نبي الرحمة (28)

غزوة الأحزاب: ١

عاد السلام والأمن للجزيرة العربية بعد حروب وبعثات استغرقت أكثر من سنة، لكنّ اليهود لم يفيقوا من غيّهم، ولم يتعظوا بما أصابهم نتيجة الغدر والتآمر، فبعد نفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون نتائج المناوشات بين المسلمين والوثنيين، ولما بسط المسلمون نفوذهم شرعوا في التآمر على المسلمين، وأخذوا يعدون لضربة قاتلة لا حياة بعدها، لكن ليس لديهم جرأة فنفذوا خطة رهيبة، لذلك خرج عشرون من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ووعدوهم بنصرتهم، فأجابتهم قريش، وكانت قريش قد أخلفت وعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذ سمعتها, ثم خرج الوفد إلى غطفان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً، فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب، فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح الوفد في تأليب أحزاب الكفر على المسلمين. خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة- وقائدهم أبو سفيان- في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمَرِّ الظَّهْرَان، وخرجت من الشرق قبائل غطفان‏:‏ بنو فَزَارة، يقودهم عُيينَة بن حِصْن، وبنو مُرَّة، يقودهم الحارث بن عوف، وبنو أشجع، يقودهم مِسْعَر بن رُحَيلَةِ، كما خرجت بنو أسد وغيرها. واتجهت الأحزاب نحو المدينة. بعد أيام تجمع حول المدينة جيش عرمرم عدده عشرة آلاف مقاتل، ربما يزيد عدده على من في المدينة من نساء وصبيان وشباب وشيوخ. ونقلت استخبارات المدينة خبر هذا الزحف. فسارع صلى الله عليه وآله سلم إلى عقد مجلس استشاري لوضع خطة للدفاع عن المدينة، وبعد المناقشات اتفقوا على قرار قدمه سلمان الفارسي. قال سلمان: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا- خطة حكيمة لم تعرفها العرب- فأسرع صلى الله عليه وآله وسلم بتنفيذ الخطة، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعاً. وقام المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق، والرسول صلى الله عليه وآله سلم يحثهم ويساهمهم في عملهم هذا، عن سهل بن سعد قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا- كواهلنا- فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.. فاغفر للمهاجرين والأنصار). وعن أنس: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم. فلما رأى ما بهم من النّصب والجوع قال:(ا للهم إن العيش عيش الآخرة * فاغفر للأنصار والمهاجرة). فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمداً * على الجهاد ما بقينا أبداً. وعن البراء بن عازب قال: رأيته صلى الله عليه وآله وسلم ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه.كان المسلمون يعملون بنشاط وهم يقاسون من شدة الجوع، قال أنس: يُؤْتَوْنَ بمِلْءِ كَفِّي مِنَ الشَّعِيرِ، فيُصْنَعُ لهمْ بإهَالَةٍ- دهن- سَنِخَةٍ-فاسِدة الطَّعْمِ- تُوضَعُ بيْنَ يَدَيِ القَوْمِ، والقَوْمُ جِيَاعٌ، وهي بَشِعَةٌ في الحَلْقِ ولَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ. قال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حَجَرٍ حَجَرٍ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حجرين. ورأى جابر بن عبد الله في النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمصاً شديداً- الخمص ضُمورُ البَطْنِ مِنَ الجُوعِ- فذبح بهيمة وطحنت امرأته صاعاً من شعير ثم التمس من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سراً أن يأتي في نفر من أصحابه، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجميع أهل الخندق، وهم ألف فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا، وبقيت بُرْمة اللحم تغط به كما هي، وبقي العجين يُخبز كما هو. وجاءت أخت النعمان بن بشير بحفنة من تمر إلى الخندق ليتغدى أبوه وخاله، فمرت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فطلب منها التمر وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق فجعلوا يأكلون منه. وجعل التمر يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه يسقط من أطراف الثوب.

عن جابر قال: إنَّا يَومَ الخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَاؤُوا النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ فَقالوا: هذِه كُدْيَةٌ عَرَضَتْ في الخَنْدَقِ، فَقَالَ:(أنَا نَازِلٌ). ثُمَّ قَامَ وبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بحَجَرٍ، ولَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقًا، فأخَذَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ المِعْوَلَ فَضَرَبَ، فَعَادَ كَثِيبًا أهْيَلَ، أوْ أهْيَمَ، أي صار رملاً لا يتماسك. وقال البراء: لما كان يوم الخندق عَرَضَتْ لنا في بعضِ الخَنْدَقِ صخرةٌ لا نأخذُ منها المَعَاوِلَ، فاشتَكَيْنا ذلك إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآله وسلَّم، فجاء فأخذ المِعْوَلَ فقال:(بسمِ اللهِ)، فضرب ضربةً فكسر ثُلُثَها، وقال:(اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ) ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ فقال:(اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ الأبيض الآن) ثم ضرب الثالثةَ وقال:(بسمِ اللهِ) فقطع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال:(اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني).

كانت المدينة تحيط بها الحرّات والجبال وبساتين من النخيل من كل جانب سوى الشمال، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن زحف مثل هذا الجيش الكبير لايُمكن إلا من جهة الشمال، اتخذ الخندق في هذا الجانب. وواصل المسلمون عملهم حتى تكامل حفره، قبل أن يصل الجيش الوثني العرمرم إلى أسوار المدينة. وأقبلت قريش في أربعة آلاف، حتى نزلت بِمُجْتَمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ، بَيْنَ الْجُرُفِ وَزَغَابَةَ، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتى نزلوا بِذَنَبِ نَقْمَى إلَى جَانِبِ أُحُدٍ.{وَلَمَّا رَءَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْأَحْزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّآ إِيمَٰنًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:٢٢].وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً }[الأحزاب:١٢] وخرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة آلاف، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سلع فتحصنوا به، والخندق بينهم وبين الكفار. وكان شعارهم:[حمٓ لا يُنصرون] واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة- حصونها-. ولما أراد المشركون مهاجمة المدينة، وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين، ولم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم، إذ كانت هذه الخطة- كما قالوا- مكيدة ما عرفتها العرب، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم. وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً، يتحسسون نقطة ضعيفة، والمسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، يرشقونهم بالنبل، حتى لا يقتربوا أو يقتحموه، أو يهيلوا عليه التراب ليمكنهم من العبور. وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوى، فخرجت جماعة فيها وعَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ وضرار بن الخطاب وغيرهم، فاقتحموا مكاناً ضيقاً، وجالت بهم خيلهم في السَّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، ودعا عمرو إلى المبارزة، فانْتُدِب له علي بن أبي طالب، وقال كلمة حمي لأجلها- وكان من شجعان المشركين وأبطالهم- فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على عليّ فتجاولا وتصاولا حتى قتله علي، وانهزم الباقون وفروا، وترك عكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو من الرعب. وحاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة لاقتحام الخندق، لكن كفاح المسلمين ونضالهم أفشل محاولتهم. ولأجل الاشتغال بهذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن المسلمين، عن جابر رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش. فقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(وأنا والله ما صليتها) فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب. واستاء صلى الله عليه وآله سلم لفوات الصلاة، عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال يوم الخندق:(ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس).

إن محاولة العبور ومكافحتها دامت أياماً، والخندق كان حائلاً بين الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر، فقط مراماة ومناضلة. قتل فيها ستة من المسلمين وعشرة من المشركين، قُتل واحد أو اثنان منهم بالسيف. ورُمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل، رماه حِبَّان بن العَرِقَةِ- من قريش- فدعا سعد: اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أنَّه ليسَ أحَدٌ أحَبَّ إلَيَّ أنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ، مِن قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسولَكَ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ وأَخْرَجُوهُ، اللَّهُمَّ فإنِّي أظُنُّ أنَّكَ قدْ وضَعْتَ الحَرْبَ بيْنَنَا وبيْنَهُمْ، فإنْ كانَ بَقِيَ مِن حَرْبِ قُرَيْشٍ شيءٌ فأبْقِنِي له، حتَّى أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ، وإنْ كُنْتَ وضَعْتَ الحَرْبَ فَافْجُرْهَا واجْعَلْ مَوْتَتي فِيهَا. وقال في آخر دعائه: ولا تُمِتْني حتى تقرَّ عيني من بني قريظة. وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد، انطلق كبير مجرمي بني النضير إلى ديار بني قريظة، فأتى كعب بن أسد، سيدهم وصاحب عقدهم وعهدهم، وكان قد عاقد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على أن ينصره إذا أصابته حرب فضرب عليه حُيَيّ الباب، فأغلقه كعب دونه، فما زال يكلمه حتى فتح له بابه، فقال حُيَيّ: إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألايبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه. فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه، فهو يرعد ويبرق، ليس فيه شيء، ويحك يا حيي! فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب، حتى سمح له على أن أعطاه عهداً من الله وميثاقاً: لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك، حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في الحرب ضد المسلمين. قال ابن إسحاق: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء والصبيان، قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون في غور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت، قالت: فقلت يا حسان، إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فأنزل إليه فاقتله. قال: والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت: فاحتجزت ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن، وقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. قال: ما لي بسلبه من حاجة. كان لفعل صفية أثر عميق في حفظ ذراري المسلمين ونسائهم، ظنّ اليهود أن هذه الآطام والحصون في منعة من الجيش الإسلامي- مع أنها كانت خالية عنهم تماماً- فلم يجترئوا مرة ثانية للقيام بمثل هذا العمل، إلا أنهم أخذوا يمدون الوثنيين بالمؤن، حتى أخذ المسلمون من مؤنهم عشرين جملاً.

انتهى خبر فعل صفية باليهودي إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلى المسلمين فبادر إلى تحقيقه، حتى يستجلي موقف قريظة وبعث لتحقيق الخبر السعدين: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة، و خَوَّات بن جبير، وقال:(انطلقوا حتى تنظروا أحقٌ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس). فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة، وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد. فانصرفوا عنهم، فلما أقبلوا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لحنوا له، وقالوا: عَضَل وقَارَة، أي أنهم على غدر، كغدر عضل وقارة بأصحاب الرجيع. وتفطن الناس لجلية الأمر، فكان أحرج موقف للمسلمين، فلا شيء يمنع بني قريظة من ضربهم من الخلف، وأمامهم جيش عرمرم لا يستطيعون الانصراف عنه، وذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين بدون منعة، وصاروا:{وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً}[الأحزاب:١٠-١١] ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وقال آخر: إن بيوتنا عورة من العدو، فأذن لنا أن نخرج، فنرجع إلى دارنا، فإنها خارج المدينة، وحتى همت بنو سلمة بالفشل وفي هؤلاء نزل:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً} [الأحزاب:١٢-١٣].

أما الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فتقنع بثوبه حين أتاه غدر قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً، حتى اشتد على الناس البلاء، ثم غلبته روح الأمل، فنهض يقول:(الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره) ثم وضع خطة، فكان يبعث الحرس إلى المدينة، لئلا يؤتى الذراري والنساء على غرة، وأراد أن يصالح عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرفا بقومهما، ويخلو المسلمون لإلحاق الهزيمة بقريش التي اختبروا قوتها مراراً، فاستشار السعدين في ذلك، فقالا: يا رسول الله إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف، فصوّب رأيهما وقال:(إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة).

يتبع...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين