فيتامين

إن أشرس ملحد يؤمن أن الصدق خير من الكذب، وأن الأمانة أفضل من الخيانة، وأن الرحمة أحسن من القسوة، وأن التواضع أرقى من الكبر..

تلك مفردات مجردة، لا يستطيع العلم أن يفسر فحواها، أو أن يحلل عناصرها، ويشرح تكوينها!

فهل الصدق مكون مادي يخضع للتجربة والتشريح؟

وهل الكذب عنصر ملموس تجري عليه الفحوصات المخبرية؟

إنها مصطلحات ليست من عالمنا المادي، لكنها حقيقية، بل هي الحقيقة بكل أبعادها..

فقيمة الإنسان لا تتعلق بطوله أو وزنه، ولا بنشاط خلاياه، ولا بحسن أداء أجهزته، قيمته بالصوت الداخلي الذي يأمره ليفعل، أو ينهاه ليترك.. قيمته على قدر قيمه التي يحملها في روحه وقلبه وعقله، وكلها قوى خفية، أوجدها الخالق جل وعلا، لتكون صانعة الخير، ودافعة الشر، الصلاح، هادمة الفساد، وتلك معانٍ لا تنطبق إلا على الإنسان، فليس هناك جبل صالح وجبل فاسد، ولا يوجد نهر أمين وآخر خائن، إنها خصائص الإنسان، الذي يعرف وحده معنى القيمة، ومعنى الأخلاق..

وهنا قد يسأل سائل: ما المانع أن تكون الأخلاق نتاج مجتمع لا يعترف بالدين؟

فلو اعتبرنا أن لا مانع من أن تكون الأخلاق نتاج مجتمع، فما الخطأ إذاً في أن يقتل مغتصب الأرض كل من يطالب بحقه في استعادتها، طالما أن مجتمع الكيان الغاصب يقر ذلك؟ وما الذي يمنع مجتمعاً في أن يبيد عرقاً يجده أدنى من أن يعيش معه، إذا ما وافق المجتمع على الفكرة؟! وأين الجريمة في أن تتفنن حكومة مجتمع في تعذيب شعب، لأنها تحتقر ديانته، ولا تعترف لأتباعها بحق العيش الكريم؟!

إن الأخلاق تعني الإنسان كإنسان، ولا تعني المجتمع كمجتع، إنها منظومة مستقلة عن المجتمع، فالصواب صواب، صلُح المجتمع أو فسد، والخطأ خطأ، صلح المجتمع أو فسد..

وإذا أردنا أن نتعامل بالأخلاق بمنأى عن الدين، فما الذي يبررها، وما الذي يشرحها، وما الذي يفسر مقتضى العمل بها، أو عدم العمل بها؟!

الدين هو الوحيد الذي يبرر الأخلاق، فلا يمكن فهمها إلا في إطار التكليف الإلهي.

من خلال الدين سنعرف غاية وجودنا، ونعرف مهمتنا، ورسالتنا، ونفهم وظيفتنا في الحياة، ومصيرنا بعد الموت، ولا شيء غير الدين يبين لنا كل ذلك، ويشرح لنا تلك المفردات المجردة، ويحولها إلى أفكار وأقوال وأفعال، ونمط عيش يعلو فيه الخير إلى أعلى مستوى، وينحسر فيه الشر إلى أدنى درجة..

إنها علاقة عضوية حيوية، ومعادلة منطقية تعلل نشأة الأخلاق من رحم الدين، وتؤكد على صحة الوليد، طالما أنه مرتبط بتلك الرحم عبر حبل رقابيّ، يمده بأسباب وجوده ونمائه..

تلك هي حقيقة عنصر الأخلاق داخل (فيتامين دين)، ويكفينا حجة على كل ما ذكرنا، أن المرسَل بهذه المنظومة المتكاملة، نبينا صلى الله عليه وسلم، قد أشار بكلام واضح، أن البعثة كلها إنما كانت لإتمام مكارم الأخلاق، في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وأكّد أن الأخلاق أفضل مركّب في مادة الإيمان، في جوابه عليه الصلاة والسلام عن سؤال عمرو بن عبسة: أي الإيمان أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (حسن الخلق).

في ختام هذه المقالة، وكما وعدتكم، سأقدم لكم الوصفة النبوية القولية لفيتامين الدين، وهي في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبدٍ مسلم يقول حين يُصبح وحين يمسي ثلاث مرات: رضيتُ بالله ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا" إلا كان حقًا على الله أن يرضيه يوم القيامة".

وعنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "ذاقَ طعمَ الإيمان من رضيَ بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولًا".

أمّا عن الجرعة العمليّة، ففي قول ربّنا جلّ وعلا: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ...(125) ﴾ [المائدة]

ذلك أحسن الدين، ومفعّل الفيتامين، أن يُسلِم أحدنا وجهه لله، وأن يحسن التعامل مع كل المخلوقين، ليعيش في سلامة وسعادة، ورضى وسرور دائمين مستمرين إلى يوم نلقى الله رب العالمين..

وبعد أن أكمل الله لنا الدين، وأشرقت الأرضُ بالهداية والإيمان، كان لا بُدَّ من عنايةٍ لتلك النعمة، ورعايةٍ لتلك الأمانة، وقد جعل الله الأمةَ مسؤولةً عن تبليغ هذا الدين الذي ارتضاه لعباده.. فماذا عن فيتامين "دعوة"؟ وكيف يؤثر وجوده أو غيابه في حياتنا؟

نناقش هذا الفيتامين ضمن المقالة القادمة بإذن الله..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين