رجال ومواقف: جود عثمان بن عفان

اشتدت الضائقة بالمسلمين في المدينة المنورة، فقد شحّت الأقوات، وندر الزاد حتى صار لدى بعضهم كالسراب يتوهمه هنا وهناك ماءً عذباً فراتاً حتى إذا جاءه غلبه الهم والحزن، واستبد به القلق والضيق.

ثمة رجال يسيرون في الطرقات ذاهلين مرهقين، كل منهم يبحث عن شيء من القوت يُسكت به صراخ بطنه المتواصل، وهبْ أنه قادر على الاحتمال إلى حين.. كيف الأمر للصغار الجياع الذين لا يحتملون مثل الذي يحتمل من جهد وشدة ونصب!؟ كأن على ظهره سوطاً حاداً يلهبه ويشتد عليه، سوط الزوجة إذ تطلب الطعام، وسوط الأطفال إذ يتلقونه على باب المنزل وقد أضرّ بهم الجوع المتواصل العنيف.

لولا أن فيه رجولة تمنعه من البكاء لسارع إلى البكاء. إنه أبٌ مسؤول، لكنه لا يقدر على أداء حق هذه المسؤولية، وأنّى له ذلك وليس ثمة طعامٌ يشتريه مهما غلا الثمن وتضاعف. ولا بد أن بعض هؤلاء الجياع شكوا أمرهم إلى الخليفة أبي بكر، ولا بد أنه بذل صادق جهده كي يتدبره.. ولا بد أنه كذلك نصح هؤلاء بالصبر وانتظار الرحمة والفرج.

* * *

وتعاظم الأمر وتفاقم، وكانت أيام جدباء، شاقة مضنية، عجاف صعاب.. رأى الناس هولها بالعين، وكابدوه في حركة الأمعاء، وضجيج البطون الخاوية.

وطفق حديث المجاعة يفشو وينتشر هنا وهناك.. الأرض داكنة غبراء.. والقوت نادر عزيز، والبطون ترهق أصحابها، والطعام صار أمنية غريبة بعيدة، كأنها شبح يظهر ثم يختفي.. حتى بات كأنه قد اختفى من دنيا الناس، فلا يكاد يظفر به أحد. ويبحث الناس ثم يبحثون، ويدورون في ذهاب وإياب.. ويحتملون من العناء نصيباً مفروضاً صار حمله ثقيلاً ثقيلاً.. ويعودون آخر المطاف ليعتصموا بالصبر الذي نصحهم به والد شفوق ومسؤول وفيٌّ حنون.

والتجأ الناس إلى الرحمة التي لا تنقطع، والعون الذي لا يغيب، فكان دعاءٌ حارٌّ مخبِت، وكانت إنابة صادقة كريمة، وكانت ضراعة خاشعة مبتهلة. واجتاح الطمع المؤذي المهلك طائفة من التجار ذوي النفوس المرضى، فإذا بهم يُغالون في الأسعار، وإذا بالجشع يصل فيهم غايته، يريدون الثراء العاجل الظالم، ثراء من لا يبالي كيف يجتمع لديه المال، ولبئس ما اختار هؤلاء الطامعون لأنفسهم! ولبئس ما صنعوا!.

وذات يوم سرى في الناس نبأ حلو بهيج، كالحلم الذي يعطر قلب المحروم، كالطل يسقي النبات الظمآن، كالنسيم العليل يغدو بعد نهار صيف محرق، كالصحة توافي بعد مرض مزمن عضال، كالدفء يسري بعد صقيع طويل قاتل. قافلة كبيرة تحمل الأقوات على ألف بعير وصلت، فيها الزيت والزبيب، والسمن والحنطة.. وشتى أنواع المآكل التي صارت مثل ذكرى باهتة لدى بعض الناس.

* * *

وتساءل الناس: لمن هذه القافلة الضخمة الكبيرة!؟ وعلموا أنها لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فاطمأنت بذلك القلوب، وسعدت النفوس، فعثمان رجلٌ طيب، هينٌ ليّن، سمحٌ جواد، وتراكض التجار إلى عثمان في سرعة ونشاط، ولعلهم كانوا بالقافلة أشد فرحاً من الفقراء المعوزين، ذلك أن لكل مِنهم حساباته التي طفق يدبرها في ذهنه، ويتخيل الأرباح التي يمكن أن تعود عليه من وراء صفقة كبيرة كهذه، في ظرف خاص كهذا، ودخلوا على عثمان، يحدوهم ربح كبير، ويسوقهم حساب مالي ضخم.. ووقفوا بين يدي ذي النورين يريدون شراء بضاعته التي وصلت في الحال.

ورحّب ذو النورين بهم، وانبسطت أساريره فدفعوا له في كل درهم درهمين.. وانتظروا، يا للعجب! إنه لم يبادر إلى القبول، على الرغم من هذا الكسب الوفير، لكنّ انتظارهم لم يطل فقد سارعوا يدفعون له بالدرهم الواحد أربعة دراهم.

وامتلكهم العجب!.. إنه لم يقبل، بل قال لهم كما قال في المرة الأولى: "أُعطِيتُ أكثر".

وكأن ألسنتهم انعقدت من الدهشة!.. إنهم يعرفونه صادقاً لا يكذب، لكنهم يعرفون أنه لا يوجد تاجر متغيّب فكيف الأمر!؟ إنها لحيرة بالغة.. لكنها لن تدوم.

فإن حرص التجار على إنجاز الصفقة كان أكبر؛ لذا سارعوا يدفعون له بالدرهم خمسة دراهم.. وابتسم ذو النورين في هدوء.. وهو يقول: "أُعطِيتُ أكثر!". وسكت التجار وتلاحقت بهم الأنفاس، وسكتوا عن الزيادة وذو النورين هادئ ساكت، حتى إذا عَلِم أنه ليست لديهم زيادة يدفعونها قال في تواضعٍ وهدوءٍ وحياء: "فإني أشهِد الله أني جعلتُ ما حملَتْ هذه العيرُ صدقة على المساكين وفقراء المسلمين".

ومضى عثمان يوزع البضاعة، وهو فرحٌ سعيدٌ هانئ، والتجار صامتون واجمون.. لقد آثر الباقية الخالدة على الفانية العاجلة، وهزم دواعي الشح والحرص في نفسه، لتكون وديعته تلك قرضاً ينمو ويتضاعف عند رب العالمين.

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين