الرجولة فن ولعب وهندسة - الرجولة
الرجولة.. فن ولعب وهندسة!
 
 
الشهامة، الجدية ، المسئولية، الاستقلالية... كلها مشاهد منفردة للوحة واحدة فقط لا تحمل اسم الموناليزا ولا أزهار الخشخاش إنما حملت اسم "الرجولة". ذلك الاسم الصفة الذي قلما توافر في أبنائنا .. حتى ظننا أن قصص بطولة فتيان صدر الإسلام ليست إلا أساطير الأولين.
"فمعاذ ومعوِّذ" الفتيان المسلمان اللذان ألحَّا على رسول الله للاشتراك معه في غزوة بدر وأصرا في المعركة على قتل أبي جهل عدو الإسلام، اللذان نالا شرف قتله بعد أن انقضَّا عليه وأوقعاه من فوق فرسه وجلسا على صدره وقتلاه، وأتيا رسول الله مباهيين بقتل أبي جهل الذي طالما عادى رسول الله وصحبه... تلك النماذج -وبغض النظر عن الزمان والمكان- ما سمعنا بشبيه لها في زمننا هذا، بل نلاحظ دوما أن الكثير من شبابنا غابت عنه سمات الرجولة، كما غابت عنه تلك المعاني السامية من بطولة وقيادة ومسئولية عالية، ذلك الحصاد المثمر الذي كان نتاجا طبيعيا لبذور تم غرسها في الصغر لتؤتي أكلها في الكبر.
تأنيث الرجولة
قد يظن البعض أن الرجولة مقتصرة على الذكور فقط، والحقيقة أنها حين ذكرت في القرآن في قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23] لم يقصد بها الذكور دون الإناث، فالرجولة وصف لم يخص به الله تعالى جنسا دون آخر، بل هو مصطلح نال شرفه كل من لم يخن أو ينافق أو يتملق، لقد منحه لمن صدق العهد مهما كان جنسه.
كذلك الحال في قوله تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) [النور:37]. فالرجولة هنا ثبات على الحق، ومسئولية واضحة، وعبودية لله وحده، وصمود أمام مغريات الدنيا وشهواتها، فلم تحدد تذكير أو تأنيث المخاطب، فكان الخطاب للعامة دون تخصيص.
الرجولة في الإعلام
أحدث الإعلام، وخصوصا الدراما التلفزيونية، لبسا بين معالم الأنوثة والذكورة ومعالم الرجولة، فغيرت الصور النمطية للذكر والأنثى وأصبح هناك نموذج ثالث، وهو ذلك المسخ الرجولي المؤنث (والعكس صحيح)، فألفت أعين المشاهد رجلا يشبه النساء في الملبس والطباع، وامرأة بدت مفتولة العضلات بصوت أجش. فإن كانت الحبكة الدرامية تدفع السيناريست والمخرج لذلك! فلماذا لا يلجئون إلى صنعات فنية أخرى تمكنهم من إظهار الرجولة بشكل جديد، كإبرازها في مواقف تتطلب الشهامة والصمود، أو مواقف الإصرار على حفظ الأمانة والوفاء بالعهود.
ومن هنا ندعو مؤسسات الإعلام لتقوم بالتوعية الإيجابية للمعاني الحقيقة للرجولة وإعداد حملات إعلامية لتوضيح مفهوم الرجولة ومعانيها وأنها لا تقتصر على الذكور دون الإناث، وأن الرجولة مواقف ومسئولية.
صناعة الرجال
بلغة الصناعة: "لن يلقى منتج جيد رواجا في الأسواق إلا بعد أن يحظى بالكثير من العناية والعمل الجاد حتى يتمكن من اكتساح باقي السلع المنافسة"، وكذلك الحال في التربية؛ فلن يحظى أبناؤنا بكل معاني الرجولة إلا بعد أن تغرس فيهم غرسا، ولن يؤتي الغرس ثماره إلا بعد أن يقوم الوالدان بعملهما من رعاية وإنماء وإثابة وعقاب، فالتربية لا تقتصر على الأوامر والنواهي فقط، بل تشمل قيما يتم غرسها في أطفالنا -ذكورا وإناثا - من خلال أغاني الأطفال، وقصص قبل النوم، وقصص البطولة المصورة، وأفلام الكارتون الهادفة.. فالتلقين والنصح المباشر لا يؤتي ثماره المرجوة أبدا؛ لذلك على الوالدين أن يعملا منذ الطفولة المبكرة لأبنائهم على ترسيخ وتأسيس هويتهم وتقويم أخلاقهم.
"أ. ب رجولة"
إن أول بذور الرجولة غرس المسئولية في الأطفال، كأن يلحقوا بعمل بسيط وخفيف في العطل الصيفية، أو يسند لهم بعض المهام كشراء الخبز للبيت يوميا، و تكليف الإناث بإنجاز بعض المهام المنزلية كغسيل الأطباق أو رعاية الأخت الصغرى.
كما أن أسلوب الخطاب نفسه لا بد من أن يتغير بعد أن يتجاوز الطفل الرابعة، فلا يُفرط  في تدليله، ويفضل أن يكنى بألقاب تشعره بأنه كبر سنا، فيزداد نضجه ويشعر بتقارب سنه للكبار. ولسنا بأفضل من رسول الله حينما كان يداعب طفلا قائلا له: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟" (طائر صغير كان يلعب به). ويدعم التكنية أسلوب الخطاب التعزيزي، كأن تفتخر الأم بطفلها مثلا، فتطلب منه فتح الباب لأنه رجل البيت في غياب والده.. وأن تطلب من طفلتها مساعدتها في تحضير العشاء. ويراعى ألا يطلب منهم أي تكليف أثناء في استغراقهم في اللعب أو تأديتهم لعمل يحبونه حتى لا يشعر الطفل بأن كونه ذكرا أو أنثى نقمة.
ومن المهم أن يستشعر الطفل كونه ذكرا والطفلة كونها أنثى، كأن ينهى الطفل عن الرقص والتمايل كالفتيات أو ارتداء القلادات أو اللعب بالدمى، وكذلك الحال مع الطفلة فلا يحبذ ارتداؤها للسراويل أو التحدث بصوت عالٍ أو اللعب بألعاب عنيفة، وعلى النقيض تماما يشجع الطفل على الصلاة في المساجد وحضور مجالس العلم وتشجع الفتاة على ارتداء الحجاب.
*إن من حق الأطفال على الكبار الاعتناء بهم والعطف عليهم وتقديرهم وسط مجالس الكبار، فعن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ فَقَالَ: يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ قَالَ: مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ". بالإضافة إلى تجنب إهانتهم خاصة أمام الآخرين؛ لأن في ذلك زعزعة لثقتهم بأنفسهم، بل علينا تشجيعهم على طرح أفكارهم ولو كانت بسيطة وساذجة، وقد يستشار الطفل ويؤخذ برأيه، ويستأمن على الأسرار.
* من الجميل أيضا أن تروى للأطفال نماذج البطولة، ففيها يتم غرس القيم وتوسيع المدارك وإنماء الطموحات. بالإضافة إلى منحه الوقت الكافي والمعتدل من اللعب؛ لأن في حرمانه منه استعجالا لنموه واختزالا لطفولته، وحين يشب وينمو سيكتشف أنه خسر طفولته ولم يربح رجولته.
* تزيد المقارنة والتبكيت، والإسراف في اللوم من انعدام ثقة الطفل بنفسه، بل يدفعه للتشكيك في قدرته واستضعاف شخصيته، فالتربية لن تتم بالزجر والردع وتوجيه الكلمات القاسية وإنما بالتعلم والتدريب برفق كما ورد في السنة النبوية.
* يصيب الإغراق في النعم الأبناء بالاستهتار واللامبالاة حتى لو كان دافع الوالدين ألا يحرموا أطفالهم مما حرموا منه في الصغر، فإذا أراد الآباء رجولة حقيقة فعليهم ترشيد النعم، بل الخشونة في المعيشة -بالشكل المعقول- حتى تتشكل ملامح الرجولة في أطفالنا من صبر ومثابرة وأهداف واضحة.
استثمار الرجولة
ينصح الوالدين بضرورة تدريب أبنائهم في الصغر على تحمل المسئولية، ومن أفضل السبل لتحقيق ذلك إلحاق الذكور بمعسكرات كشفية يتدربون فيها على تحمل مسئولية أنفسهم أولا ثم مسئولية فريق مكون من ثلاثة أطفال، يوكل الفريق لأحد الفتية الصغار ليكون مسئولا عنهم مأكلا ومشربا ومبيتا ونظافة، ثم يعاد تدوير القيادة على كل فرد في الفريق.
أما بالنسبة للإناث فتعد لهم معسكرات أيضا بعدد محدد من الساعات بعد الدوام المدرسي - في مدارسهن نفسها- على أن يتدربن على المهام المنزلية من طبخ وتنظيف وغسيل وكي وحياكة، وتعد لهن ورش عمل لضمان كفاءة وتركيز التدريب.
وسواء أكان المعسكر لذكور أم إناث فسيكون هناك مقابل مادي رمزي للجهة المنظمة ومكافآت وهدايا للصبية والفتيات لتشجيعهم على العمل الجماعي.
يعد تشجيع العمل التطوعي -كنوع من خدمة المجتمع- أحد الأدوار المنسية للمدرسة، فيقترح على المدارس إعداد ورش عمل للفتية والفتيات لتوعيتهم بماهية العمل التطوعي وأهميته، وواجبنا تجاهه، وطرح نماذج، وإشراك بعض الأطفال في بعض الأعمال التطوعية المناسبة لسنهم وجسمهم.
لتصنع على عيني
تظل الطفولة مصنعا للرجولة طالما كانت الصناعة من مبدأ قوله تعالى: "ولتصنع على عيني"، فإن سير القادة كالأنبياء والدعاة قد اكتملت بالقواعد القرآنية التي وضعها الله كمنهج تربوي يصلح لكل زمان ومكان.
يبقى أن يظل عالق في أذهان الوالدين أنهم يعدون جيلا جديدا من الضروري أن يبقى واعيا ناضجا مفطوما على الإسلام، منذورا لله، وأن صناعة اليوم لا بد من أن تناسب سوق الغد وإلا نالها الكساد والبوار لا قدر الله.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين