الذَّبيح هو إسماعيل عليه السلام

اختلف في الذبيح: هل هو إسماعيل؟ أو إسحاق عليهما السلام؟ وقال بكُلٍّ طائفةٌ، وللحافظ السُّيوطيِّ رسالة "القول الفصيح في تعيين الذَّبيح" حشد فيها أقوال الطَّائفتين، وأحاديث وآثارا تدل لكليهما، ثم اختار التَّوقف([1]) الجزم بأحدِهما، وهذا منه عجيب! فإن التوقف إنما يصار إليه حيث تتكافأ الأدلة ولا مرجِّح، لكنه انخدعَ بالإسرائيليَّات وبالعلماء الذين اعتمدوها من قبلَه، ثم إنَّ الأحاديث التي أوردها دليلًا للطَّرفين واهية، لا يجوزُ الاحتجاج بها، فلا أدري كيف خَفِيَ عليه حالها؟! ونحن إذا تأمَّلنا القرآن الكريم وجدناه يدلُّ دلالة قاطعة على أن الذَّبيح إسماعيل عليه السلام، وإليك البيانَ:

1- لما أنجى الله إبراهيم من النَّار، ترك قومه، وذهب مهاجرًا إلى الشَّام ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 99] ، فلما وصلها قال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 100] قال الله تعالى:﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات: 101] أي: ذي حلم كثير.

2- فكان هذا الغلام الحليم إسماعيل عليه السلام، ووصفه بالحلم يوافِقُ قوله لأبيه حين أخبره بأمر الذَّبح: ﴿قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾ [الصافات: ١٠٢] وبالضَّرورة لا يقدر على مواجهةِ هذا الموقف الذي تطيشُ عنده الأحلام إلا الحليم الصَّابر.

3- ولكونه كان بكر أبيه ووحيدِه، كان الامتحان بذبحه أشدَّ، ولذا قال اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: 106].

4- قال اللهُ تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [مريم: 54] وَعَدَ أباه بالصَّبر على محنة الذَّبح، ووفى بوعده، فاستحقَّ الثَّناء على ذلك.

5- قال الله تعالى بعد حكاية الذَّبح والفداء: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 112] فكان هذا دليلًا على أن الذَّبح غيره من وجهين:

أحدهما: أنَّ البشارة به جاءت بعد مسألة الذَّبح.

ثانيهما: وهو القاطع في الموضوع؛ أن الله بشَّره به نبيًّا أي موعودًا بأنه يبلغ مبلغ الرِّجال ويصير نبيًّا، والبشارة خبر، والخبر لا يدخله نسخٌ، فمِنَ المستحيل أن يأمُره بذبحِه.

6- أنَّ الله وهب إسحاق لإبراهيم عليهما السَّلام، منحة له على استسلامه لمحنةِ ذبح ابنه الوحيدِ.

7- قال الله تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: 71] هذه بشارةٌ من الله تعالى بأنَّ إسحاق يعيش ويولد له يَعقوب، فمِنَ المحال أن يأمر بذبحِه، وهذا دليلٌ قاطع أيضًا.

8- قال الله تعالى عن ضيف إبراهيم: ﴿قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ [الحجر: 53] وقيل أيضًا: ﴿قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ﴾ [الذاريات: ٢٨] فوصف إسحاق بالعلم الكثير، وهذا العِلمُ إما عن طريق الوحيِ، أو التَّعليم، وعلى كلا الحالين لا يمكن أن يأمر بذبحه، وهو دليلٌ قاطع أيضًا.

9- أنَّ إسماعيل بشَّر به إبراهيم من غير وعد بنبوته، ولا بأن يولدَ له ولدٌ، فكان من المعقول أن يؤمر بذبحه ابتلاء وامتحانًا.

10- أنَّ إسماعيل وهب لإبراهيم بدعائه كما تقدم، فأراد الله أن يمتحنَ خليله في مطلوبه، ليبين أهليته لمقام الخلة.

11- أنَّ إسحاق وُهِب له بدعاء امرأته، حيث غارت من ضَرَّتها هاجر التي رزقت ولدًا دونها، واللهُ أكرم من أن يمتحن امرأة في ولد وهبه لها بعد كبرها وعقمِها.

12- أنَّ أعز ما تتمنَّاه المرأة في بيت الزوجيَّة أن تُرزَق ولدًا يعيش، وتفرح بزواجه وبأولاده، وعلى وِفاقِ هذه الأمنية التي كانت تجول بخاطر سارة، جاءتها البِشارَة: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: 71] فبشَّرها الله بولدٍ ضمن لها حياته حتى تفرح به، وترى ولدَه، فكيف يأمر بعد هذا بذبحِه؟!

13- أنَّ مناسك الحج من طوافٍ وسعيٍ ورمي للجمار وذبح للضَّحايا وغيرها، مأخوذة عن إبراهيمَ وإسماعيل وهاجر، ولا علاقةَ لشيءٍ منها بإسحاق، فدَعوى أنَّه الذَّبيح، فرية إسرائيلية انخدعَ بها بعض علماءِ المسلمين، وما دَرَوْا أنَّ اليهودَ حسدوا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والعربَ على أن اختص الله تعالى جدّهم إسماعيل بهذا الفضلِ، فحاولوا بكذبهم تحويلَه إلى جَدِّهم إسحاق عليه السلام.

من كتاب" خواطر دينية"

(1) فلم يفِ بما ادعاه في العنوان، حيث لم يُعيِّن الذبيح.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين