رجال ومواقف: عذابُ بلال الحبشي

هو بلال بن رباح، ذلك الرجل الذي حوَّلهُ الإسلامُ تحويلاً عجيباً، وأحدثَ في حياته نقلةً هائلةً واسعة، فإذا به من بعد أن كان عبداً مغموراً يصبحُ رجلاً خالداً في دنيا المسلمين حتى يوم الدين.

كان عمر بن الخطاب إذا ذَكَر أبا بكر قال عنه: "أبو بكرٍ سيدُنا، وأعتقَ سيدَنا"، يعني بِلالاً، وحسبك أن يصفه عمر بهذا الوصف العظيم لتعرف أي رجلٍ كان!.

كان بلال شديد السمرة، ناحلاً نحيفاً، مُفرط الطول، كثَّ الشعر، خفيف العارضَين.. وكان إذا سمع كلمات الثناء حنى رأسه، وغضَّ طَرْفَهُ، وقال: "إنّما أنا حبشي كنتُ بالأمسِ عبداً".

لقد صدق بلال فيما قال.. لكنَّ الحال لم يَثبُت على ما قال، فإنَّ بلالاً صار إحدى معجزاتِ الصدقِ والإيمان، إحدى معجزات الإسلام العظيم في صياغة الرِّجال.

لم يكن مِن قبل –كما قال عن نفسه– سوى عبد رقيق يرعى إبل سيده لقاء شيء يسير من مال وطعام.. ولولا الإسلامُ لظلَّ هكذا ضائعاً في الناس وهو حي، مجهولاً مِنهم وهو ميت. لكنَّ بلالاً أخلف هاتيك الظنون كلَّها حين اختار الإسلام، ودفع ثمن اختياره هذا عذاباً وتعباً ومشقة.

كان عبداً من الناحية الجسدية، لكنَّ روحَه كانت حرةً طليقةً كبيرة. لذا ما عتمت أن سارعَت تؤمِن بالإسلام حين اقتنعَت بصدقه، على الرغم من فداحة الثمن الذي اضطرت إلى دفعه.

دُعِيَتْ روحه الحُرة الطليقة إلى الإسلام فأسلمت، ودُعِيَتْ مِن بعد ذلك إلى مواجهة نتائج إسلامها فما تردّدت ولا تراجعت، بل مضَت صوب غايتها الشريفة السامية كالسهم ينطلق من قوسه، دون هلعٍ أو جزَع، دون تردّدٍ أو اضطراب، دونَ ضعفٍ أو خوَر. وهذا الذي فعله بلال هو الذي منحه تلك المكانة العظمى في تاريخ الإسلام بطلاً من أبطاله الكبار العظام.

إنَّ الرجل كان أسود البشرة، متواضع الحسب والنسب، غريب الأصل هيّناً على الناس، عبداً فقيراً مُستضعَفاً، لكن ذلك كله لم يمنعه قط من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يليق به، إذ يُؤهله إليه صدقه وصفاؤه، وطُهره ونصاعته، ويقينه وتفانيه.

لقد هدم الإسلام كل المعايير الفاسدة التي يتفاضل الناس وفق اعتباراتها، دون أن تقعد بهم إذ يتفاضلون عوائق من نسب أو حسب، أو جنس أو قبيلة، أو لغة أو أرض. وتلك –والله- هي المعايير العادلة التي تتيح للناس جميعاً أن يستبِقوا، وتهيئ الفرصة الكاملة لأي صَدوق سَبَّاقٍ أن يحتل مكانه الذي يستحقه دون حيف أو عدوان.

وذات يوم علم بلال بن رباح أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم طفق يدعو لدين جديد، وما كان الرجل ليجهل محمداً عليه الصلاة والسلام، فقد كانت سيرته الطاهرة تملأ مكة المكرمة بأريجها العطِر، وكان سلوكه مضرب المثل في الشرف والصدق والأمانة وفي الفضائل كلها. لقد بلغ الأربعين ولم تُعرَف عنه كذبة قط.. إنه لصادق صادق.. وغدا بلالٌ وراح.. ولم يحتج إلى جهد كبير ليعلم صدق الدعوة الجديدة وصحتها، فما عتم أن أسلم.

وجنّ جنون أمية بن خلف سيد بلال!.. أيُسلم العبد الحبشي ويتحدى جبروته وطغيانه!؟ ألِهذا العبد أن يفكِّرَ ويُقدِّرَ ويختار!؟ ومَن هو حتى يعرف الحقَّ من الباطل، والخطأ من الصواب!؟ مثل تلك التساؤلات الحمقاء كانت تدور في خلد أمية بن خلف.. الذي ما أبطأ أن وضع بلالاً أمام الامتحان، وامتُحِنَ الرجل، فازداد صلابةً ومَضاءً وتضحية. كان كالتِّبْرِ إذ يُعرض على النار يزداد تألقاً ونقاءً وأصالة، وكالمطواة على الشحذ قَطْعاً وحِدّة.

وُضِع بلال وهو عريان على أرض مكة التي ألهبتها الشمس المتقدة، فما وهَن ولا استكان، لعلك قد عرفت حرَّ مكة المكرمة إذ تسقط الشمس حادة حادة، فيلتهب التراب والحصى.. هناك كان بلال يُطرَحُ على الأرض.. وتوضَع على صدره الحجرة الكبيرة الصمّاء.. وهو لا يزيد على أن يقول: أحَدٌ أحَد.

واشتدوا عليه في العذاب حتى ملُّوا.. وحتى أرادوا أن يستروا زيفهم وهزيمتهم أمام هذا العبد الحُر بكلمة واحدة يقولها، يذكر فيها آلهتهم المزعومة بخير ليحفظوا ماء وجوههم أمام قريش حتى لا تتحدث عنهم ساخرة عاتبة أنهم قد عادوا صاغرين أمام صمود عبد حبشي ضعيف. لكنَّ هذه الكلمة الواحدة لم تخرج من فم البطل الصابر كان لا يفتأ يردّد: أحَدٌ أحَد.

كانوا يغضبون ويشتدون في الغضب، فيعذبونه ويشتدون في العذاب، لكنه كان يرد عليهم بقوله: أحَدٌ أحَد.

وكانوا يملون ويتعبون فيرجونه أن يذكر اللات والعزى بخير، لكنه كان يرد عليهم بقوله: أحَدٌ أحَد.

ويظل البطل الصابر سحابة نهارهِ في هذا العذاب المتصل حتى إذا انكسرت حِدة الشمس، وحان وقت الأصيل أقاموه عن الأرض، ووضعوا في عنقه حبلاً، ثم أمروا صبيانهم وسفهاءهم أن يطوفوا به في مكة المكرمة، في شوارعها وجبالها، وهو صابر محتسب، يردّد فقط قولته الخالدة الرائعة: أحَدٌ أحَد.

أحَدٌ أحَد.. تلكم كانت إجابته الحاسمة القاطعة على جميع الصعاب التي صُبَّت عليه، على جميع أنواع العذاب، على جميع أنواع الإغراء كذلك. موقف لا يُنسى لبلال قط. موقف من سخِر بإيمانه من الطغيان كله، وثبت ثبات الجبال على الحق هازئاً بالطغاة الذين حسبوا أنهم إذ امتلكوه عبداً رقيقاً قد امتلكوا روحه، فهي لديهم أسيرة لا اختيار لها.

موقف بلال ذاك، درس بليغ في عصره، وفي عصرنا، وفي كل عصر، أن حرية الإنسان الداخلية، لا تُباع بكل المال ولو كثر، ولا بكل العذاب ولو اشتد.

قد يفتك الطاغي بالجسد لكن لا سبيل له إلى الروح، قد يكبل المعذب بالقيود، ويقطعه بالسكاكين، ويرميه مزقاً مزقاً، لكنه لن يتسلط على نفس المعذب وقلبه ما دام ذلك المعذب لم ينهزم من داخل نفسه. درسك يا بلال عبرة للناس حتى يوم الدين، خاصةً إن كانوا من المعذبين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين