فلسفة الإسلام في الصراحة (5)

الصَّراحة والثورة السورية

لا نعلم اجتماع الدَّجل والكذب والنفاق في مرحلة من مراحل التاريخ كما اجتمع ضدَّ الشعوب العربية المطالبة بحريتها من عبودِّية حُكَّامها في دول الربيع العربي وخاصة في سورية، حيث تآلب الإعلام والمال والنفاق والإفتاء والتزوير... للوقوف أمام الثورة السورية، وهذا التّآلب جاء لإخفاء الحقيقة وعدم التصريح فضلا عن التلميح بمطالب الشعب في سورية.

فالإعلام يصدح صباح مساء بالكذب بأنَّه يقاتل إرهابيين ومرتزقة... والأسلحة بمختلف إشكالها بما فيها الكيماوي لم تتوقف على الشعب السوري بهذه التَّهمة، وكلُّ ذلك بمؤازرة من إفتاءٍ ماجن ومنابر صنع النَّظام أزلامها، تبارك له القتل والتجويع والتهجير.

وأما عن الدُّول المساندة للقتل والإجرام وفي طليعتها صفوية إيران، فهي بذلك تحقق تناغم الكذب والدجل مع التقيَّة التي هي جزء من تلك العقيدة الصفوية وأنَّى للتقيِّة أنْ تلتقي مع الصراحة.

التربية على الصراحة

هناك أكثر من سبيل لهذا، ومنها:

1.أن ننمي هذه الخصلة الموجودة في النفوس، فهي فطرة موجودة في النفس البشرية وهي تعبير عن رفضنا للشيء الذي لا نقتنع به، وعدم الموافق على كل شيء. وتعبير الطفل بالصراخ هو وجه من وجوه رفضه لما لا يعجبه وهو تعبير عن صراحته ووضوحه في مطلبه قبل أنْ يتكلم ويحسن الكلام.

2. أنْ نمدح أصحاب المواقف الجريئة ولا نذمها، بعض الناس يحبِّطون أصحاب المواقف الشجاعة والصريحة كأن يقولون له، مَن أنت حتى تُصرِّح بهذا القول؟ ستفقد منصبك؟ سيُغضب عليك... ومثل هذه المواقف التي تثبط الهمم ولا تصنع في الناس الرجولة وتبني المواقف.

3.أنْ نعلم أنَّ الخير والشر والضر والنفع بيد الله تعالى، فإذا استدعى الموقف منّا صراحة فلنفعل ذلك ولن يضيع الله عباده.

4. أنْ نربي في الناس مراقبة الله تعالى، وأنْ نغرس فيهم الحرص على مصالح الناس، فمن تربَّى على هذا لا بدَّ أنْ يكون حريصا على قول الحق وإظهار ما يحتاجه كل موقف.

5.أنْ نبين لهم خطورة التذبذب في المواقف وعدم التصريح بها.

6. أنْ نبين لهم أنّ الصراحة من الواجبات على المسلم، وعندنا حديث: ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))[24] يقول الخطابي: (النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له)[25].

الخاتمة

بعد هذا يمكن القول إنَّ الصراحة خُلُقٌ عالٍ أصيل، وهي من الأخلاق الطيبة التي كانت موجودة عند الكثيرين من العرب في الجاهلية، وهي لا تجتمع مع النفاق، ولأجل هذا لا نجد النفاق في مكة وإنما في عرب المدينة، وقد تسلل إليهم من مجاورتهم لليهود.

والموقف الشرعي هو الذي يتحكم في الإنسان فقد يكون التكلم بالتصريح فُحشا، وقد يكون السكوت أو الإيماء تعمية للأمر أو نفاقا، ولنا في تجلية هذا الأمر من القرآن الكريم والسنة النبوية وتعاملات الصحابة رضوان الله عليهم منهجا نستند عليه.

وإذا كانت الصراحة مطلوبة فلنحذر من المداهنة التي هي خلق ذميم، لأنها السكوت على إهانة الدين والقيم والأخلاق مقابل مصالح مالية أو شخصية أو مكانة، ومن ذلك بعض المفتين - كمفتي النظام السوري- الذين يمشون مع السلاطين فيفتون لهم بما يتماشى مع أهوائهم، ومثل ذلك أنْ تعظّم الصغير الحقير وتكرمه وهو ليس أهلا للإكرام، فهذه مداهنة وهي بيع للدين مقابل الدنيا، والمداراة بيع للدنيا مقابل الدين، والصراحة هي الوضوح وترجع إلى المحبة.

كما لا ينبغي أنْ تجرَّ الصراحة إلى الوقاحة، الوقاحة مرتبطة بقلة الحياء وبغلظة اللفظ وفظاظته وجلافته بينما الصراحة تبتعد عن ذلك، فالحامل لها محبة الخير وليس الإهانة والتقريع، ولكي يتم التفريق بينهما بوضوح يمكن التمثيل لذلك بتحكيم بحثٍ علمي، فبعض البحوث ليست مؤهلة في نظر المحكِّم، فالفرق كبير بين أنْ يُقال لصاحب البحث نأمل أن ننشر لك في أعداد قادمة، ونعتذر لأنَّ البحث لا يتناسب مع سياسة المجلة، وبين أن يُقال له إنَّ بحثك لا قيمة له، وكيف حصلت على الجامعة! فهذه وقاحة؛ لشدِّتها وللغاية المقصودة منها وهي الإهانة والتحقير[26].

المصدر: العدد العاشر من مجلة "مقاربات" الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

الحلقة السابقة هـــنا

 

[1] انظر: أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، مقاييس اللغة، المحقق: عبد السلام محمد هارون، الناشر: دار الفكر، عام النشر: 1399هـ - 1979م، الصاد والراء والحاء، علي بن إسماعيل بن سيده المرسي، المحقق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2000 م، مادة صرح، محمد حسن حسن جبل، المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، الناشر: مكتبة الآداب – القاهرة، الطبعة: الأولى، 2010 م. مادة صَرَحَ،

[2] مقاييس اللغة، مادة نَصَحَ.

[3] محمد الطاهر ابن عاشور، الناشر: الدار التونسية للنشر – تونس، سنة النشر: 1984 هـ،8/ 94.

[4] السرخسي، محمد بن أحمد السرخسي، دار المعرفة – بيروت، 1/ 187.

[5] انظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير، 22/ 81.

[6] رواه ابن حجر العسقلاني وقال:" هذا إسناد حسن" ابن حجر العسقلاني، المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، دار العاصمة، دار الغيث – السعودية، الطبعة: الأولى، 1419هـ، 17/ 251، وقد أورد الشيخ الألباني هذا الحديث فقال معلقا:" قلت: وهذا إسناد حسن " الألباني، محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة: الأولى، 1/ 195.

[7] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، رقم: 456.

[8] صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، رقم: 750.

[9] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب، رقم: 6101

[10] محمد بن علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الولوي، البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج، الناشر: دار ابن الجوزي

الطبعة: الأولى، 10/ 214.

[11] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يكره من الصلاة على المنافقين، والاستغفار للمشركين، رقم: 366.

[12] صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب شهادة المختبي، رقم: 2638.

[13] ا بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، جامع بيان العلم وفضله، الناشر: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1414 هـ - 1994 م، ص373.

[14] مسلم، صحيح مسلم، محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، رقم: 1695.

[15] انظر: عبد الملك بن هشام، سيرة ابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة: الثانية، 1375هـ - 1955م، 1/620، صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم، دار الهلال – بيروت، الطبعة: الأولى، ص191.

[16] انظر: محمد بن يوسف الصالحي الشامي سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1993 م،4/376.

[17] صحيح البخاري، كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق فيه، رقم: 5273.

[18] البخاري، صحيح البخاري، باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم: في البيوع والإجارة والمكيال والوزن، وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة، رقم: 2211.

[19] انظر فيما يُباح من الغيبة، النووي، رياض الصالحين، تعليق وتحقيق: الدكتور ماهر ياسين الفحل

دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق – بيروت، الطبعة: الأولى، 1428 هـ - 2007 م، ص 424.

[20] مسلم، صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم إفشاء سر المرأة، رقم: 1437

[21] النووي، يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثانية، 1392، 10/ 8.

[22] انظر: القرطبي، محمد بن أحمد، تفسير القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م، 5/ 102.

[23] يحيى بن شرف النووي، الأذكار، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط رحمه الله، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، ص375.

[24] مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم:96.

[25] أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي المعروف بالخطابي، معالم السنن، المطبعة العلمية - حلب

الطبعة: الأولى 1351 هـ - 1932 م، 4/ 126.

[26] الوقاحة في اللغة ترجع إلى مادة (وقح)، وهي كلمة تدل على صلابة في الشيء. وقلة في الحياء، انظر ابن فارس، مقاييس اللغة، الواو والقاف والحاء.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين