حفظ الوقت مثالان رائعان من حياة شيخنا عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله

من الكتب التي أغرمت به منذ أيام الطلب كتاب (صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل)، طالعته مرارا، وهو كتاب نافع ممتع لايستغني عنه طالب علم، ويتلوه كتاب (قيمة الزمن عند العلماء) في خطورة الشأن، كلاهما لشيخنا الحافظ عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله تعالى.

وأخطر ما استرعى انتباه المحصلين إليه في الكتابين هو حفظ الوقت، فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، ومادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، يمر أسرع من السحاب، فما كان من وقته لله وبالله، فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبا من حياته وإن عاش فيه طويلا، فهو يعيش عيش البهائم.

وذكَّر – رحمه الله – في الكتابين بما كان عليه السلف الصالح ومن سار على نهجهم من الخلف من الحرص الشديد على كسب الوقت وملئه بالخير، سواء في ذلك عالمهم وعابدهم، فقد كانوا يسابقون الساعات، ويبادرون اللحظات، ضنا منهم بالوقت، وحرصا على أن لا يذهب منهم هدرا.

قلت: وكان شيخنا مؤلف الكتابين رحمه الله من الخلف الذين ساروا على نهج أولئك السلف في حفظ الوقت والانتفاع به، وفيما يلي قصتان من حياته:

القصة الأولى:

وهي قراءته على الشيوخ وهو في مطار كراتشي منتظرا للرحلة منه، ولنستمع إلى الشيخ وهو يحكي عن نفسه في مقدمة بعض كتبه: ولمّا ذهبتُ إلى مطار كراتشي للسفر منه وجدتُ شيوخ العلم والفضل فيه خرجوا ليكرمو العاجز الضعيف بالازدياد والتزوّد من لقائهم الغالي، وقبل أن تحين ساعة السفر أُعلن تأخير إقلاع الطائرة عن موعدها ساعتين، فرجوتُ من الأساتذة الأجلّة أن يعودوا إلى مهامّ أعمالهم، فلم يكن منهم غيرُ الإصرار على زيادة فضلهم بالبقاء لوداع العبد الضعيف حتى اللحظة الأخيرة.

فكانت فرصة سانحة كريمة، وجلسنا في ناحية من المطار، ومع الشيوخ الأكارم جمهرة كبيرة من صحبهم ومُحبّيهم أهل الدين والصلاح ووجوه الإسلام العامل في كراتشي، فكانت حلقة واسعة جامعة، جمعتْ من العلماء الأفاضل نخبة كريمة ، أتذكّر منهم الآن: أستاذنا العلاّمة الجليل الكبير الشيخ محمد شفيع، وأستاذنا العلاّمة الفذّ المفضال الشيخ محمد يوسف البنوري، و... فرغبتُ أن نملأ الوقت بالاستفادة الغالية من بُدور العلم والفضل، فأخرجتُ كتاب (التصريح بما تواتر في نزول المسيح) هذا، ورجوتُ من سادتنا العلماء أن أقرأ طرفًا من الكتاب عليهم فرحّبوا أطيب ترحيب، فرجوتُ منهم أن يتكرّموا بـالإجازة لي قبل القراءة فجادوا بها، فقرأتُ مقدّمة مولانا الشيخ محمد شفيع كلّها وثلاثة أحاديث من الكتاب، ثم تفضّل بالقراءة أستاذنا مجمع الفضائل والعلوم العلامة الشيخ محمد يوسف البنوري حفظه اللّه تعالى فقرأ خمسة أحاديث بعدها، وجرى خلال ذلك إفادات متنوّعة من المشايخ الفضلاء.

قلت: هذا من أروع ما قرأتُه في حفظ العلماء لأوقاتهم، وإنّي عهدتُ شيخنا عبد الفتّاح رحمه اللّه مغتنمًا أشدّ الاغتنام كل لحظة من حياته، لايُضيعها مهما كانت الظروف، ولقد رأيته بمناسبة مؤتمر الإمام البخاري في سمرقند لاتفوته فرصة للإفادة، وكان قد صحبه الدكتور عبد الرزاق إسكندر من كراتشي، فرأيتُه ملازمًا للقراءة على الشيخ حتى في الحافلة حين سفرنا من سمرقند إلى بخارا، وإيابًا منها، وكان معنا في الحافلة شيخنا سماحة الشيخ السيد أبي الحسن الندوي فغلبته الرقّة في الشوق إلى زيارة آثار بخارا، فأنشد أبياتًا رقيقة رائعة جدًّا بالعربية، ورأيتُ الشيخ رحمه اللّه تعالى يلتذّ بها أشدّ الالتذاذ حتى سأل ابنه سلمان أن يُقيّدها بالكتابة، ولمّا أنهى الكتابة سأله الشيخ أن يعيدها فيُصحّحها إذا كان فيها خطأ، وأنشد الشيخ رحمه اللّه كذلك بهذه المناسبة أبياتاً، فهذه هي حياة الشيخ، جعل العلم مهادًا له ووسادًا في حلّه وترحاله.

القصة الثانية:

وحينما شرّفنا الشيخ رحمه الله بزيارته لأوكسفورد بمناسبة تكريمه بجائزة السلطان حسن البلقيّة العالمية في الحديث النبوي الشريف أفادنا بإفادت علميّة غالية، ولما ذهبتُ إلى مطار لندن لتوديعه وجدتُ شيخنا العالم أبا عمّار زاهدا الراشدي أحد علماء باكستان ينتظر وصول الشيخ إلى المطار، فلمّا وصل الشيخ وفرغ من بعض الإجراءات اللازمة سأله الشيخ أبوعمّار أن يقرأ عليه (كتاب الأدب المفرد) للإمام البخاري، فرحّب الشيخ بذلك، فقرأ عليه الشيخ أبوعمّار جزءا من كتاب الأدب المفرد وأنا أسمع، وفي خلال ذلك أفادنا الشيخ بعض ما يهمّ من الإفادات. انظروا إلى عنايته بحفظ الوقت مستفيدا ومفيدا وهو على المطار مشغول البال بالرحلة، فيا ليت أهل العلم في عصرنا احتفظوا بأوقاتهم، وتأسوا بسلفهم في ذلك كما فعل شيخنا رحمه الله رحمة واسعة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين