رجال ومواقف: صهيب الرومي شاري نفسه

وُلِدَ في أحضان النعيم، ومات في أحضانِ النعيم كذلك، لكن شتّانَ بين هذين النعيمين شتّان.. ألَا إنّ البَوْنَ بينهما بعيدٌ ممتدٌ شاسع.

فالنعيم الذي وُلِدَ في أحضانه نعيم الجسد شبعاً ورِيّاً وزينة، ومركباً فارهاً، وظلاً ظليلاً، وماءً عذباً جارياً، ومسكناً كبيراً يزدحم بالفاخر من الأثاث، ثم لا شيءَ بعد ذلك.

أما النعيمُ الذي ماتَ في أحضانِه فهو نعيم القلب يرتوي بعدَ ظمأ والنفسُ تهدأُ بعد أن عرفَ الحق، واستيقنَ من وضوح السبيل، سبيل الحقِّ بيِّنةً شامخةً كريمة، ذلك أن صاحبنا شهد بزوغ شمس الإسلام في أيامِه الأولى في مكة المكرمة فما عَتَمَ أنْ أسلم، فكان من إسلامه في نعيمٍ يتجددُ ولا ينفد، يسمو ولا يقصُر، يعلو ولا يخبو، يمتدُّ ولا ينحسر.. ظَلَّ في بستانه الوارِفِ الفَيْنان حتى لقِيَ وجهَ ربِّه.

كان أبوه والياً لكسرى وفي قصره على شاطئ الفرات الحالمِ مما يلي الجزيرة والموصل عاشَ الفتى هانئاً سعيداً في ظِلالٍ من النعيم، نعيم الجسد، ثم لا شيءَ بعدَ ذلك.

واجتاحتِ المنطقة هجمة شديدة من قِبَلِ الروم، ما لبِثت أن تكشّفت فإذا بالفتى المُنعَّمِ أسيرٌ في بلاد الروم.. ويتنقل على أيدي تُجّار الرقيق فإذا به آخر الأمر في مكة المكرمة.. وقد لحقَ باسمِه وَصْفٌ يعودُ إلى البلد الذي أسَرَهُ أول مرة.. وإذا به يُعرَفُ بهذا الاسم الشامخ في تاريخ الإسلام "صُهَيْبُ الرومي".

* * *

والتقى ذات يومٍ بعمار بن ياسر على باب الدار التي لها في قلوب المسلمين ذكرى باهرةٌ عاطرة، دار الأرقمِ بن أبي الأرقم قُرْبَ الصفا حيث يستخفي المسلمون بدينهم من بطشِ قريش، ويجتمعون إلى رسولهم صلى الله عليه وسلم، يتعلمونَ منهُ دينَهم، ويتواصَونَ بِنَشرِ رسالته بين الناس، ويتواصونَ كذلك بالحق والصبر.

ولم يكن اجتياز عَتَبَةِ الدارِ الكريمة التي كانت مَحْضناً للحق والخير، والعفة والصدق، والفضيلة والإيمان أمراً ميسورَ التكاليف.. لا، كان أمراً شاقاً ثقيلاً لا يقوى عليه إلا نُدرةٌ من عظامِ الرجال.

كان اجتياز عَتَبَةِ الدارِ الكريمة إيذاناً بعهدٍ زاخِرٍ من المسؤوليات الصِّعابِ الجِسام، سخريةً وأذى، وبطشاً وتنكيلاً، وحرباً خسيسةً ضارية، يشُنُّها قومٌ يكرهون مَقدِمَ الخير، ويُصِرُّون على البقاءِ في ليلِ الجاهليةِ والآثام.

ولم يكن صهيبٌ يجهلُ ذلك، بل كان له علمٌ به واسعٌ بصير، ومع ذلك أقدمَ غيرَ هَيّابٍ ولا وَجِل، ذلك أنَّ نداء الإيمانِ لا يُقاوَم وشذى الحقِّ لا يُحبَس، وعبير الدين الجديد يملأ أفئدة الأبرار فضلاً وصِدقاً، وتضحيةً وهداية.

أسلمَ صهيبٌ وأسلمَ عمار، ومنذُ لقائهما ذاك على باب الدار الكريمة.. كان لهما في تاريخ الإسلام دورٌ كبير.

* * *

أخذ صهيبٌ مكانهُ في قافلة المُعذَّبينَ في سبيل الله، واحتملَ نتائجَ اختيارِه برجولةٍ كاملة، وشجاعةٍ بالغة، وعزمٍ لا يلين. وكشفتِ الأيامُ عن نقاءِ معدنه، وصفاءِ سريرته، وأصالة شخصيته؛ فإذا هو في مقدمةِ صفوفِ الباذلين والمجاهدين.

اسمع حديثَه هذا لترى أيَّ رجلٍ كان، يقول صُهيب "لَمْ يشهَدْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً قط إلا كنتُ حاضرَه، ولم يُبايِع بيعةً قط إلا كنتُ حاضِرَها، ولم يَسِرْ سَريَّةً قط إلا كنتُ حاضِرَها، ولا غزا غَزاةً قط أوّلَ الزمانِ وآخرَه إلا كنتُ فيها عن يمينه أو شماله، وما خافَ المسلمون أمامهم قط إلا كنتُ أمامهم، ولا خافوا وراءَهم إلا كنتُ وراءَهم، وما جعلتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينَ العدو أبداً حتى لقِيَ ربَّه".

كلماتٌ وِضاءٌ عِذابٌ تكشف بصدقٍ وجلاء عن عظَمةِ هذا البطلِ المجاهدِ الكريم. ألَا بورِكتَ يا صهيب! وبُورِكَ الدِّينُ الذي أنجبك! وبُورِكَ النبي الذي على يديهِ اهتديت!.

* * *

وذات يومٍ هاجرَ المسلمون إلى المدينة المنورة، وكان مِمَّن هاجر صهيبٌ الرومي.. لقد مضى يقطعُ الصحراء صَوبَ مَأرِزِ الإيمان ليكون لَبِنةً قويةً في بناءِ المجتمعِ الجديد. لكنَّ عدداً من سُفهاءِ قريش لحقوا به فأدركوه يريدون أن يَرْجِعوا به إلى مكة المكرمة.. فسارَع إلى الأرضِ ونَثَرَ سهامه بين يديه، وصاحَ بالمُطارِدين: "يا معشر قريش! لقد علمتم أنّي من أرْماكم رَجُلاً، وايْمُ اللهِ لا تَصِلون إليَّ حتى أرميَ بكل سهمٍ معي في كِنانتي، ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منهُ شيء، فأقدِموا إنْ شِئتُم.. وإن شِئتُم دَلَلْتُكُمْ على مالي وتتركوني وشأني!".

وأدركَ القومَ خوفٌ وطمع.. خوفٌ من تهديدِ صهيب، وطمعٌ بِمالِه.. فتركوه وشأنَه وعادوا يأخذون ماله بعد أن دَلّهم عليه. ينبغي ألا يفوتَنا أنَّ القومَ صدَّقوا قوله مُسارعين، ولم يسألوهُ بيِّنةً أو علامة، ولم يستحلِفوه على ما قال.. وذلك أنه كان وهو المؤمن، وهم الكفار فوقَ مستوى الظنون.

ولقيَ صهيبٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في قُباء فإذا به يُبشِّرُه بقولِه: "ربحَ البيعُ أبا يحيى، ربحَ البيعُ أبا يحيى!".. وحقاً لقد ربحَ بيعُ صهيب أبي يحيى، فقد أعطى ما يَفنى ليكسبَ ما يبقى، وحَسبُكَ أنه نزلَ فيه قولُه تعالى: "ومِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ، وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ".

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين