رحلتي إلى تركيا المتغيرة

 هذه خواطر كتبها الدكتور محسن عثماني الندوي
رئيس قسم اللغة الإنجليزية بمدينة حيدر آباد ( الهند )
حول جائزة الإمام قاسم الناناتوي


وقد تعرفت على هذا الأستاذ الفاضل في المؤتمر وأرسل لي هذه الانطباعات والخواطر
فأحببت أن يشاركنا القراء الكرام بالاستفادة منها
وإرسال آرائكم
مجد مكي
 
رحلتي إلى تركيا المتغيرة

الأستاذ الدكتور محسن عثماني الندوي

نرى تركيا الآن في استعداد لارتداء ثوب قشيب جميل، كانت تركيا مركزا للحكم العثماني حتى عام 1922م عندما تفككت الدولة السلجوقية فتكونت السلطة العثمانية بين القرنين الرابع عشر و السادس عشر، وأخذت بالتوسع حتى سيطرت على الإمبراطورية البيزنطينية و بلغارية وصربيا إلى أن توقف توسعها إثر هزيمة بايزيد الأول عام 1402م، تلت هذه الهزيمة فترة اضطرابات و قلاقل سياسية، استعادت الدولة توازنها و تواصلت سياسية التوسع في عهد مراد الثاني ، ثم في عهد محمد الفاتح والذي استطاع أن يدخل القسطنطنية سنة 1453م.
إن القسطنطنية يعني مدينة اسطنبول هي  المدينة الوحيدة التي كانت تتمتع ببشارة المغفرة من لسان النبوة لمن يفتحها، و كانت هذه المدينة قبل الفتح الإسلامي أكبر مركز للضلال والفساد على خارطة العالم، وكانت غارقة في عقائد فاسدة وتقاليد منكرة، وكانوا يتخبطون في المجاهل والضلالات, وظلت قطبا يدور حولها رحى المسيحية المعادية للإسلام، فإن الدين الإسلامي هو دين القوة والسطوة .
ولا يحب أن تمر القافلة الإنسانية تحت نظام الأباطيل والأضاليل، ولذلك نرى أن كتب الحديث حافلة بفضيلة الجهاد ولكن المسلمين قد رضوا بالهوان في هذا الزمان مع أن حكم صناعة الأسلحة ثابت من النص القرآني والحديث وبسبب هذه الغفلة أصبح العالم الإسلامي فريسة اعتداءات الاستعمار الغربي، ولا يتشجع أحد أن يقوم بمقاومته و بصدد هذا الذكر لغفلة المسلمين نتذكر قصة روسيا، لما هاجمت بخارى في بداية القرن الغابر، فإن أمير البلاد قد أصدر مرسوما بتلاوة "ختم خاجغان" وعندما كان الجيش الروسي يطلق ويقذف حجارة مدمرة للقلاع كان المسلمون مشتغلين في المساجد في أوراد "ختم خاجغان"، فالنتيجة ظهرت كما كان المتوقع في حرب توجد في جانب واحد الأسلحة المدمرة وفي جانب آخر سلاح "ختم خاجغان"، فنرى في هذا الزمان أن الاستعمار الغربي و الأمريكي يستهدف الدول العربية والإسلامية يلتهمها واحدا تلو الآخر، وإن بلاد المسلمين لا تتمكن من الذود عن أراضيها و استقلالها، فإن البلاد العربية مع كونها غنية بالذهب الأسود هي فقيرة في تصنيع التكنولوجية الحديثة والأسلحة الفتاكة.
إن السلطان محمد الفاتح عندما هجم على مدينة القسطنطنية في 1453م هجم باستعدادات وأهبة حربية وعسكرية تامة، إن المدفع الذي أعده لهذه الحرب كان أكبر وأضحم و أثقل مدفع على وجه الأرض ، وكان يستطيع أن يقذف صخرة ذات وزن مائة و ستين طنا على مسافة كيلومترين تقريبا، و كان السلطان محمد الفاتح معتمدا على نصرة الله واثقاً بنفسه ومتشوَّقا إلى أن يكون مصداقا للبشارة النبوية للمغفرة، فإنه قضى ليلة في الذكر والعبادة قبل شنِّ الهجوم على قلعة القسطنطنية وأصدر أوامر إلى جميع قواد الجيش الإسلامي ألا ينحرفوا قيد شعرة عن الشريعة الإسلامية، و كان أسطوله البحري لم يتمكن من دخول بحيرة مرمرة، لأن خليج قرن الذهب كان مشدودا بالسلاسل الحديدية حتى لا يتمكن أي أسطول حربي على أن يتوجه إلى مدينة القسطنطنية، فماذا فعل ذلك القائد الكبير ياترى؟ إنه بسط قِطعاً من الخشب على طريق البر، و طينه بالشحن وزلق خمسين زورقا حاملة المدافع إلى مقربة من باب القسطنطنية، ثم فتح هذه المدينة العظيمة وتم الاستيلاء عليها، وهي المدينة التي ظلت أكبر مركز وموضع مفخرة للمسيحية على وجه الأرض منذ أكثر من ألف سنة، وكان عمر ذلك القائد آنذاك لم يتجاوز واحداً وعشرين سنة ، ثم بدأت راية الخلافة العثمانية ترفرف على كثير من المناطق الأوروربية وكان المسلمون على وشك فتح العالم كله، ولكن الكنيسة الرومية كانت سدا منيعا أمام هذا السيل الجارف، فتورطت في المؤامرات ووضع العراقيل للفتوحات الإسلامية، و أخيرا جاء عهد مصطفى كمال المشؤوم، فألغى الخلافة العثمانية نهائيا فانكثمت القوة التركية وأصبحت بدون هيمنة و قوة لا يحسب لها حساب.
عندما تلقيت دعوة للمشاركة في مؤتمر في مدينة أسطنبول فإن الدعوة قد ألهبت عواطفى وأهاجت مشاعري وعندما زرت هذه المدينة أحسست أن الروح الإسلامية تعود مرة أخرى، وهذه كانت بارقة أمل لاستعادة المجد الغابر، إن الحكومة التركية في عصرها الأخير قد فرضت حظرا على استخدام الحجاب وغطاء الرأس للنساء، ولكن رأيت حوالي أكثر من خمسين في المائة من النسوة مغطيات رؤوسهن بالحجاب احتراما للشريعة الإسلامية، وربما يكون عدد المتحجبات في ضواحي المدينة وخارج إستنبول أكثر مكثر من هذه النسبة، فإن البلاد تعود إلى الإسلام من جديد.
لقد انعقد المؤتمر في فندق بعيدا عن صخب الأسواق وجلبة الناس، وكان يوم 24/ أكتوبر 2010م المصادف 16/ ذي القعدة 1431هـ يوما مشهودا في تاريخ هذه المدينة إذ أمَّ إليها مئات من العلماء الربانيين والمرشدين الروحانيين من مختلف بقاع العالم لتكريم الشيخ محمود آفندي النقشبندي الخالدي التركي، و قد منحت له جائزة الإمام محمد قاسم النانوتوي تقديرا للخدمات التي أسداها في مجال نشر الإسلام والروحانية وتزكية النفس وإصلاح الباطن  وإنشاء المدارس الدينية في ربوع تركيا وخارجها وقد تزايد إقبال الناس عليه أخيرا، و قد حضر لهذه المناسبة مجموعة كبيرة من الدعاة والمصلحين من الدول العربية والإسلامية بل من الدول الأوروربية، والعلمانية، فكانت فرصة طيبة للقاء والتعارف وتوثيق الصلات مع العلماء المسلمين من مختلف أنحاء العالم وكلهم كانوا يمتازون بميزة التزكية  والإحسان والتقرب إلى الله .
و كان من برنامج هذا المؤتمر أننا كنا ذهبنا لزيارة مسجد سيدنا أبي أبوب الأنصاري رضي الله عنه حيث يوجد ضريحه أيضا وكان توفي في جيش المسلمين الذي حاول فتح هذه المدينة في زمان حكم الأمير معاوية رضي الله عنه، كما قمنا بزيارة مسجد سلطان أحمد ومعلم أيا صوفيا ومتحف طوب كابي  ويحتوي هذا المتحف على الآثار الشريفة من العهد النبوي ومنها شعر من لحية الرسول صلى الله عليه وسلم و أسنانه وخاتمه ونعله سيفه كما يحتوي على سيوف الصحابة و جبة الحسين رضي الله عنه وإننا شاهدنا هذه الآثار بعين الحب والغرام والحيرة والهيام، وكان من حسن حظنا أننا زرنا هذه الآثار التاريخية، فكانت تلك السويعات المفعمة بالحب والحنان والروح و الإيمان أغلى وأحلى من الدهر كله، وكانت هذه الزيارة للآثار في حشد عظيم من العلماء و الدعاة بلغ المآت وجاب الحشد بعض الشوارع بين المعالم والآثار في موكب جليل مهيب وسط إعجاب الناس وذهولهم وتوقف السائحين الأجانب ومبادرتهم باستخراج آلات التصوير لالتقاط الصور، ورأيت بنفسي بعض النساء والفتيات التركيات يبكين فرحا واستبشارا بما رأين، وأقبل بعض الشبان والشيوخ الأتراك على تقبيل أيدي الضيوف المشاركين و الشيوخ الأجلاء رغم محاولات رجال الأمن منعهم .
لقد افتتح هذا المؤتمر الشيخ العلامة المفكر يوسف القرضاوي وكان أرسل كلمة مصورة لأنه لم يستطع السفر إلى إستنبول لموانع منعته وقت انعقاد المؤتمر  ،وقد ذكر في خطبته الافتتاحية الجياَّشة أهمية الاحسان والتصوف كما ذكر في خطابه قول الشيخ محمد المبارك من سوريا "إننا نريد أن تصوف السلفية كما نتمنى في نفس الوقت أن نسلف الصوفية"، والواقع أننا فقدنا هذا الاتزان في هذا الزمان، وبهذه الكلمة نستطيع أن ندرك طبيعة هذا المؤتمر واعتدال مزاج العلماء المشاركين من مختلف أقطار العالم و هم كلهم كانوا من المحبين للأولياء والعارفين ، ولقد أقضّ مضجع هؤلاء العلماء المشاركين التطرف وأقلقت بالهم محاربة التصوف النقي ،ولعل هذا المؤتمر كان أكبر مؤتمر من نوع يتسم بهذه الطبيعة الاعتدالية ساهم فيه أولئك العلماء الذين سمتهم الاتزان و إيلاء الأهمية للتصوف والإحسان والتزكية والعرفان والحديث والفقه المتوارث.
و من المحاضرات التي ألقيت لهذا المشهد العظيم كلمة المحدث المحقق الشيخ محمد عوامة حفظ الله ورعاه حول الحديث الشريف ، وسبل الحفاظ عليه من عبث العبثين وكيد المتآمرين . وكلمة الفقيه الشيخ عبد الله بن بية حول تأصيل علم التصوف ألقاها عنه الشيخ الدكتور أحمد جاب الله  القادم من فرنسا ، وكلمة الشيخ عبد الإله العرفج من السعودية حول تعدد المذاهب الفقهية ووحدة الأمة، وكان من المساهمين في هذا المؤتمر العالم الرباني ومفسر القرآن الكريم الشيخ محمد علي الصابوني وسماحة الشيخ الدكتور أسامه الرفاعي مفتي  بقاع لبنان، ولقد افتتحت بعض جلسات المؤتمر بتلاوة من المقرئ الشيخ ياسر بن المقرئ الشهير عبد الباسط عبد الصمد المصري رحمه الله، وقد قدم في هذا المؤتمر الشيخ مولانا خالد سيف الله رحماني مقالا عن سيرة الإمام محمد قاسم النانوتوي الذي تنتهي إليه رئاسة علوم الدين والجهاد من الإنكليز وإنشاء شبكة من المدارس الدينية وتحث عن أنشطته الإسلامية المختلفة، وعلى اسمه سميت الجائزة التي منحت للشيخ الكبير محمود آفندي النقشبندي حفظه الله، فإن مولانا قاسم النانوتوي يرجع إليه الفضل في النهضة الإسلامية بربوع الهند
و هيهات لا يأتي الزمان بمثله
 إن الزمان بمثله لبخيل
و لقد حضر هذا المؤتمر الشيخ محمد سالم القاسمي حفيد الإمام النانوتوي ، والشيخ أرشد المدني رئيس جمعية العلماء بالهند واكتمل الحفل بدعاء من فضيلة الشيخ محمد سعيد الأعظمي الندوي من الأساتذة الكبار في دار العلوم لندوة العلماء و  رئيس التحرير لمجلة البعث الإسلامي .
في ختام هذه الافتتاحية نشعر و نعترف أن رئيس الوزراء لبلاد تركيا رجب طيب اردغان يسير سيرا حثيثا نحو صياغة البلاد صياغة دينية وصبغها صبغة إسلامية ولكن بخطوات حكيمة، و إنه قد نال الشعبية الكبيرة من جراء سياسيه الرشيدة نحو تدعيم البلاد دعما اقتصاديا، ولقد حققت البلاد نجاحا باهرا غير مسبوق في مجال الاقتصاد خلال السنوات الخمس الماضية، فإن النمو الاقتصادي في تركيا مستقر ومتواصل بين ما نرى الاقتصاد الأمريكي في انحطاط وانهيار وحالة تركيا تتحسن الآن بشكل متواصل في الصناعة وتحديثها وفي مجال الصادرات كما شهدت العلاقة التركية العربية تطورا كبيرا في السنوات الماضية وعلى أصعدة عديدة، شاهدت في هذه الرحلة أن تركيا بدأت تتغير و ترترى ثوبا جديدا يسر المسلمين في العالم كله .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين