محمد صلى الله عليه وسلم شخصيته وصفاته (3)

خلاصة لأحـداث السـيرة النبوية -1-

كان محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، في الأربعين عندما جعله الله نبيا، وقد احتاج بعض الوقت ليطمئن إلى ما حدث ويدرك أبعاده. وقد كان لخديجة دور بارز في ذلك، فقد كانت على يقين أن زوجها – بكل ما له من صفات الاستقامة والأمانة والحكمة – لا يمكن أن يتعرض لشيء من عالم الشر. ثم مع الاطمئنان جاء الايمان، إذ آمن محمد، صلى الله عليه وسلم، بالله وحده لا شريك له، وبزيف تلك الأصنام التي كان العرب يعبدونها. وما أن استيقن له ذلك حتى جاءت المرحلة التالية إذ أصبح رسول الله المكلف أن يعرّف الناس بالدين الصحيح ويدعوهم إليه بحيث يقيموا حياتهم على أساسه. فقد أنزل عليه: "يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر."

كان أول الوحي "إقرأ"، وبما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ، فالأمر يعني أن يقرأ من حفظه، وهو أمر لم يكن له كبير تأثير على أحد غيره. ولكنه صدر له الأمر بعد ذلك أن يقوم فينذر، فلم تعد المسألة شيئا يقوم به بنفسه، وفي خاصيته، بل لا بد فيه من التعامل مع الغير إذ بات عليه أن ينذرهم ويبين لهم أن عليهم أن يؤمنوا بالله وحده، وأن يعبدوه لا يشركون به شيئا. وقبل محمد، صلى الله عليه وسلم، كلا الأمرين واضطلع بالمهمتين يجهد نفسه في أدائهما أقصى الجهد، ودعا الله أن يعينه في ذلك مطمئنا إلى أن العون منه سبحانه سيسهل كل صعب. وسار على النهج الذي هداه إليه ربه، فأخذ يخاطب الناس، يشرح لهم دوره ورسالته ويدعوهم إلى دين الإسلام، الدين الذي يدل اسمه عليه وأنه يعني إسلام المرء أمره إلى الله.

بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته سرا، كما أمره ربه، فكان يحدث من يتوسم فيه خيرا وتفهما، ومن يرى أنه محل للثقة، فما لبث أن أصبح له أسرة مؤمنة ضمت زيد بن حارثة الذي كان يناهز الثلاثين من العمر، وخديجة زوجته، وعلي بن أبي طالب، ابن عمه الذي كان قد ضمه إليه ليخفف عن عمه أعباء عائلته إذ كانت مكة تمر بضائقة اقتصادية. وكان أول من أسلم من خارج بيت النبي صديقه الأقرب إليه، أبو بكر الصديق. ثم انضم إلى هؤلاء عدد آخر من بينهم بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت أسد زوجة عمه أبي طالب، وأم أيمن، وعدد من الشباب من أمثال طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد. كذلك كان بين أوائل المسلمين عمار بن ياسر وأبويه ياسر وسمية. وهكذا تشكلت نواة المجتمع الإسلامي الأول. ومع أن الدعوة إلى الدين الجديد ظلت سرية، غير أن كبراء قريش أحسوا أن شيئا ما يدور في المجتمع. ولكنهم لم يحفلوا بالنظر فيه، إذ لم يخطر لهم أن ما يجري يمكن أن يشكل خطرا على نظامهم الاجتماعي القائم.

مرت ثلاث سنوات في الدعوة السرية، ثم صدر أمر الله تعالى إلى نبيه أن يبدأ دعوته العلنية مبتدئا بإنذار عشيرته الأقربين. ولئن استعرضنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها نجد أنه لم يتردد لحظة واحدة في القيام بما يأمره به ربه، بل يسارع إلى تنفيذ الأمر في أكمل صورة. ولهذا فقد ابتدأ بعشيرته بني هاشم، فدعاهم إلى غداء، وعرض عليهم الإسلام مظهرا حدبه عليهم وشفقته بهم، وبين لهم أنهم إن قبلوا دعوته فإنهم ينقذون أنفسهم من كل العلل التي يعانون منها في مجتمعهم الغارق في المادية، ويتطلعون إلى حياة سعيدة في الدار الآخرة، فهو الدين الذي يحقق سعادة الدنيا والآخرة. وخاطب النبي كذلك كل بطون قريش، فوقف على الصفا وخطبهم مبينا لهم أن الله سبحانه قد اختاره رسولا إليهم وإلى الناس كافة. وقد واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلتا الحالتين ردا قاسيا رافضا، وكان أشد الناس عليه في المرتين عمه أبو لهب.

لم تسفر هذه المجابهة عن مشكلة كبيرة في البداية، ولكن أشراف مكة لم يلبثوا أن أدركوا أن رسالة الإسلام أخذت تكتسب أتباعا من كل بطون قريش. وكانت رسالة الإسلام تؤذن بتغيير جوهري في نظام مجتمع قريش الذي كان يعطي سادة القبائل ميزات كبيرة، ويترك العبيد والفقراء والضعفاء تحت رحمة السادة. فالاسلام ينادي بإعطاء هؤلاء الضعفاء حقوقهم وبتوزيع عادل للثروة. والأهم من هذا أن الإسلام يهدد السلطة الدينية التي كانت قريش تتمتع بها في الجزيرة العربية كلها. ولم يكن أشراف قريش يستطيعون أن يعاقبوا محمدا، صلى الله عليه وسلم، على ما يقوم به، فهو يتمتع بحماية بني هاشم، ولم يكن أشراف قريش يريدون أن يؤدي الأمر إلى نزاع بين بطون قريش. ولذلك حاولوا الدخول في مفاوضات تهدف إلى إسكات دعوة الإسلام، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض كل عرض للتوقف عن دعوته، وانتهت المفاوضات إلى طريق مسدود، رغم المحاولات المتكررة. وفي كل مرة حاولت قريش التوصل إلى حل وسط كان الأمر يصل بها إلى مزيد من التصعيد في حملتها الاضطهادية التي انصبت على الضعفاء من المسلمين الذين لم تكن لهم حماية قبلية. وأصبح الجو الذي يسود مكة مشحونا بالتوتر، وازداد احتمال أن تقوم مجابهة تؤدي إلى سفك الدماء، إذ كان المتصلبون من كفار قريش ينادون صراحة بضرورة وضع نهاية لدعوة الإسلام. ثم في عام 615 ميلادية، أي بعد سنتين من الجهر بدعوة الإسلام، أو في السنة الخامسة للبعثة، أشار النبي على عدد من أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة، وقال لهم إن فيها ملكا عادلا لا يظلم عنده أحد.

كان عدد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة ثلاثة وثمانين رجلا وتسعة عشر امرأة، فأعطاهم ملكها النجاشي ما نسميه اليوم حق اللجوء والإقامة الآمنة. كان هؤلاء يمثلون نصف المجتمع المسلم في مكة عندها. وتوصف هذه الهجرة عادة عند كتاب السيرة وغيرهم من المؤرخين على أنها للفرار من الاضطهاد الذي كانت تمارسه قريش بحق المسلمين. غير أن نظرة متفحصة تراجع أسماء المهاجرين ومكانتهم في قبائلهم تظهر أنهم لم يكونوا المستهدفين بحملة الاضطهاد الواقع على المسلمين، إذ كان معظمهم ينتمون إلى أشرف العائلات القرشية فكانوا بذلك يتمتعون بحماية تصرف عنهم الكثير من العنت الذي كان يلقاه المستضعفون. ولم يكن هؤلاء يتعرضون للتعذيب الجسدي، بينما ظل أولئك المعذبون يقيمون في مكة. وهذا ما يدعونا إلى اعتبار الهجرة إلى الحبشة خطوة استراتيجية كانت تهدف إلى إنشاء قاعدة جديدة للإسلام تمكن الدعوة إليه فيها دون خوف من ظلم أو اضطهاد. وقد ظل بعض هؤلاء المهاجرين في الحبشة خمس عشرة سنة، امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما كان في وسعهم العودة للانضمام إلى المجتمع الإسلام في المدينة بعد أن هاجر إليها النبي وأصحابه عام 622 ميلادية. لقد عاد بعضهم، ولكن عددا من كبار الشخصيات المهاجرة، بمن فيهم جعفر بن أبي طالب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظلوا في الحبشة إلى أن استدعاهم النبي عام 629 م. وعندما عاد هؤلاء جاء معهم وفد كبير من المسلمين الأحباش، فزاروا المدينة وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لعل هذه الهجرة إلى الحبشة تفادت خطرًا كبيرا كان يتهدد الجماعة المسلمة في مكة، فقد ظل رؤساء مكة على عدائهم لدعوة الإسلام، ولم يكونوا على استعداد للاستماع للقرآن والنظر في ما كان النبي يدعوهم إليه، بل صبوا جام غضبهم على من كانوا يدعونهم إلى الاستجابة لدعوة الله. ولكنهم بعد هجرة من هاجر لم يعودوا يشعرون بأن الدين الجديد يتهدد نظام حياتهم. أما النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعرف أن الإسلام رسالة للناس كافة، وليست لأهل مكة وحدهم. ولذلك كان عليه أن يتوجه بها إلى دائرة أوسع، وسعى أول ما سعى إلى مخاطبة القبائل العربية في موسم الحج حيث كان يقصد مكة كل عام وفود من كل القبائل يقصدون الحج، فيعظمون الأصنام ويمارسون شعائر العبادة عند البيت الحرام. فقد ظل الحج أمرا مركزيا في حياة أهل مكة منذ أن بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأمر من الله جل وعلا فكانت أول بيت وضع للناس لعبادة الله ولكن العرب أدخلوا في دينهم تحريفا وبدعا ما أنزل الله بها من سلطان، وحرفوا شعائر الحج، فزادوا فيها ونقصوا، وأدخلوا فكرة الطواف وهم عرايا من ثيابهم. وعلى هذا فقد كان الحج يعطي فرصة للنبي صلى الله عليه وسلم، ليخاطب العرب من خارج مكة ويشرح لهم رسالة ربه. وكذلك كان العرب يقصدون مكة لزيارة البيت الحرام وتعظيمه في سائر أوقات السنة. وكان بعضهم يأتي معه بأشياء يتجر بها.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يلقى كل من يزور مكة ليعرض عليهم الإسلام. وكان العرب – بصورة عامة – يتقبلون فكرة الإله الواحد، على الرغم من مفهومهم عن الله قد تعرَّض للتحريف والتشويه على مدى طويل. ولم تكن للأصنام التي كانوا يعبدونها مع الله مكانة واضحة تمام الوضوح في تفكير العرب، فقد كانوا يعتبرون تلك الأصنام شركاء لله، أو مساعدين له، وكانوا يظنون أن تلك الأصنام تقربهم زلفى إلى الله. بل إن مفهومهم عن الله – جلّ وعلا – كان مشتبها عليهم، يرونه بعيدا غامضا. ولذلك فإن المفهوم الواضح الناصع الذي يقدمه الإسلام عن الله، سبحانه، ونفي الشركاء عنه كان جذابا للكثيرين منهم. غير أنه كانت هناك معوقات جعلت الكثيرين منهم يترددون في قبول الإسلام أو يمتنعون عنه.

عندما كان يقبل موسم الحج، كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يذهب إلى مضارب القبائل المختلفة، فيدعوهم إلى الله ويبين لهم طبيعة رسالة الإسلام وما يريده الله تعالى منهم. وقد كان رد الغالبية الكبرى منهم ردا عدائيا. فقد نظمت قريش حملة دعائية مضادة، فكانت ترسل أفصح خطبائها ليحدثوا تلك القبائل ويحذروهم من الاستماع لرسول الله. وقد أوضح هؤلاء لكل القبائل العربية أن قريشا تعتبر أي تقبل للإسلام عملا عدائيًّا موجَّها ضدها، بل تنذر بحرب ضد أي قبيلة تقبل رسالة الإسلام، وتؤمن بمحمد، صلى الله عليه وسلم. وكان خطباء قريش يرددون دائما الفكرة التي كان لها وزن كبير في المجتمع العربي القبلي، وهي أن محمداً هو ابن قريش وقريش أعلم به، فلو كان ما يدعو إليه صحيحا وخيّرا لكانوا أولى الناس به، ولما ترددوا في قبول دعوته. ففي النظام القبلي العربي كانت القبيلة تحنو على أفرادها، وكانت ترفع من شأن من يقدم لها ما يعزز من مكانتها. ولئن وقفت القبيلة موقفا صلبا ضد أحد أبنائها وما يدعو إليه فإن احتمالات نجاحه تصبح محدودة جدا. ولذلك فإن معظم القبائل العربية التي كان يحدثها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته أكثر تقبلا لما كان خطباء قريش يقولونه، وأحرص على أن يأخذوا بنصيحة قريش، بدلا من أن ينصتوا لما يدعوهم النبي إليه.

وبالإضافة إلى هذا نظمت قريش حملة مركزة لتشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم في أذهان مستمعيه، فكانوا يصفونه بأنه كذاب، وشاعر، ومجنون، وساحر، وعندما أدركوا أن رميه بكل هذه الصفات يعطي نتيجة عكسية، عقدوا مؤتمرًا للاتفاق على نهج واحد في ما يقولونه لوفود الحجيج. وقد استعرض المؤتمر كل هذه الخيارات وتبين لهم أنه ليس منها شيء يمكن يثبت لأي درجة من التمحيص والتفكير السليم. ثم اتفقوا أخيرا على أن يقولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه "ساحر جاء بكلام هو السحر يفرق به بين المرء وزوجه وبين المرء وأخيه وأهله." ولذلك كانت معظم القبائل تستمع إلى حديث قريش عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقرر أنها لا تريد أن تتعامل معه أو تستمع إليه. فقد كانت مصالحها مع قريش أكبر كثيرا من أن تضحي بها من أجل فرد يزعم أنه يتلقى وحيا من الله. وعلى الرغم من أن بعض القبائل استمعت إلى النبي وقرأ عليهم القرآن فعرفوا أنه ليس من كلام البشر، وعرفوا أن ما يدعو اليه النبي هو الخير المحض، فإن هذه القبائل لم تكن مستعدة للالتزام بالاسلام، إذ شعرت أن ذلك يلقي عليها مسؤوليات أكبر من طاقتها.

ومع ذلك فإن النبي، صلى الله عليه وسلم، ظل يستفيد من موسم الحج ليخرج بدعوته إلى سائر العرب، فقد كان يؤمن إيمانا لا يتزعزع بأن رسالته هي الحق من عند الله وأنها لا بد أن تنتصر. وكان مما يشجعه على مواصلة ذلك أنه ظل أفراد من القبائل العربية يقبلون دعوته ويعتنقوا الإسلام دينا. ومهما زادت قريش في حملتها الدعائية وكالت له من التهم، والأوصاف الباطلة التي وصفت بها رسالته، فقد ظل النبي، صلى الله عليه وسلم، يبشر بدعوته دون كلل ولا ملل. ولكنه كان يؤلمه أشد الإيلام أن يرى الضعفاء من المسلمين يتعرضون للتعذيب والضغط المتواصل ليرجعوا إلى الوثنية. بل إن بعض المسلمين من أبناء العائلات الكبيرة في مكة تعرضوا للسجن والتعذيب من قبل عائلاتهم نفسها.

ظل الوضع يزداد سوءا على سوء، فقد نجح المتصلبون من قريش في انتزاع زمام المبادرة وفرضوا عقوبات كبيرة على الذين تابعوا محمداً، صلى الله عليه وسلم، على دينه، بل أرادوا توسيع ذلك، ونجحوا في إلزام قريش كلها بفرض مقاطعة اجتماعية واقتصادية لبني هاشم، وكتبوا صحيفة بذلك تعاهدوا فيها على مقاطعة بني هاشم اجتماعيا واقتصاديا، فلا يبيعون لهم شيئا ولا يشترون منهم شيئا، ولا يزوجوهم ولا يتزوجون منهم، إلى أن يسلم بنو هاشم لهم محمداً، صلى الله عليه وسلم، ليقتلوه. وما كان بنو هاشم ليرضوا لأنفسهم بهذا الذل، ولذلك تكاتفوا جميعا، مسلمهم وكافرهم، وتحملوا المقاطعة بشجاعة وصلابة. وغني عن القول إن بعض أهل قريش لم يكونوا راضين عن هذه المقاطعة، ولكنهم كانوا مضطرين إلى تنفيذها كيلا يخرجوا عن تقاليد مجتمعهم القبلي. ولذلك استمرت المقاطعة ثلاث سنوات، حتى قام خمسة نفر من بطون عدة من قريش بعمل منظم استطاعوا به تمزيق الصحيفة وإنهاء المقاطعة.

عندما انتهت المقاطعة كانت السنة التاسعة للبعثة النبوية قد اقتربت من نهايتها، ولكن لم تبدُ على قريش أية بادرة تدل على أنها تخفف من غلوائها وعدائها لدعوة الإسلام. وظل أبو طالب ثابتا في موقفه، يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يناله سوء، ولكنه آثر أن يبقى على دينه. ولكن أبا طالب تقدمت به العمر، فما لبث أن اعتل بعد شهور قليلة. فمشى إليه أشراف قريش يطلبون منه أن يتوصل إلى اتفاق بينهم وبين ابن أخيه، فيأخذ لهم منه ويأخذ له منهم. غير أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضح أنه ليس له أن يغير شيئا من أمر الله، وأن عليهم أن يؤمنوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. كانت تلك آخر محاولة للتوصل إلى أي نوع من الاتفاق، ثم ما لبث أبو طالب أن توفي، ثم توفيت أم المؤمنين خديجة، رضي الله عنها بعيد ذلك، وبهذا فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرعاية والسند الذي كان يلقاه من عمه في حياته العامة، وفقد رعاية زوجته الحنون في المنزل. مما يعني أن الأمر قد اشتد عليه كثيرا.

فكر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يأخذ دعوته إلى مجالات جديدة، فسافر إلى الطائف، المدينة الجبلية التي تسكنها قبيلة ثقيف، إحدى كبرى القبائل العربية، فتحدث إلى أشرافها ووجهائها، وإلى أهلها، غير أنهم ردوا عليه أغلظ رد وأفظه. ثم ما كان من رؤساء القبيلة إلا أن أغروا به سفهاءهم وعبيدهم وصبيانهم، فآذوه وحصبوه ليخرجوه من بلدتهم، حتى دميت قدماه، فالتجأ إلى حديقة لعتبة وشيبة ابنا ربيعة، سيدا عبد شمس من قريش، وهما مشركان، ولكنهما أخذتهما الحمية القبلية من أجله، فأرسلا إليه غلاما لهما بقطف عنب. وعندما هدأ الأمر، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف عائدا إلى مكة، لكنه أحس أنه لا يستطيع دخولها دون حماية، فأرسل إلى بعض سادتها، فأجاره المطعم بن عدي، من أبناء عمومته. وقبل وصوله إلى مكة، جلس يفكر في أمره ودعا الله بهذا الدعاء الخاشع:

(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد، يتجهمني أم إلى عدو ملّكتَه أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك. لك العتب حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).

عندها جاءه جبريل عليه السلام ليقول له: إن الله قد استجاب دعاءه، وقال إن معه ملَك الجبال، يأمره بما شاء. فسلم عليه ملك الجبال وقال له: "إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا." ومرت سنين طويلة فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الموقف من أهل الطائف كان أشد ما لقيه من قومه.

وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليستأنف دعوته قومه إلى الله، ولكن قريشا شعرت أنه أصبح الآن أقل منعة، وأنه تستطيع أن تسلط عليه من الضغط ما لم تكن تفعل، فأضافوا إلى الهزء والسخرية والإيذاء اللفظي إيذاء جسديا في صور مختلفة، فألقوا عليه الأقذار وهو ساجد في صلاته عند الكعبة، وطالبوه بأن يثبت لهم أنه رسول من عند الله بتفجير الينابيع وتسيير الجبال، لا يردعهم شيء عن غيهم وضلالهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين