هجرة من نوع آخر

سهير علي أومري

كلما حلت ذكرى الهجرة الشريفة تبادرت إلى أسماعنا أصوات تدعونا لأن نهجر ذنوبنا ونترك واقعنا السيئ ونهاجر إلى رحاب الله تعالى فنلوذ به من أنفسنا ونلتجئ إليه من أحوالنا… وفي كل مرة نتنفس نفساً عميقاً ونقول: يـــا اللــه وتشعر أرواحنا بحاجتنا إليه إلى حبه ورحمته ومغفرته… وتمضي اللحظات ثم الساعات ثم تتوالى الأيام فلا نحن نتغير ولا واقعنا يتغير… ذلك لأن هجرة أخرى قد جهلنا أو تجاهلنا أهميتها كانت لا بد منها لنتمكن من الهجرة إليه إلى ملكوت رحمته وقدرته هجرة لن نكون قادرين أن نخرج من واقعنا إلى واقع أفضل ما لم نقم بها…
هجرة ذات اتجاه آخر تأخذنا من ظواهر الأشياء إلى حقائقها… تصحبنا من أفعالنا إلى نياتنا من علانيتنا إلى سرنا من ظاهر قوتنا إلى نقاط ضعفنا… هجرة نجوب فيها أعماقنا ونرحل فيها إلى مكنونات أنفسنا فنكتشفها ونكتشف كم من القدرات التي نجهلها قد أودعها البارئ فينا يوم خلقنا وترك توقيعاً أبدياً يطرق أسماعنا إلى يوم الدين توقيعاً بمثابة مفتاح لأسرار نمتلكها ولا ندركها توقيع يقول لنا: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)) والأحسن اسم تفضيل لو قاله الواحد منا لكانت درجته تتناسب وفق قدراته وخبراته، أما وقد قالها خالق القدرات والخلائق، فشهادة (الأحسن) تصير بلا حد ندركه ولا سد نقف عنده…
إنه الإنسان المخلوق الوحيد الذي شهد له الخالق بأنه خلقه بأحسن تقويم.. وهذا (الـ أحسن) ليس كما يتبادر للواحد منا أنها تعني قدرة الإنسان على السير والكلام والتفكير والعمل لا بالتأكيد إنها قدرات مهما اكتشفنا أبعادها تظل كلمة (أحسن) تحفزنا لأن نرتقي فوق الحال الذي نحن عليه… كلمة (أحسن) التي كلما اكتشفنا في أعماقنا سراً إلهياً وقدرة إيجابية جاءت لتقول لنا: بل أنت أيها الإنسان قد خلقت أحسن مما تدركه الآن… تملك ما هو أحسن… وتستطيع ما هو أحسن… لتكون في واقع أحسن…
فهل يمكن يا ترى أن تتوافق (الـ أحسن) التي شهد الخالق لنا بها مع استسلام نبديه أو  يأس نخفيه أو ذل نعيشه؟!
هل يمكن أن تتوافق (الـ أحسن) مع كآبة نفوسنا وأمراض قلوبنا وعجز هممنا وفشل مساعينا وإحباط مشاعرنا وتنازلات مواقفنا وهزائم حياتنا؟!!
(أحسن تقويم) شهادة تدعونا لأن نهاجر ذات يوم إلى داخل أنفسنا فنحبها أولاً ونثق بها ثانياً ونصادقها ثالثاً فنفهم ماذا تشعر ولماذا تشعر ماذا تريد ولماذا تريد ولنبصر كم من الطاقات منحنا وكم القدرات وهبنا فنفك قيودنا ونغدو قادرين على العيش في واقع أحسن مهما كانت ظروفنا واقع يفيض على أرواحنا بالسلام والسكينة والطمأنينة والرضا على نحو نغدو فيه فاعلين منتجين قادرين مؤثرين لا تحد هممنا حدود ولا تقف في وجه إرادتنا سدود…
تلك الحياة التي وعد الله المؤمنين بها عندما قال:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97))
(وهو مؤمن) ذلك الشرط القلبي الذي يرتبط بحالة داخلية تستوجب من صاحبها أن يكون شديد الصلة بنفسه، قادراً على الهجرة إليها كلما تاهت به السبل أو رأى أن حياته ليست طيبة… قادراً على معرفة موقعه الحقيقي على خارطة الحياة الإنسانية، يدرك سبب وجوده على هذه البسيطة، عندها ستغدو كل أيامه كيوم ذكرى الهجرة النبوية يهاجر فيها من ذنوبه ويعود إلى رحاب مولاه وخالقه عودة مبنية على علم بذاته وصفاته وثقة بقدراته وليس كلاماً يردده أو أمنيات تحملها اللحظات والساعات وتطير بها على جناح الأيام والسنوات فلا يدري أين تتلاشى ولا كيف تعود…
(أحسن تقويم) شهادة تدعونا لهجرة جديدة في سبيل الله تجعلنا ممن يرجون دوماً رحمة الله عسانا نكون من الذين قال عنهم:
(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218))
وكـــــــل عـــــــام وأنتــــــــم بخــــــــير

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين