمّت لأجلهما المسلمين كآبة وحزن عند التفكير في عواقب بنود الصلح، الأولى: أنه كان قد أخبرهم أن سنأتي البيت فنطوف به، فماله يرجع ولم يطف به؟ والثانية: أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله وعد إظهار دينه، فماله قَبِل ضغط قريش وأعطى الدَنِيَّة في الصلح؟ وكان أعظمهم حزناً عمر بن الخطاب فجاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل؟قال:(بلى) قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال:(بلى) قال: ففيم نعطي الدَنِيَّة في ديننا، ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم، قال:(يا بن الخطاب إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ولن يضيعني أبداً) قال: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال:(بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟) قال: لا. قال:(فإنك آتيه وَمُطَّوِّفٌ به) ثم انطلق عمر متغيظاً فأتى أبا بكر، فقال له كما قال للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ورد عليه أبو بكر، كما رد عليه صلى الله عليه وآله وسلم سواء، وزاد: فاستمسك بغَرْزِه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق. ثم نزلت:{إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:١] إلخ. فأرسل صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال:(نعم). فطابت نفسه ورجع. ثم ندم عمر على ما فرط منه، قال: فعملت لذلك أعمالاً، مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً.

انحلت أزمة المستضعفين:

لما رجع صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، انفلت أبو بصير رجل من ثقيف حليف لقريش، كان يُعَذَّب في مكة فأرسلوا في طلبه رجلين وقالا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: الْعَهْدَ الذي جَعَلْتَ لنا، فدفعه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً. فاستله الآخر، فقال: أجل. والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد. وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال صلى الله عليه وآله وسلم حين رآه:(لقد رأى هذا ذُعْراً)، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قُتل صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير وقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذِمَّتكَ، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، قال رسول الله:( وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أَحَدٌ) فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة. وما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، فقدموا عليه المدينة.

إسلام أبطال من قريش:

في أوائل سنة ٧هـ. بعد الهدنة أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، ولما حضروا عند النبي صلى الله عليه وآله  وسلم قال:(إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها).

يتبع .......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين