محمد صلى الله عليه وسلم (2) شخصيته وصفاته أربعـون ســنـة

محمد نبي الإسلام، صلى الله عليه وسلم، كان إنسانا عاديا. لا يختلف المسلمون في هذه الحقيقة، وما من مذهب إسلامي يعطي النبي مكانة ترقى به فوق مستوى البشر، ولا أحد يزعم أن له طبيعة غير بشرية. والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة ويكررها مع التأكيد على أنه النبي الذي اختاره ربه جل وعلا ليبلغ رسالته الخاتمة إلى الناس جميعا، لا ينقص منها شيئا، وهي الرسالة التي جاءت في القرآن، كلام الله المنزل على رسوله، والذي تكفل الله تعالى بحفظه كاملا خاليا من التحريف إلى يوم الدين. وهذا يعني أن القرآن الذي بين أيدينا اليوم هو ما قرأه محمد، صلى الله عليه وسلم، على أصحابه قبل أكثر من ألف وأربعمئة سنة، لم تتغير فيه كلمة واحدة. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معاني القرآن فشرح ما جاء مجملا، وفصّل ما احتاج المسلمون إلى تفصيله، وصحح ما أخطأ البعض في فهمه. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلوكه مثالا عمليا يحتذيه المؤمنون في حياتهم، إذ أعطانا السنة المطهرة التي هي من أساس الدين الإسلامي، فالسنة هي مذكرة تفسيرية للقرآن. والمسلمون يعتبرون السنة متممة للقرآن وإن لم تكن لها مكانته. وهي في واقع الأمر جزء من الوحي الذي تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه بكلامه، وهذا الوحي الذي جاء بكلام سيد البشر لا يقرأ في الصلاة.

عاش محمد بن عبد الله بين قومه أربعين سنة لم يعرف عنه أحد فيها أنه تحدث في أمور الدين والعقيدة، أو عن الله تعالى، أو عن مكانة الانسان، أو حتى عن القيم الخلقية والسلوك البشري. وإن كان قد فكر في أي من هذه الأمور فقد ظلت أفكاره تلك في نفسه، لم يحدث بها أحدا، حتى زوجه أو أقرب أصدقائه. لم يقل له أحد من أصدقائه أو أعدائه يوما: "أتذكر حديثك عندما كنت تكلمنا عن الدين أو عن الأخلاق"، ولم يقل أحد من معاصريه: إن الإسلام إنما كان صورة ناضجة لأفكار كانت تتردد في ذهن محمد ويعبر عنها في حديثه.

الأنبياء نوع خاص من البشر، إذ إن عليهم أن يدعوا الناس إلى الإيمان بالله، وأن يكونوا القدوة العملية لهم. ومن الأنبياء الكرام من لهم مكانة أعلى: أولئك هم رسل الله الذين يبلغون رسالاته إلى الناس. ومن هؤلاء تعلو مكانة كل من نوح وابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. وقد أرسل الله تعالى رسلا آخرين مبشرين ومنذرين، منهم من ذكرهم وشيئا من أخبارهم في القرآن الكريم، ومنهم من لم يذكر عنهم شيئا. وكل هؤلاء الأنبياء والرسل دعوا إلى الدين الواحد الذي يقوم على أساس توحيد الله تعالى، وبينوا للناس أن عليهم أن يسلموا له وحده، ويعبدون لا يشركون به شيئا. ثم اكتملت الرسالة الإلهية وجاءت في صورتها الخاتمة التي تخاطب الناس جميعا في كل الأجيال والعصور، وهي الرسالة التي جاء بها محمد، صلى الله عليه وسلم، مفصلة في القرآن الكريم والسنة المطهرة.

وفي هذا الكتاب إنما نريد أن ندرس شخصية محمد الإنسان، ولذلك لن أعرض لرسالته وتعاليمه إلا في إطار دراسة شخصيته. ولست أريد أن أبين العقيدة الإسلامية ولا أن أتناول مبادئها الأساسية. بل سأبدأ بعرض الخلفية الاجتماعية التي نشأ فيها محمد وترعرع، وأعرض المظاهر الثقافية في المجتمع الذي قضى فيه شبابه ورجولته، ثم أنظر في تطور شخصيته عندما أخذ يؤدي المهمة التي نيطت به وهو رسول الله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.

ولد محمد عام 570 ميلادية في مكة، أهم مدن الجزيرة العربية في ذلك الوقت. كان العرب يعيشون في كل أنحاء شبه الجزيرة، وفي فلسطين والأردن وجنوب سوريا وجنوب العراق. وكان مجتمعهم مجتمعًا قبليًّا يعتبر الولاء للقبيلة أهم رابطة تربط الناس. كان الفرد يعرف نفسه بأنه فرد من قبيلته، وكانت القبيلة توفر الحماية لكل فرد من أبنائها وتدافع عنهم. وكانت القبيلة تخوض حربا ضد القبائل الأخرى لخصومة فردية تنشب بين أبنائها. وفي هذه الحالات كان الحق والعدل يتأخران بينما يأتي الولاء للقبيلة في المكانة الأولى.

تختلف القبائل حجما، فبعضها كبير يتفرع إلى بطون عدة، وهذه البطون تعتبر نفسها أبناء عمومة، ولكنها مع ذلك تتسامى وتتنافس في الشرف والمكانة. ولكل بطن أو عشيرة استقلاله الذاتي، فالولاء دائمًا للدائرة الأضيق ثم الأوسع فالأوسع. بمعنى أن ولاء المرء الأول هو لبني أبيه، ثم لعشيرته، ثم لقبيلته. وكانت لكل قبيلة مكانتها التي تستمدها من تاريخها وأسلافها وقوتها العددية. بل إن القبائل الكبيرة تفخر بانتمائها إلى قبائل أكبر منها، حتى نصل إلى الانتماء الأعلى فالعرب جميعا إما عدنانيون أو قحطانيون.

عندما ولد محمد، صلى الله عليه وسلم، كانت قريش القبيلة التي تسكن مكة، ويقر لها العرب جميعا بالمكانة الأعلى والأسمى. وكانت قريش قد أزاحت من مكة قبيلة خزاعة، وقبل خزاعة كانت مكة موطنا لقبيلة جرهم. وكان محمد، صلى الله عليه وسلم، من بني هاشم الذين كانت لهم السيادة في قريش لأجيال عدة. حتى أن عبد المطلب، جد النبي، كان سيد مكة الذي تعترف له كل بطون قريش بالسيادة. وقد تعززت مكانته بين القبائل العربية بسبب وجود الكعبة في مكة، فالكعبة هي البيت الحرام الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وهي البيت الذي يحجه الناس تعبدا لله تعالى منذ بنائه.

ولد محمد، صلى الله عليه وسلم، في هذه البيئة الاجتماعية، وكان أبناء الأسر الكبيرة في قريش يدفعون بأطفالهم إلى مرضعات من البدو كنَّ يأتين يلتمسن الأطفال الرضع. فقد كان العرب يعتبرون أن نشأة الطفل في البادية أفضل له لينمو في جو صاف يشتد فيه عوده وتزداد قوته. وكانت العائلة البدوية التي تأخذ رضيعا تطمع في عطايا أهله. وعلى هذا فلم يمر وقت طويل بعد ولادة محمد حتى أخذته مرضعته حليمة، من بني سعد بن بكر، أحد فروع هوازن، لترضعه وترعاه.

عاملان اثنان كان لهما أثر كبير في حياة محمد بن عبد الله وهو ما يزال في سن الطفولة، أولهما: فقده أقرب الناس إليه، فزواج أبويه لم يدم سوى أسابيع قليلة، بعدها سافر أبوه في رحلة الصيف إلى الشام، وفي عودته مع القافلة مرض، فتركته القافلة في يثرب (المدينة) عند أخواله بني النجار يعتنون به، ولكنه ما لبث أن توفي في مرضه ذاك. أما آمنة، أم النبي، فقد توفيت بعد سنوات قليلة، حين كان محمد في السادسة من عمره. ووفاة الأم أمر جلل بالنسبة لكل إنسان، لا سيما إن كان طفلا، فكيف بمحمد الذي كان يصحب أمه في رحلتهما إلى المدينة يزوران قبر أبيه. المسافة بين مكة والمدينة تزيد على 450 كيلومترا، ولكن رحلة العودة لم تكتمل لأمه، فقد مرضت في الطريق، وعندما وصلت الأبواء، وهي قرية أقرب إلى مكة منها إلى المدينة اشتد عليها المرض فتوفيت. وبقي ابن السادسة في رعاية حاضنته، أم أيمن، التي عادت به إلى مكة، حيث ضمه جده عبد المطلب إليه، يرعاه، ثم ما لبث عبد المطلب أن توفي ومحمد في الثامنة من عمره.

هذا المسلسل من فقد الأقارب الأحبة لا بد أن يكون له أثر ضخم في حياة أي إنسان صغير السن. ولقد ظل محمد يذكر أمه طوال عمره المبارك. فبعد أكثر من خمسين سنة زار قبرها في الأبواء، وعندما وقف على قبرها ذرفت عيناه الدموع حزنا عليها. وذكر لأصحابه أنه استأذن ربه في زيارة قبرها فأذن له.[1]

وعندما سأله بعض أصحابه عما يذكره من أيام طفولته قال إنه يتذكر بوضوح وفاة جده عبد المطلب. كذلك ذكرت أم أيمن رضي الله عنها أنه بكى بكاء مرا عندما توفي جده.[2] وهذا يدل دلالة واضحة على عمق حزنه لفقد أولئك الذين أحبهم وأحبوه.

ولا شك أن فقدان هؤلاء الأحبة جعله يدرك وهو لا يزال طفلا أن الحياة تأتي بما تأتي به دون أن تضمن لأحد شيئا، فليس لأحد الحق في شيء سوى ما يعطى له. ولكنه بعد أن كبر وعرف أدرك أن هذا كله يرجع لأمر الله تعالى وإرادته، ويؤكد المعنى العميق أنه ليس لأحد أن يتوقع غير ما يمنحه الله له.

أما العامل الثاني الذي كان له الأثر الكبير في نشأة محمد، صلى الله عليه وسلم، وخلال سنواته الأولى فهو الحب الذي أحاطه به من حوله. فقد أحبته مرضعته حليمة وأسرتها حبًّا كبيرًا، ومما زاد في حبهم له أنهم سرعان ما أدركوا أنه طفل مبارك. ولم تشعر حليمة إطلاقا إن إرضاعها له إلى جانب ابنها كان عبئا عليها أو على صحتها. وعندما اكتملت رضاعته سنتين، أخذته حليمة إلى أمه آمنة، ثم طلبت منها أن تبقيه عندها مدة أطول فالبادية أضمن لصحة الطفل، وبيئتها تجعله أصلب عودا. فوافقت آمنة، وظل الطفل محمد عند حليمة حتى أتم الرابعة من عمره المبارك.

وفي مكة كان محمد، ابن الرابعة، في رعاية أمه الحنون، ترقبها عين جده عبد المطلب. إذ كان كلٌّ منهما يحس أن لهذا الطفل شأن خاص. ولذلك كان عطف عبد المطلب وحدبه عليه كبيرا، يعطيه ما لا يعطاه طفل في مثل سنه في المجتمع القبلي السائد في مكة وجزيرة العرب. ولعل ظروف مولده (أو ربما طبيعة ذلك الطفل) جعلت عبد المطلب، حكيم قريش العجوز، إحساسا بأن مستقبلا باهرًا ينتظر ذلك الطفل.

وفي الجزيرة العربية كان التنافس شديدا على الشرف والمكانة، ولذا ربما كان ذلك الشيخ الذي كان يناهز المئة من العمر يأمل أن يكبر ذلك الطفل فيزيد بني هاشم شرفا على شرف. ولكن ذلك الطفل فقد أمه وجده في غضون أربع سنوات من عودته ليعيش في مكة. وكان هذا يعني أن ابن الثامنة اضطر إلى الانتقال إلى منزل جديد، تحت رعاية جديدة، في كفالة عمه أبي طالب، الذي لم يلبث أن احتل مكانة سامية في مكة، إذ كان سيد بني هاشم. كان أبو طالب رجلا قليل المال وذا أسرة كبيرة، ولكنه كان نموذجا طيبا لسيد القبيلة في المجتمع العربي القبلي. إذ كانت مكانة أسرته، وعشيرته، وقبيلته هي موضع اهتمامه الأول. ولذا لم يكن محمد في نظره مجرد ابن أخ يتيم، بل كان لن يلبث أن يصبح شابا محمود الصفات، فقد رأى أبو طالب، بعينه الثاقبة، أن محمداً طفل ذكي يبشر أن يكون له مستقبل طيب، وكانت طبيعته الهادئة والمحببة تدل على أنه سيكتسب سجايا ترفع من مكانته، فلا يبعد إذن أن يواصل محمد في المستقبل التقليد الذي سار عليه أسلافه سادة قريش فيزيد مكانة بني هاشم رفعة بين العرب. وقد أحب أبو طالب ابن أخيه هذا كواحد من أبنائه، بل لعله أضاف إلى ذلك شيئا من المحاباة نظرا للظروف التي مر بها ذلك الطفل، وللبركة التي بدا أنها ترافقه.

في بيت أبي طالب كانت امرأتان تحوطان محمدا برعايتهما: فاطمة بنت أسد (زوجة أبي طالب)، وأم أيمن حاضنة النبي. فقد أغدقت كل منهما عليه حنان الأم الرؤوم. وعندما توفيت فاطمة بنت أسد بعد حوالي خمسين عاما، أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان عندها يحكم شبه جزيرة العرب كلها على تجهيزها ودفنها، وأعرب عن حزنه الكبير عليها، فقال يخاطبها: "رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعينني، وتعرين وتكسيننى، وتمنعين نفسك طيّبها وتطعمينني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة."[3]

كانت أم أيمن أمَة حبشية وصيفة لعبد الله، وقد ورثها ابنه محمد بعد وفاته. أما في التقاليد الإسلامية فلم يصفها أحد إطلاقا بأنها أمة، بل توصف دائما بأنها حاضنة النبي، صلى الله عليه وسلم. وكانت أم أيمن امرأة ملؤها الحنان، وقد شهدت النبي من يوم ولادته، وكانت رفيقته الوحيدة يوم وفاة أمه أثناء رحلة العودة من المدينة، وهو في السادسة من عمره، فعادت به إلى جده، فطلب منها عبد المطلب أن ترعى محمدا ولا تتركه يغيب عن عينها. ولم تكن بها حاجة إلى هذه التعليمات، فالطفل الموكول إليها كان أثيرًا لديها، وعندما كبر محمد، صلى الله عليه وسلم، عرف لها جميل صنعها وبادلها حبًّا بحب وعطفا بعطف. فعندما تزوج خديجة وهو في الخامسة والعشرين أعتقها وجعلها حرة. ثم بعد ذلك زوجها لزيد بن حارثة، أحب الناس إليه. فولدت له أسامة بن زيد، حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما بعث الله رسوله إلى الناس كانت أم أيمن وأهل بيتها من أول الناس إسلاما. وظلت تحظى بكريم معاملته حتى آخر أيامه، وكان يقول عنها: "هذه بقية أهل بيتي"[4] ويقول: "أم أيمن أمي بعد أمي".[5]

هذا يعني أن محمدا، صلى الله عليه وسلم، فقد أهله الأقربين، أبويه وجده، ولكنه لم يكن يوما بعيدا عن بيت عائلي يحظى فيه بالحب والحنان وعطف الأمومة. بل كانت هناك نساء عدة يحببنه ويعطفن عليه، فله ست عمات كلهن أحببنه.

عندما نمعن النظر في طفولة محمد، صلى الله عليه وسلم، وتربيته لا يمكن أن نخطئ أن الرعاية الإلهية كانت تحوطه دائما لتوفر له كل ما هو ضروري لبداية طيبة في الحياة. لقد فقد أحبَّ الناس إليه، ولكنه لم يفتقر أبدا إلى الحب والحنان. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف أثر وضعه هذا على شخصيته وتطورها. لا شك أن مواجهة الموت ومعرفة أثره في تلك السن المبكرة يجعله يتساءل عن الحياة ومعناها. ثم إن حياته في بيت عمه، حيث يعيش مع عدد من أبناء عمه، كان يجعله يحس، وهو المرهف الحس، أنه كان إضافة إلى تلك العائلة، ولكنه ليس من أبنائها. فكان إحساسه هذا يجعل إلى كل ما يؤثر على العائلة نظرة مبتعدة قليلا عما لو كانت أسرته المباشرة. وهو إذ شبَّ بينها كان أكثر استقلالا في تفكيره، وأعمق نظرة إلى أمور الحياة، ولن تكون نظرته إلى أبي طالب مثل نظرته إلى سائر أعمامه. كما إن وضعه هذا أعطاه إدراكا أفضل لوضعه في تلك العائلة ووسط عشيرته وقبيلته. ومن هنا نراه يتعلق بعمه أبي طالب عندما أراد أن يسافر إلى الشام في تجارة قريش، ويطلب منه أن يأخذه معه، رغم أنها رحلة لم يعتد أهل قريش أن يأخذوا معهم فيها من كان مثله في الثانية عشرة أو نحوها. بل إن أبا طالب فوجئ بطلب الفتى محمد وشعر أنه لا يمكن أن يأخذه معه، لكنه لم يحتج إلى كثير إقناع، وذهب ابن الثانية عشرة في رحلة عبر الصحراء إلى بلاد الشام.

روت مرضعته حليمة أنها عرفت البركة في حياة أسرتها من اللحظة التي ضمته فيها إليها، وقد تبدّت هذه البركة في رزق أسرتها. فالبدو يعيشون على ما تنتجه مواشيهم من غنم وبقر وإبل. وقد كانت أغنامها وماشيتها تدر الكثير من اللبن حتى أوقات الجدب عندما يخرج الرعاة بأغنامهم فلا يجدون الأرض الخصبة. وقد ربطت حليمة ذلك كله بمقدم ذلك الطفل إليها، ولهذا حرصت أن تبقيه معها عندما اكتمل رضاعه. وأحس أبو طالب بمثل ما أحست به حليمة، فقد لاحظ أنه عندما كان يحضر محمد العشاء مع أسرته، يأكل الجميع ملء بطونهم وربما زاد شيء من طعام، أما عندما يغيب محمد فلا يكاد الطعام يسد الأفواه الجائعة. ولذلك كان أبو طالب يأمر أولاده أن يؤخروا طعامهم حتى يحضر محمد. كانت تلك ملاحظة خفية لا يقوم عليها دليل محسوس، ولم يعط أبو طالب ابن أخيه ميزة خاصة نتيجة لها. بل ظلت حياة أبي طالب وأسرته تسير في نمطها العادي.

تكثر الروايات التي تدل على أن أكثر من كانوا يحيطون بمحمد، صلى الله عليه وسلم، أدركوا أنه سيكون له شأن كبير. فمن هذه الروايات رواية تشير إلى أن راهبا نصرانيا استوقف القافلة التي سافر فيها أبو طالب مصطحبا ابن أخيه إلى الشام وسأل الصبي أسئلة كثيرة، ثم نصح أبا طالب بأن عليه أن يحذر على ابن أخيه، وركز على ضرورة أن لا يعرف اليهود عنه ما قد عرفه بنفسه. ولكننا لا نملك وسيلة نتحقق بها من صحة هذه الروايات، فلم يذكر أولئك الذين شهدوا تلك الأحداث المروية عنها شيئا عندما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ رسالة ربه، ولهذا فنحن نأخذ هذه الروايات على ما هي عليه، ولا نأخذ منها دليلا نبني عليه فهمنا لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن جهة أخرى فإن النسوة اللاتي اعتنين بمحمد في طفولته كان له أثر في نظرته إلى الأمور. فآمنة، وحليمة، وأم أيمن، وفاطمة بنت أسد أغدقن عليه حبا صافيا، وقد ساعده ذلك في فهم دور المرأة في الحياة. وقد كان المجتمع الذي نشأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمعا يظلم المرأة، ويعاملها معاملة سيئة، ويعتبر منزلتها دون منزلة الرجل. وفي نظام ذلك المجتمع، كانت الأمَة ذات منزلة متدنية جدا. ولم تكن المرضعة تفضلها بكثير إلا من حيث كونها حرة، بل كانت كل النساء أحطّ مركزا. ولقد كانت رعاية محمد في طفولته من نصيب امرأتين ينظر المجتمع العربي إليهن باستعلاء، وهما حليمة وأم أيمن، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف أنه مدينٌ لهما بالكثير. ولذلك لم يكن صعبًا عليه بعد أن أصبح رسول الله أن يؤكد بكل قوة على أن النساء شقائق الرجال، لهنَّ مثل ما لهم. وظل حتى الساعة الأخيرة في حياته المباركة يؤكد حقوق النساء في كل صور التوكيد. وكان كثيرًا ما يردد تحذيره لأصحابه وللمسلمين من ظلم المرأة واليتيم، وحرمانهما من حقوقهما، فالمرأة واليتيم يمثلان العناصر الأضعف في المجتمع الإنساني.

ظل محمد، صلى الله عليه وسلم، يعيش مع عمه حتى أصبح شابا رجلا، ولكن عمه كان رجلا فقيرًا رغم علوّ مكانته في قومه. فقد كانت مكة تمر بفترة صعبة، ويبدو أنه لم يكن موفقا في تجارته، ثم إن عائلته كبيرة، مما زاد صعوبة أحواله. ولذلك فعندما عاد محمد من رحلته إلى الشام مع عمه كان يحس أنه لا بد أن يساعد عمه فيحمل عنه شطرا من العبء، فيعمل، لكن العمل كان قليلا في مكة في تلك الأيام، إذ لم تكن هناك زراعة في مكة، فهي مدينة تحفها الجبال الجرداء من كل جانب، والأمطار فيها قليلة شحيحة. كما أن المجتمع المكي كان يعتبر العمل اليدوي، أيًّا كان، غير لائق بفتى عربي حر، فضلا عن أن يليق بشاب من أسرة عريقة، فكيف بأسرة عبد المطلب، أشرف أسرة في بني هاشم الذين هم أشرف بطون قريش، وقريش أشرف القبائل العربية؟ كان العمل اليدوي مقصورا على العبيد والموالي. وكان ازدهار مكة يعتمد على أمرين اثنين: التجارة، ومكانة الكعبة، بيت الله الحرام. إذ كان العرب يقصدون الكعبة طوال أيام السنة، أما في موسم الحج فيقصدها منهم الآلاف. فما العمل الذي يليق بعربي في باكورة أيام الشباب؟ كان العمل الوحيد الذي يليق بمن كان في سن محمد تلك الأيام سوى رعي الغنم. ولذلك عمل محمد، صلى الله عليه وسلم، راعيا لبعض أهل مكة مقابل دريهمات يساعد بها عمه ويخفف عنه عبء أسرته الكبيرة.

رعاية الغنم تعطي الانسان وقتا كبيرًا للتأمل والتفكير، فهو عندما يأخذ أغنامه إلى المرعى يتركها ويرقبها من قريب، كي لا تشرد أي منها، فيأكلها ذئب أو يسرقها إنسان عابر. وكان هذا العمل يلائم طبيعة محمد، صلى الله عليه وسلم، الهادئة الوديعة، ويلائم وضعه في بيته الذي كان يقف فيه نائيا قليلا إلى الجانب. وهو لم يحدثنا عن هذه السنوات ولم يذكر لنا أين كانت أفكاره تذهب به. ولكنه ذكر لنا أمرا مهما، وهو أن كل الأنبياء عملوا في رعاية الغنم في شبابهم. ترى هل هذا العمل كبير الفائدة في إعداد المرء لدوره المقبل عندما يتلقى النبوة؟ يذكر رعاة الإبل أن لكل جمل شخصيته التي تميزه عن أقرانه. فهل ينطبق هذا على الغنم كذلك؟ إن الراعي الذكي والمتبصر ينظر إلى قطيعه كأفراد، ويميز كل فرد منها بملامح خاصة. والتفكير والتدبر الهادئ يهيئ لهذا الراعي الذكي أن ينقل ذلك إلى المجتمع الواسع، ويفكر في الملامح والصفات التي تميز شخصية الإنسان وتؤثر فيها. ولعل ما يتيحه رعي الغنم من فرصة للراعي للتفكير في شأن الإنسان، والحياة، والأهداف، والمصير هو ما يجعل هذا العمل بطبيعته كبير الفائدة في إعداد النبي لتحمّل الأعباء الكبيرة التي ستناط به عندما يتقلد دوره نبيا يدعو الناس إلى الله.

دور النبي دور خاص جدا، وما من تجربة في حياة الإنسان يمكن أن تجعل أي شخص مستعدا للقيام به. وما من أستاذ أو معهد علمي يمكن أن يوفر تدريبا يساعد عليه. ولكن الله – سبحانه وتعالى – هو الذي يصطفي أنبياءه، وهو الذي يهيئ لهم الإعداد الكافي لدورهم. وبدون هذا العون والإعداد والهدى لا يمكن لأي إنسان أن يستوفي المتطلبات الخاصة التي يحتاجها لهذا الدور أو أن ينجح في القيام به. ولقد بدأ إعداد محمد للقيام بدوره العظيم في مرحلة مبكرة من حياته. فقد بين ذات يوم سبب بلاغته التي كان يتفرد بها في مجتمع يعطي البلاغة والبيان أعلى المراتب بين المواهب الانسانية، فقال إن ذلك يرجع إلى عاملين اثنين: أنه من قريش ونشأ في بني سعد بن بكر. ولذلك نعرف أن بقاءه مع حليمة حتى سن الرابعة كان جزءا من إعداده لمسؤولياته المقبلة، فالطفل إنما يكتسب اللغة في السنوات الأولى من حياته. وهذا ينطبق على ما قام به في حياته العملية، ولا سيما عمله في رعي الغنم.

لا نعرف بالضبط كم سنة ظل محمد، صلى الله عليه وسلم، يرعى الغنم، ولكننا نقول: إن الأغلب أنه ظل في هذا العمل سنوات المراهقة، وربما تجاوزها. وقد نشأ هذا الشاب في مجتمع متحلل في نظرته الخلقية إلى الممارسات الجنسية، ولا شك أن محمدًا سمع من أقرانه الشيء الكثير عن مغامراتهم في هذا الجانب، وكان طبيعيا أن تحدثه نفسه أن يجرب حظه، فيستمتع كما كانوا يستمتعون. وقد ذكر من بعد أنه خطر له هذا الخاطر مرتين، فطلب من زميل له أن يحرس له أغنامه بينما ينزل هو إلى مكة يطلب فيها شيئًا من المتعة. ولكنه في كلتا المرتين وقف أمام دار من دور مكة فيه غناء إذ كان يقام فيه عرس، ولكنه لم يلبث أن غشيه النعاس فنام نوما عميقا ولم يصح إلا على أشعة شمس النهار. وبيّن لأصحابه أن ذاك إنما كان من حماية الله تعالى له، إذ صرف عنه السوء والفحشاء.

حدثت عدة أمور في تلك الآونة، فقد روى النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتُني في غلمان قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شُدَّ عليك إزارك، فأخذته وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي"[6] وقد حدث ذلك مرة أخرى بعد سنين كثيرة، عندما جددت قريش بنيان الكعبة فقد روى البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له العباس عمه: يا ابن أخي، لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك دون الحجارة. فحله فجعله على منكبيه، فسقط مغشيا عليه، فما رئي بعد ذلك عريانا."

ولعل أهم من هذا في باب حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعمال التي لا تليق به هو صرفه عن كل ما هو شائن في أمور العبادة. فقد كان العرب يعبدون الأصنام، ويزعمون أن آلهتهم تلك شركاء لله – تعالى الله عن كل ما كانوا يزعمون. ولقد كان محمد، صلى الله عليه وسلم، يكره الأصنام كراهية فطرية، يدرك أنها ليست سوى أشياء يصنعها البشر، لا تملك لأحد ضرا ولا نفعا. ولكن الناس يعتادون ما نشؤوا عليه، ويمارسون عادات قومهم، ولا سيما في المناسبات الاحتفالية، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم وقاه الله تعالى من كل ما هو قبيح في تلك الممارسات. روت أم أيمن رضي الله عنها:

"كان ببوانة صنم تحضره قريش تعظمه، تَنْسُك له النسائك (أي تذبح له الذبائح)، ويحلقون رؤوسهم عنده، ويعكفون عنده يوما إلى الليل، وذلك يوما في السنة، وكان أبو طالب يحضره مع قومه، وكان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد مع قومه فيأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. حتى رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا. وجعلن يقلن: ما تريد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثّر لهم جمعا. فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع إلينا مرعوبا فزعا. فقالت له عماته: ما دهاك. قال: إني أخشى أن يكون بي لمم. فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت؟ قال: إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك يا محمد، لا تمسه. فما عاد إلى عيد لهم حتى تنبأ."[7]

ولكن محمدا شارك في كل ما هو طيب ونبيل في حياة قومه، فقد كان في الخامسة عشرة أو نحوها عندما شارك مع أعمامه في حرب الفجار التي استمرت أربع سنوات، وسميت بهذا الاسم لأن بدايتها كانت في الأشهر الحرم التي يمتنع فيها القتال. كانت حرب الفجار بين قريش وقيس عيلان، ثم عندما انتهت شارك النبي في عقد حلف الفضول الذي كان حلفا فاضلا التزمت فيه قريش بأن تقف صفا واحدا في نصرة أي إنسان يتعرض للظلم في مكة، سواء كان من أهلها أو من غير أهلها.

كان النبي عند عقد حلف الفضول في حوالي العشرين من عمره المبارك، وكان يتطلع إلى عمل جديد، وكانت التجارة عماد اقتصاد مكة وحرفة أهلها. وقد ابتدأ النبي عمله في التجارة كوكيل لامرأة تاجرة مشهورة تدعى خديجة بنت خويلد، إذ كانت أرملة ثرية لها تجارة في أسواق العرب المعروفة. وقد عمل لها محمد، صلى الله عليه وسلم، في سوق حباشة، وكان له شريك يعمل معه. ويبدو أن عمله كان يدر عليه دخلا متواضعا، غير أن الفرصة الأفضل التي يمكن أن يجدها شاب في مثل سنه كانت في السفر مع قافلة قريش التجارية كوكيل لأحد كبار التجار في مكة. وكانت خديجة بحاجة إلى وكيل يسافر في رحلة الصيف إلى الشام، وكانت خبرتها في عمل محمد، صلى الله عليه وسلم، لها تشجعها على أن تسند إليه هذه المهمة، ففعلت، وحقق محمد لها ربحا طيبا في جانبي الرحلة، سواء في بيع ما سافر به إلى الشام أو ما عاد به منها. ولا تذكر الروايات إن كان محمد قد سافر أكثر من مرة في تجارة خديجة ولكن عمله التجاري كان مشجعا جدا. وقد أرسلت خديجة معه خادمها ميسرة، فقدم لها ميسرة تقريرا وافيا عن أمانة محمد ونزاهته وخلقه وبصيرته التجارية.

كثر خطاب خديجة، الأرملة الثرية، وبينهم من كانت له مكانته الاجتماعية السامية، ولكنها رفضتهم جميعا. غير أنها بعد أن عرفت محمدا تبينت أنها قد وجدت ضالتها والرجل الذي لن تندم على الزواج منه. وسعت خديجة إلى عرض الزواج على محمد بطريقة لطيفة لا تحرج أحدا، وسرعان ما تم الزواج.

ويرد في بعض الروايات أنَّ محمدا كان في الخامسة والعشرين بينما كانت خديجة في الأربعين، ولكن ذلك أمر يعتريه شك كبير. فقد ولدت خديجة في هذا الزواج ابنين وأربع بنات خلال مدة لم تتجاوز عشر سنوات، مما يعني أنها كانت في ذروة مدة الخصوبة والصحة الإنجابية، وهذا يعني أنها لم تكن تزيد كثيرا على الثلاثين بحال من الأحوال، وتذكر الروايات أرقاما أخرى لعمرَي النبي وزوجه عند زواجهما، وقد ورد عن ابن عباس: أن خديجة كانت في الثامنة والعشرين، ولعل هذا أقرب إلى الحقيقة بالنظر إلى عدد أولادها من هذا الزواج.

كان هذا الزواج موفقًا وسعيدًا، وواصل محمد، صلى الله عليه وسلم، العناية بتجارة خديجة فعاش معها حياة مستقرة لا ينقص الأسرة فيها شيء تطلبه. وكان محمد، صلى الله عليه وسلم، زوجا مثاليا، وكانت خديجة زوجة محبة تحرص على رعاية زوجها وأولادها، لا سيما وأنها عرفت أن اختيارها كان موفقا، فزوجها رجل كريم نبيل، نال احترام قومه لأمانته وطباعه الطيبة.

لعل من المناسب هنا أن نحاول معرفة أي نوع من الرجال كان محمد، رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما من حيث صفاته الشخصية فلدينا وصف مفصل، وأصح الروايات في هذا ما ورد في الصحيحين، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنه خَلقا، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير." وعنه أيضا: "كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعا، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئا قط أحسن منه." وسئل البراء: "أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر."[8] ومن الأوصاف التي وردت نعرف أنه كان ضخم الرأس، واسع الجبين، دقيق الحاجبين وفي حاجبيه تقوس مع طول في طرفيهما، ولم يكن أقرن الحاجبين. شديد سواد العين في شدة بياضها، طويل شعر الأجفان، أسيل الخد، في أنفه طول مع رقة أرنبته وحدَب في وسطه، ضليع الفم مع تناسب حسن في شفتيه، وروى مسلم عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان من أحسن الناس ثغرا"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسفر الوجه، مشربا بحمرة، وقالت عنه أم معبد إنه كان ظاهر الوضاءة، ولم يكن أجعد الشعر ولا سبطا، وتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. إذا مشى تقلع كأنه يرفع رجليه من الأرض رفعا قويا، كأنما يمشي في موضع منحدر، وكان إذا تحدث إلى إنسان التفت إليه بكل وجهه، وإذا استدار استدار بجسمه كله. دائم الابتسامة التي توحي بالثقة. وكان وسيما يرتاح إليه من يحادثه، وله رائحة طيبة، فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شممت ريحا قط – أو عَرْفاً قط – أطيب من ريح – أو عَرْف – النبي صلى الله عليه وسلم."

أحبه الناس لأدبه وكريم أخلاقه، فلم يعرفه أحد إلا وامتدح سلوكه. وكان بنو هاشم يشعرون أنه سيحقق مستقبلا باهرا، ولم يعرفوا عنه شيئا يخالف ذلك. أما في مجتمع قريش الأوسع، فكان يحظى باحترام كبير لكريم أخلاقه، فلقبه قومه "الأمين" لما عرفوا فيه من عظيم الأمانة، بل إن تلك صفة أقر بها أعداؤه، حتى أن من كان يتمنى موته يقر بأنه لم ينكث وعدا ولم يقل كذبا.

كذلك كان الناس يعرفون منه الكرم في كل حين. والذين عرفوه عن قرب كانوا يعرفون أنه يهتم بأمر الناس، ولا سيما من كان ضعيفا يحتاج إلى العون. وما فعله من أجل زيد بن حارثة وأبيه يعطينا نموذجا طيبا عن كريم معاملته حتى للغريب، فقد كان زيد صغيرا عندما أغار قوم على ديار أهله وأخذوه معهم، ثم باعوه عبدا رقيقا، ويبدو أنه بيع أكثر من مرة حتى انتهى أمره في مكة، جاء به عم خديجة فأهداه لها، ثم أهدته خديجة لزوجها عند زواجهما. كان زيد في ذلك الوقت فتى مراهقا. وعرف أبوه أن ابنه أصبح في مكة، فجاء يريد استرجاعه. وقابل حارثة وأخوه شراحيل محمدا وحدثاه بغايتهما وطلبا منه أن يحسن لهما في فدائه. لكن محمدا، صلى الله عليه وسلم، لم يرد أن يبيع زيدا لأبيه وعمه، بل عرض عليهما أن يدعوه فيخيره بين أن يذهب معهما أو يبقى معه، فرضيا وهما لا يشكان أن زيدا سينضم إليهما، وكانت دهشتهما كبيرة عندما اختار زيد أن يبقى مع محمد، صلى الله عليه وسلم، وسألاه كيف يفضل حياة العبودية، فقال: إنه رأى من محمد ما يجعله لا يريد فراقه أبدا. فما كان من محمد، صلى الله عليه وسلم، إلا أن أعتقه وتبناه كابن له، تطييبا لخاطر أبيه وتأكيدا له أن زيدا سيكون موضع رعايته. وكان ذلك قبل الإسلام.

وإذ كبر محمد، صلى الله عليه وسلم، أصبح معظم الناس يعرفون منه الحكمة في معالجة الأمور. وقد احتاجت قريش إلى تجديد بناء الكعبة، وعندما اكتمل بناؤها، أرادوا وضع الحجر الأسود في مكانه، فأراد كل بطن من بطون قريش أن يكون لهم هذا الشرف. واشتجروا واختلفوا، ثم تحالف بعضهم ضد بعض، وأعدوا للقتال. "فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا، وتناصفوا، فأشار عليهم أبو أمية بن المغيرة، وكان أكبر القوم سنًّا، أن يحكّموا أول من يدخل من باب المسجد، فاتفقوا على ذلك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول داخل، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا. فلما أخبروه الخبر، طلب أن يأتوه بثوب، فوضع فيه الحجر الأسود، ثم طلب من كل بطن من بطون قريش أن يمسك طرفا من الثوب ثم يرفعوه جميعا، ففعلوا، حتى إذا بلغ به موضعه وضعه فيه بيده. وبذلك نزع فتيل الفتنة، وارتاح الجميع لأنهم شاركوا في هذا الأمر، فلم يمتز أحد على أحد.

ومع اقتراب محمد، صلى الله عليه وسلم، من منتصف الثلاثينيات من العمر لم يكن هناك شيء يدل على أي تغيير في حياته، فهو سعيد في حياته الزوجية، وله مكانته بين بني قومه. وليس لدينا أي رواية عن أنه سافر في هذه الآونة إلى أي مكان، بل كانت تجارة خديجة تدار من مكة، وكان يستأجر لها وكلاء يرحلون بتجارتها في رحلتي الصيف والشتاء إلى الشام واليمن. كان ابناه اللذان ولدا له قد توفيا في باكورة الطفولة، أما بناته فكنَّ يترعرعن في حماه، ويتوقع لهن أن يتزوجن من أكفائهن. وفي هذه المرحلة من حياته الشريفة حُبب إليه الخلاء حيث كان يستطيع أن يستغرق في أفكاره. فكان في شهر رمضان يذهب إلى غار حراء حيث يقضي أياما في تحنثه، دون أن يتبع أي طريقة في العبادة، بل لعله كان يناجي خالق الكون.

هذه العزلة والتحنث والمناجاة إنما كانت بعض الإعداد له كي يقوم بدوره المقبل. فبعد التدبر والتفكير الطويل في ذلك الغار المرتفع في الجبل يبدو الكون فسيحا متراميا لا يحوطه الفكر، ولا سيما في الليالي الصافية حيث يرى المرء أعدادا لا تحصى من الكواكب والنجوم في السماء الصافية. في هذا الجو الرائق يخطر للإنسان أن هذا كله من صنع خالق قادر. ومن جوانب إعداده لدوره جانب بدأ بعد ذلك، ألا وهو الرؤيا الصادقة، فلم يكن يرى رؤيا إلا وتتحقق مثل فلق الصبح، تماما في صورتها التي رآها في المنام. وكان هذا لطمأنته مقدما أنه لم يكن يتعرض لأي شيء يضره.

وعندما بلغ محمد، صلى الله عليه وسلم، سن الأربعين كان رجلا ذا حياة مستقرة، يتمتع باحترام كبير بين بني قومه وفي مجتمع مكة عموما. فقد كان كرمه مؤكدا، واستعداده لتقديم العون لكل من يحتاج عونه مضمونا. ثم جاءت اللحظة التي غيرت وجه الدنيا. كان نائما في غار حراء عندما جاءه جبريل ممسكا بكتاب مفتوح وقال له: "إقرأ"، فقال وهو الرجل الأمي: "ما أنا بقارئ" فغطه الملك بالكتاب في صدره حتى كاد ينقطع نفسه، وظن أنه الموت، ثم تركه وأعاد عليه طلبه أن يقرأ. ومرة أخرى قال محمد إنه لا يستطيع القراءة، فتكرر الأمر ثلاثا، وفي المرة الأخيرة سأل الملك: ماذا أقرأ؟ فقال له: "إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم."

وانتبه من نومه يرتعش مذعورا، فلما هدأت نفسه وارتاح، جاءه الملك مرة أخرى وهو منتبه أشد الانتباه، فأعاد عليه ما رآه في منامه تماما كما جرى. وما أن تركه الملك حتى انطلق عائدا إلى أهله، فوصل بيته يرتعش، وطلب من زوجته أن تزمله. ثم قص عليها ما حدث وقال لها: لقد خشيت على نفسي، فطمأنته وقالت: "كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتُكْسِب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق."

من تلك اللحظة أصبح محمد، صلى الله عليه وسلم، نبي الله، ثم عرف من بعد أنه مكلف بإبلاغ رسالة ربه إلى الناس كافة.

[1] صحيح مسلم، كتاب الجنائز

[2] ابن سعد، الطبقات الكبرى، المجلد الأول الصفحة 116-119.

[3] أحمد خليل جمعة، نساء من عصر الرسول، الصفحة 23.

[4] الإصابة، الجزء الرابع، ص. 415.

[5] الاستيعاب، الجزء الرابع، الصفحة 244. تهذيب الأسماء واللغات، الجزء الثاني، الصفحة 358.

[6] ابن هشام، السيرة النبوية، (1/197). البيهقي، دلائل النبوة، (2/30)

[7] ابن سعد، الطبقات الكبرى، (1/ 158). أبو نعيم، دلائل النبوة (1/237). ابن سيد الناس، عيون الأثر (1/45)

[8] أخرج البخاري هذه الأحاديث الثلاثة في صحيحه، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين