العلاقة بالآخر

عالم العلاقات هو عالم الغموض والتعقيد، وهو عالم الأوهام والشكوك والتساؤلات، وهذا يعود الى هشاشة الأسس التي تقوم عليها كل علاقة بين إنسان وإنسان آخر، فأنا أرى الآخرين على المستوى الفردي والجماعي وعلى المستوى الحضاري من أُفق وعيي بذاتي وحضارتي... والآخرون يفعلون الشيء نفسه، لكن المشكلة أن وعيي بذاتي وحضارتي ووعي الآخرين بذواتهم وحضاراتهم وانتماءاتهم غير مكتمل ولا ناضج بسبب غموض التعريفات وبسبب الجدل حول العديد من القضايا لدى الجميع، وهذا كله يعني أن العلاقات التي نقيمها مع بعضنا ومع أبناء الثقافات الأخرى هي علاقات مهددة بالتوتر والقطيعة والبغي، ومهددة بالبرود والفتور، وهذا يعود إلى معطيات واضحة، وأحيانا غير واضحة، كما أن هذا يعني أن العلاقة التي نحرص على استمرارها لأي اعتبار كثيراً ما تحتاج إلى رعاية دائمة وإلى الإبقاء على مسوغات استمرارها وإلا فما أهون أن تزول وكأنها لم تكن!.

أود هنا أن أسلط الضوء على هذه القضية بغية تحسين الوعي بها، ورؤية الأمور على الوجه الصحيح.

1- للشيء وجودان: شخصي وعلائقي؛ والوجود الذاتي من غير الوجود العلائقي قد يكون وجوداً بدائياً ساذجاً، وقد يكون من غير معنى أو قيمة، فالرقم (8) معدوم القيمة لو لم يكن على علاقة تراتبية بالرقم (9) والرقم (7) وهما من غير معنى لو لم يكونا جزءًا من تسلسل رقمي طويل للغاية.

الإنسان من غير أسرة ومجتمع وأصدقاء وزملاء لن يكون إنساناً لأنه سيكون من غير لغة ولا عاطفة ولا معرفة بالخير والشر والحق والباطل؛ وهذا يعني أن كثيراً مما نقيمه من العلاقات ليس من باب الرفاهية والترف، وإنما هو شيء ضروري لنكون بشراً أسوياء ولنستمر على هذه الأرض.

2- علينا الاعتراف بأن من العسير جداً إقامة علاقات خالصة وشفافة ومنزهة عن الأغراض على نحو كامل؛ فأنا شيء وأنت شيء آخر، وهذه الغيرية تظل موجودة وماثلة، والواحد منا مهما تصور أن علاقته بالشخص الفلاني أو الجهة الفلانية تساوي وجوده وحياته، وأن فقدها يعني الموت، فإن تصوره ذاك يبقى غير موضوعي، ويظل على نحو يجعله في حاجة إلى غيره من بني الإنسان، وفي حاجة إلى محيطه وما فيه من هواء وماء وتراب؛ وهذا يعني أن العلاقة تنشأ بيننا وبين الآخرين بسبب الشعور بالحاجة إليهم، ولدى الآخرين الشعور نفسه، وهذا يجعل التكامل هو أساس العلاقة بيننا، وكلما كان الإشباع لحاجاتنا أكبر شعرنا بالتكامل وأهميته أكثر وشعرنا بالفائدة أيضا، وحين يشعر أحد الطرفين بالاستغناء عن الطرف الآخر أو يشعر أن ما يقدمه الآخر له على أي مستوى كان لا يؤدي إلى المزيد من التكامل فإن من المتوقع فتور العلاقة التي كانت يوماً مصيريه أو حيوية جداً، وحينئذ فإن من المتوقع أن يشعر أحد الطرفين بأن العلاقة معه صارت وسيلة لاستغلاله، وهذا كله يعني شيئاً واحداً هو أنه ليس هناك - على العموم - في هذه الحياة علاقه أبدية، أو لا يمكن انفصالها، وإن الجسد حين يثقل على الروح ويحمِّلها من الآلام ما لا تطيق فإنها تغادره بالموت على ما كان بينهما من علاقه فريدة وعميقة!.

3- وجود الآخرين ضروري لوجود الذات، ولو أننا فرضنا وجود تشابه مطلق بين بني آدم وتوافق مطلق في مصالحهم وطموحاتهم، فإن ما يترتب على العلاقة بيننا من مشكلات قد يكون منعدماً أو ضئيلاً، لكن الله تعالى لم يشأ ذلك وإنما شاء لنا أن نكون متغايرين ومختلفين ﴿‌وَلَوْ ‌شَاءَ ‌رَبُّكَ ‌لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119] هذه الثنائية وما ترتب عليها من الشعور بالمغايرة هي معقد ابتلاء في حياتنا العامة، وإن على كل واحد منا أن ينجح في إقامة علاقته مع من يخالطهم، ويلتقي بهم على أساس من العدل والبر والإحسان؛ وفي هذا الإطار نعقل قوله سبحانه: ﴿‌وَلَا ‌تَبْخَسُوا ‌النَّاسَ ‌أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [الشعراء: 183]، وقوله: ﴿‌وَلَا ‌يَجْرِمَنَّكُمْ ‌شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8] لكن لدينا من الشواهد ما يؤكد أن كثيراً من الناس - إن لم نقل أكثرهم - لم ينجحوا في إقامة علاقة خيرة وصحيحة، وهذا ما نطقت به الآية الكريمة ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ‌وَعَمِلُوا ‌الصَّالِحَاتِ ‌وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ [ص: 24]، وهذا يعني أن علينا جميعاً أن نبذل جهداً فكرياً وأخلاقياً أكبر حتى نستجيب لأمر ربنا في تحسين مستوى العلاقات بيننا بوصفنا إخوة وبوصفنا خصوماً ومتنافسين.

4- قد كنا نظن أن التشابه بين شخصين على مستوى الشكل أو الموهبة، وأن ما يجمع بينهما على مستوى التخصص والعمل والمجال يشكل حافزاً لهما على التحابب والتقارب حيث يرى كل واحد نفسه في شبيهه، لكن الذي تبين أن الأمر ليس كذلك، إذ إن شدة التنافس تكون بين المتشابهين والزملاء وأصحاب التخصص الواحد والمهنة الواحدة.

وهذا مفهوم حيث إن الناس مفطورون على حب تفوقهم على غيرهم، وحين يزيد اكتشاف تميُّز شخص من الأشخاص فإننا نقارنه بأشباهه وأهل اختصاصه، كما أن المتشابهين يتنافسون على جمهور واحد وزبائن موحدين، وهذا يعني أن الذي يحرمك من الشعور بالتفوق والغلبة هو الأكثر شبها بك على مستوى السمات والخصائص، وفي هذا المعنى يقول الإمام الغزالي: (والحسد يكثر بين أصحاب الحِرف والمهن المتماثلة وأرباب المقاصد المشتركة، ولذلك فإنك ترى العالم يحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر دون العابد، وكذلك الشجاع يحسد الشجاع ولا يحسد العالم، لأن مقصده أن يُذكر بالشجاعة ويشتهر بها ويتفرد بهذه الخصلة، والعالم لا يزاحمه على هذا الغرض)[1].

نعم إن الشحاذ لا يحسد أصحاب الملايين، وإنما يحسد شحاذاً مثله، وإن التنافس بين الأقران والأشباه يحمل على الحسد والمكيدة أو محاولة الحط من القدر والمكانة وإيقاع الأذى. وهذا قد يتم بطريقة خفية وغامضة، وكل ذلك من الرذائل وأمراض القلوب والتخلص منها واجب، ومجاهدة النفوس على البعد عنها مما يُتقرب به إلى الله تعالى.

وقد كان علماؤنا على وعي تام بهذه الإشكالية ولهذا قالوا: (كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى). نعم لأن جرح القرين لقرينه يظل مظِنَّة للحسد والتنافس مهما كانت مكانة الناقد والجارح وعدالته.

5- إذا كان الآخر مرآة لي فلا ينبغي لي أن أشوه المرآة التي أرى فيها نفسي، لأنني حينئذ لن أرى ذاتي وأوضاعي على حقيقة ما هي عليه، ولهذا فإن المنصف في النظر إلى الآخرين يحسن إلى نفسه قبل أن يحسن إليهم.

إن أوروبا وأمريكا تشكلان (آخر) بالنسبة إلى المسلمين، ونحن نشكل (آخر) بالنسبة إلى الأمريكيين والأوربيين بسبب ما بيننا وبينهم من الحروب والصراعات التاريخية الدامية، وهذا على الصعيد الديني والثقافي؛ أما على الصُعد الصناعية والاقتصادية فإن الصين هي الآخر بالنسبة إلى الغربيين، وأياً كان الأمر؛ فإنَّ علينا أن نعترف بفضائل الخصوم والمنافسين، فهذا من القيام لله تعالى بالقسط والعدل ومن تحاشي الظلم وتطفيف المكاييل، وهذا لا يعني بأي حال التنازل عن هويتنا والتنكر لقيمنا ومبادئنا العليا، لكنه يعني ألا نسمح لأنفسنا بالجهر بخصائص وميزات ليست عندنا، حيث إن التعصب للذات الفردية والقومية قد يدفع أصحابه إلى الغرق في بحر من الغرور والكبر والوهم وسوء الفهم، ويحرمهم بالتالي من المساءلة والمحاسبة والمراجعة وتمهيد سبل النهوض والتقدم.

إن كل ما ذكرته عن العلاقة بالآخر هو للآخر المطلق، أما العلاقة بالآخر المقيد فلها أحكامها وآدابها وذوقياتها واستحقاقاتها حيث يكون للعلاقة بين الأزواج والأرحام والأصدقاء والجيران حقوق وآداب... ويكون للعلاقة بالآخر العدو أحكام وأشكال وطرق للتعامل والتواصل.

العلاقة بالآخر تحتاج إلى تبصر ونقد أعمق وأوسع بكثير مما ذكرتُه ولكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.

المصدر: العدد العاشر من مجلة "مقاربات" الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

[1] بحث بعنوان " كلام الأقران بعضهم في بعض" بقلم أيمن محمود مهدي، بتصرف عن الإحياء 3/195.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين