نساء مؤمنات (صور من حياتهن) أم هانئ بنت أبي طالب !!

أراد محمد – عليه الصلاة و السلام – و قد أصبح في سن تؤهله

للزواج، أن يشد آصرته بعمه أبي طالب الذي آواه و حدب عليه، فخطب إليه ابنته (فاختة). و تقدم لها في الوقت ذاته هبيرة بن أبي وهب. و لم يكن أبو طالب ليقدم أحدا على ابن أخيه، إذ ليس في مكة من هو أجدر بها شرفا و خلقا و مكانة. و لكن تمسكه بالأعراف التي درجوا عليها، و خشيته أن ينتقص من سمعته جعله يرضى بهبيرة، و يزوج فاختة منه.

فحزّ ذلك في نفس محمد – صلى الله عليه و سلم - فليس أقسى على النفس أن يأتيها ممن تحب ما لم تكن تحتسب ؟! و في عتاب يشوبه الحياء قال لعمه: يا عم ! زوجت هبيرة و تركتني ؟!!

فقال أبو طالب – و قد غصت في حلقه الكلمات:يا بن أخي ! إنا صاهرنا إليهم، و الكريم يكافئ الكريم..

كانت كلمات أبي طالب تحمل من المعاني الدقيقة على قدر ما في الموقف من حرج، و كأنه يقول له: إن مكانتك لم تزل كما كانت، و إن حبي لك، لم ينقص منه شيء، و لكنك لا ترضى لعمك – و أنت صاحب الخلق الرفيع – أن يقال فيه ما يسوء سمعته بين الناس.

* * *

و تزوجت فاختة من هبيرة، و تزوج محمد – صلى الله عليه و سلم – من خديجة – و اختاره الله ليكون خاتم النبيين، فكانت زوجه أول النساء إيمانا به و تصديقا له.

و أصبح الناس بين كافر بما جاء، و مؤمن. و بين محب و شانئ..

فأما الذين آمنوا فلم يجدوا في أنفسهم أدنى شك بأن ما يقوله حق – و هو الصادق الأمين – و كذلك وقر في قلب فاختة على الرغم من أن أباها لم يسلم، و زوجها ظل سادرا في شركه !!

و لما ازداد أذى المشركين لمحمد – صلى الله عليه وسلم - و للمؤمنين به، و تطيروا بهم، و ضيقوا عليه، مضى رسول الله – صلى الله عليه و سلم – إلى الطائف عسى يجد على الحق أنصارا، و لكنه رد أقبح الرد.. و عاد إلى مكة يشكو إلى الله هوانه على الناس – فأسرى الله تعالى به إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء، فكان ذلك من الله إكراما له، و تخفيفا عنه لما يلقاه من تكذيب، فعاد و هو أكثر صلابة، و أشد عزيمة، ليبلغ قريشا بما كان من شأن تلك الليلة.

و علمت أم هانئ بما أكرمه الله به، فأشفقت عليه من تكذيب قريش و أرسلت جارية لها تنظر ما يفعلون، و قد أخبرهم رسول الله – صلى الله عليه و سلم – عن رحلته الميمونة إلى السماء..

و عادت الجارية تخبر سيدتها بما رأت:

فأما الذين آمنوا فقد ازدادوا إيمانا، و أما ضعاف الإيمان فقد أخذتهم رعدة التكذيب، و أما الكافرون فتولوا و هم معرضون، و صيحات الإنكار تصك الآذان..

و تتابعت الأيام و قريش مصرة على إيذاء المسلمين، فجعل الله لهم فرجا من بعد ضيق، و كانت الهجرة إلى يثرب.

فأعز الله دينه، و صار للمهاجرين إخوة و أنصار فتحوا لهم مدينتهم و قلوبهم...

و مر على الهجرة سنوات عشر، أذن الله بعدها بفتح مكة، و العودة إلى البيت العتيق لتطهيره من رجس الوثنية.. و عاد موكب الإيمان إلى مكة بالأمن، بعد أن أخرج منها على خوف و تخطف.

و نادى منادى رسول الله – صلى الله عليه و سلم -:

من دخل بيته فهو آمن...

و من دخل المسجد فهو آمن...

و من دخل دار أبي سفيان فهو آمن...

لم يشأ هبيرة أن يدخل بيته، و يستظل بأفياء يوم المرحمة، ليستمع من رسول الله – صلى الله عليه و سلم -: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))...

و لكنه فر من مكة مع من فر، و لم يقف شيء دونه حتى نجران... و أعلنت أم هانئ إسلامها، و فرق الإسلام بينها و بين هبيرة.. و بدأ الذين آذوا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – بالأمس يبحثون عن ملجأ يأوون إليه و جوار يدخلون فيه، فانطلق الحارث بن هشام، و عبد الله بن أبي ربيعة إلى بيت أم هانئ يستجيران. و بلغ عليا أن أخته أجارت اثنين من رؤوس المشركين.

فدخل عليهما شاهرا سيفه، و لكن أم هانئ التي أجارتهما وقفت في وجهه ترده عنهما و تقول: تصنع بي هذا من بين الناس ؟ لتبدأن بي قبلهما، فخرج علي – رضي الله عنه – و قد عز عليه أن تجيرهما، و ذكر مواقفهما المعادية لرسول الله – صلى الله عليه و سلم- خلال فترة الصراع مع قريش...

أليس الحارث بن هشام شقيق أبي جهل، و من شهد المشاهد في حرب رسول الله ؟!.

و عبد الله بن أبي ربيعة موفد قريش إلى الحبشة لاسترداد المسلمين المهاجرين، و هو الذي جهد في استمالة النجاشي لطردهم و

و التضييق عليهم ؟!.

و خرجت أم هانئ لتلقى الرسول – صلى الله عليه و سلم – و تقص عليه ما فعل علي، و ما لقيت منه في تهديده بقتل من أجارت، و تطلب منه أن يقبل بجوارها لهما..

و انتظرت أم هانئ من رسول الله – صلى الله عليه و سلم – ما كانت توقع، و افترت شفتا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – عن كلمات ما كان أحبها إليها ((ما كان ذلك له ؟! قد أجرنا من أجرت، و أمنا من أمنت)) فخرج الحارث و عبد الله يشهدان مجامع الناس، و يظهران في نواديهم و أخبر رسول الله – صلى الله عليه و سلم – من جاء يشكو من ظهورهما أن لا سبيل إليهما فقد أمنهما.

كان علي – رضي الله عنه – يعلم أن النبي – صلى الله عليه و سلم – كان يرغب في الزواج من أخته أم هانئ من قبل، و أن موقف أبي طالب الذي غلب الالتزام بالعرف على عاطفته تجاه ابن أخيه، قد حال دون هذا الزواج.

وها قد أمست أم هانئ من غير زوج بعد فرار هبيرة، و تفريق الإسلام بينهما، فجاء إلى النبي – صلى الله عليه و سلم – و قال: ((يا رسول الله، لو تزوجت أم هانئ بنت أبي طالب، فقد جعل الله لها قرابة فتكون صهرا أيضا)).

فبعث رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يخطبها، و لم تكن أم هانئ لترغب عنه غير أنها نظرت إلى حالها و حال ولدها: فإن انشغلت بهم أضاعت حق الزوج، و إن قامت بحق الزوج ضيعت الأيتام.. فأرسلت تقول: ((و الله ! إنه لأحب إلي من سمعي و بصري، و لكن حقه عظيم؛ و أنا مؤتمة (ذات أيتام) فإن قمت بحقه خفت أن أضيع أيتامي، و إن قمت بحقهم قصرت عن حقه)).

فقال – صلى الله عليه و سلم -: ((خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناها على ولد في صغره، و أرعاها على بعل في ذات يده)).

و فات أم هانئ – رضي الله عنها – أنها لو استجابت لوجد الأطفال في بيت النبي – صلى الله عليه و سلم – نبعا من الحب و الحنان لا ينضب، و لضم العيال إلى العيال، كما فعل رسول الله- صلى الله عليه و سلم – بزواجه من أم سلمة – رضي الله عنها - ؟!.

كان حرص أم هانئ على راحة رسول الله – صلى الله عليه و سلم – من جانب، و خوفها من تضييع الأيتام من جانب آخر، هو المانع الذي وقف دون زواجها منه في هذه المرة..

كما كان حرص أبي طالب على مكافأة الكريم بما يستحق، هو الحائل الذي وقف دون زواجها من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، عندما خطبها لأبيها.

أما و قد شب الأطفال، و أدركوا، و أصبحت – اليوم – فارغة من أمرهم، فلترسلن إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تعرض نفسها.

و أخبر رسول الله بذلك، و لكن بعد أن فات الأوان، و نزل وحي السماء (1):

((يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن و ما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك و بنات عمك و بنات عماتك و بنات خالك و بنات خالاتك اللاتي هاجرن معك)) فكانت الهجرة شرطا في زواج النبي – صلى الله عليه و سلم – من قريباته و لم تكن أم هانئ من المهاجرات...

(1) سورة الأحزاب، آية: 50.

المراجع:

1- الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 151 -152.

2- الاستيعاب:4/1963، 7 / 213 – 404.

3- سيرة ابن هشام: 1/402

4- حياة الصحابة: 1/162- 163.

5- أعلام النساء: 4/ 14.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين