فيتامين

يكابر المكابرون، ويجحد الجاحدون، وينكر الملحدون، لكن الفطرة تأبى أن تستسلم لهذا التيار المجنون..

مرّة يسمّون أنفسهم "العلمانيون"، بينما ترجمة هذه الكلمة على الوجه الحقيقي هي "اللادينيون"..

ومرّة يطلقون على أنفسهم اسم "العلمويون"، أي أنهم لا يؤمنون بأي فكرة إلا أذا أثبتها العلم، لكنهم إذا التقى العلم بالدين أنكروا، وتهرّبوا!

ومرّة يعرّفهم من حولهم باسم "اللاأدريون"، فكلما سألتهم أجابوا: لا أدري؛ من أنت؟ لا أدري!، من خلقك؟ لا أدري!، ماذا تفعل في هذه الحياة؟ لا أدري!، إلى أين ستذهب بعد الموت المحتوم؟ لا أدري!..

بالنسبة لهؤلاء جميعًا، الدين موضة قديمة ولّى زمانها، ولم يبقَ له فائدة، وليس إليه حاجة، ويمكن بكل يسر وبساطة الاستغناء عنه، وإبعاده عن مجالات الحياة، دون أدنى تأثير سلبي عليها!

وللرد عليهم، فلن نذهب بعيدًا بعيدًا، بل سنعرّج على قصةٌ طبيب مصري "عالم" في مجاله، لدرجة أن أقرانه كانوا يسمونه "المشرحجي"، لشدَّةِ ولعه بتشريح جسد الإنسان، محاولًا البحث عن الأسرار العظمى: سرّ الحياة، وسرّ الروح، وسرّ الموت..

هذا الطبيب العالِم، عاش سنوات من الإنكار لكل الأفكار المطروحة، باحثاً عن لغز الحياة وعن إجابات لأسئلته العميقة: عن وظيفته على الأرض، عن رحلته ما بعد الموت، يسأل عن الله، عن الدين، عن الإيمان، عن حقيقتهم، و ضرورتهم، وعن احتياج الإنسان لهم..

ثلاثون سنة، لم يستطع العلم الذي تبحّر فيه الدكتور مصطفى محمود رحمه الله أن يجيبه إجاباتٍ شافية، حتى صدّق بوجود الله عقلًا يدعمه الوحي، ونفسًا تسدّدها الفطرة، وعلمًا يؤيده الشرع، وكتب كتابه المشهور "رحلتي من الشك إلى الإيمان"، يحكي فيه رحلة شقائه وضياعه، إلى أن اهتدى للحقيقة الأسمى والمنحة الفضلى والهبة الحسنى: الدين والإيمان.

فالدين هو الدرع الحامي للنفس من الاضطراب والتخبّط، وهو العقل الثاني الهادي والمسدّد لعقلنا الأول، وقد صدق القائل: (الشرعُ عقلٌ من خارج، والعقل شرعٌ من داخل)، ولا غنى لأحدهما عن الآخر. والدين للمجتمع هو الضامن لقواعد العدل، والحفاظ على الحقوق.

وقبل أن أذكر اتفاق المختصين في علم الاجتماع، وحقائق التاريخ من عرب وعجم، أذكر قول الله تعالى عز وجل الفصل في هذا المجال، فقد قال تعالى:

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾ [الروم]

أما إجماع المختصين الاجتماعيين، فقولهم: "لقد وُجِدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، لكنه لم توجد قط جماعة بغير دين أو ديانة".

وقد أكدّوا أيضًا في دراساتٍ موثقة أنه من الممكن أن يضمحّل كل شي نحبّه، وأن تتوقف حرية استعمال العقل والعلم والصناعة، لكن يستحيل أن ينمحي التديّن، وسيبقى حجةً ناطقةً على بطلان المذهب المادي الذي يحصر الفكر الإنساني في الحياة الأرضية..

إنّ موقفًا حقيقيًا بسيطًا يختصر كل تلك الفلسفات، ويؤكد على أصالة فكرة التدين في تكوين الإنسان، واستحالةِ خضوعها للمحو أو الإزالة. فقد جلس ملحد بين جموع من الناس يلقي عليهم أفكاره، فقام أحدهم ليسأله: هل أنت ملحد؟ أجاب: نعم. قال له مستنكرًا متعجبًا: كلا! لا أصدق أنك ملحد. فأجابه: والله العظيم أنا ملحد!..

إنّه لسان الفطرة التي تُقسِم بالذي فطرها، وأوجدها، فتنطق في فلتة صادقة، وتعود إلى أساس تكوينها، مؤمنة مصدّقة موحدة..

وموقف آخر لمظلّي ملحد، قفز من الظائرة، فلم تفتح مظلته، وأيقن أنه هالك، فتفاجأ بنفسه وهو يصرخ بأعلى صوته: يا الله.. يا الله، ينادي مستنجدًا، فلما وصل إلى الأرض سالمًا، استغرب من أين أتى هذا الإيمان، وهو لم ينطق كلمة "الله" في حياته!..

إنّه نداء الروح.. هو الدين.. وحقيقة الإيمان..

فيا عجبًا كيف يُنكَرُ الإله أم كيف يجحده الجاحِدُ؟

والله في كلّ تحريكةٍ وتسكينةٍ أبدًا شاهدُ

وفي كلّ شيء له آيةٌ تدلُّ على أنَه واحدُ

صحيح أننا نصبح ونُمسي على صورٍ ومشاهد مشوِّهة للدين، مليئة بالتحريف والانحراف، وفي زمنٍ الغربة الثانية لدين ربّنا الأصيل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بدأ الدينُ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بدأ"، لذلك وجبَ على المختصين من علماء ومفكرين ودعاة أن يجتهدوا لبناء منطق إيماني ديني جديد متماسك علمي وواقعي، وإلا فإن حالنا ستسوء أكثر، فيما التجديد الذي علينا القيام به هو عملية إزالة وتمحيص وتخليص ما علق بالدين مما ليس منه.

إن ديننا دين دليل، ودين تعليل، دينُ علم، ومنهجية، دينٌ مصقول، من الفطرةِ مقبول، وبالنص المحفوظ منقول، هو دين الإنسانية والإيجابية والفاعلية. دينٌ كَمُلَ وتمّ، ورَضيهُ لنا الخالق الأعظم.

﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا...(3)﴾ [المائدة]

يقول مصوّر سينمائي اسكتلندي اعتنق الإسلام بعد رحلة عذابٍ طويلة: "إني أعتقد أنّ الإسلام هو الدين الذي يُدخل السلام والسكينةَ إلى النفس، ويُلهِمُ الإنسانَ العزاء وراحة البال والسلوى في هذه الحياة، لقد شعربُ بنعمةِ الإيمان بالقضاء الإلهي، لقد أسلمتُ لكي أنقذ ذهني وعقلي وحياتي من الهدمِ والتدمير".

وامرأة نمساوية وُلدت لأبوين ملحدين، تقول بعد مسيرةٍ بحثٍ عن دينٍ يقعنها، ثم اعتناقها الاسلام: "شعرتُ أني كمسلمة يمكنني أن أعيشَ حياةً كاملةً جديرة بي، لقد أشبع الإسلامُ حاجاتي الروحية والمادية على حدٍّ سواء، توازنٌ عجيب يضمن تطور عقلية ثقافية مبدعة، ويحقق اجتهادًا دائمًا لتحسين وضع الإنسان، بل كل الخلائق".

وقبل أن أقترح الوصفتين النبويتين: القولية والفعلية لفيتامين "دين"، يبقى أن نناقش مكون الأخلاق في هذا الفيتامين، فما هي حقيقة العلاقة بين الدين والأخلاق؟ ألا يكفينا أن نتعامل بالأخلاق، دون أن يضرنا ترك الدين؟! وما المانع أن تكون الأخلاق نتاج مجتمع لا يوجد فيه دين؟!

الإجابات تجدونها في المقالة الثالثة من سلسلة (فيتامين "دال" لتحسين الأحوال)، بمشيئة الله..

الحلقة الأولى هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين