رسالة من الحيّ العَصيّ وحكاية الجسر

وصلتني رسالة من بعض الأصدقاء الشرفاء في حيّ الميدان الدمشقي يشكو حال الحيّ وما آلتْ إليه الأمور فيه من تسلط بعض الشيوخ والتجار التابعين لفروع الأمن والمخابرات على العباد، إضافة إلى تحريض هؤلاء الشيوخ الأهالي وإجبارهم على مبايعة بشار الأسد وانتخابه رئيساً لفترة أخرى.

فيقول المرسل: كيف أُطيع هؤلاء الشيوخ في انتخاب من قتل أربعة من عائلتي، واعتقل منّا عشرين شاباً، وشرّد بقية العائلة بين الداخل والشمال وأوروبا؟! وها نحن الآن نعيش على عتبات الجمعيات الخيرية وانتظار معونة أقاربنا في الخارج.

ويتابع قائلاً: لقد قام مجموعة من الشيوخ الموالين لفروع المخابرات والذين نشكّ بهم وبفكرهم مع بعض التجّار والوجهاء العملاء بإقامة حفلات فيها الغناء والموسيقا وكلمات يلقونها من مديح وثناء على ذلك المجرم الذي باع البلاد بعد تدميرها، كلّ ذلك في وسط حيّ الميدان، وعند تلك المساجد التي كنّا نخرج منها في بداية الثورة ننادي فيها بإسقاط النظام..

حي الميدان المجاهد

حيّ الميدان الدمشقي المجاهد هذا اسمه وصفته، هو الخاصرة الجنوبية لدمشق القديمة وبوابة حوران، معروف منذ القِدم بمحافظته والتزامه الأخلاق الطيبة، فلقد عاش أهل هذا الحيّ على احترام علمائه وشيوخه، فلا يَقطعون أمراً دون الرجوع إلى العلماء والشيوخ الذين ربّوا أبنائه على حبّ الدين، ومن هؤلاء الشيوخ الشيخ حسن حبنّكه الميداني ومن بعده الشيخ صادق وغيرهما رحمهم الله تعالى جميعاً.

ولقد كان للشيخ حسن حبنكه رحمه الله مواقف عظيمة منها جهاده في الثورة السورية ضدّ الفرنسيين في عشرينيات القرن الماضي، كذلك وقوفه في وجه ظلم الرؤساء كأمين حافظ والمقبور حافظ الأسد، فقد كان مُعارضاً لترشح الأخير رئيساً للبلاد كونه غير مسلم وهذا مخالف لدستور سوريّة، وما تمّ هذا الأمر لحافظ إلا بمساعي مُفتيّه أحمد كفتارو الذي استطاع بدوره أن يشقّ صفّ علماء وشيوخ الشام قاطبة بتأييده للهالك الأسد. وبقي هذا الحيّ وشيخه شوكة في حلق الأسد الذي لم يستطع إخضاعه والنيل منه.

وبعد ذلك حاول بعض من أتباع المفتي أحمد كفتارو في اعتلاء منابر حيّ الميدان لنشر فكر شيخهم في تميع الدين والولاء للحاكم، إضافة إلى زعزعة ذلك الترابط بين أبناء الميدان وشيوخهم، ثمّ السيطرة على الحيّ وتقديمه على طبق من فضة بين يدي حاكمهم، فعجزوا عن بُغيتهم في البداية لوقوف شيوخ الحيّ في وجه ذلك الفكر المتملق، ثمّ ظفر بعضهم في نهاية عهد المقبور حافظ لِما وجدوه من حظوة ودعم لدى فروع المخابرات، تلك الفروع المجرمة التي قتلتْ واعتقلتْ أبناء شعبنا.

مكيدة الجسر

أخذ الأسد يبحث عن وسيلة يستطيع من خلالها اختراق هذا الحيّ العنيد، وساعده في ذلك رئيس وزرائه المهندس عبد الرؤوف الكسم، الذي جاءه بفكرة خبيثة ترضي ذوق سيده الإجرامي، وهي مشروع إنشاء الجسر المتحلق الجنوبي الذي يخترق حيّ الميدان من وسطه، فكانت فكرة شيطانية ومُكلفة بنفس الوقت.

وتمّ إنشاء هذا الجسر الذي مزّق حيّ الميدان، فجرف شوارع وأزقّة وحارات وبيوت كثيرة، بل وكشف العديد من المنازل على حافتيه، فاضطر أهلها لبيع بيوتهم والانتقال إلى أحياء أخرى، خوفاً من كشف بيوتهم وحرمتها.

في ذلك الوقت (وقبله) سهّلتْ أجهزة الأمن بطرق عدّة استقدام عائلات نُصيريّة إلى الحيّ، ومَدّتها بالأموال والدعم، فتملّكتْ عقارات ومحلات من أرادوا بيع بيوتهم بسبب ذلك الجسر، فعملتْ تلك الثلّة في صناعة الحلويات الدمشقية حتى اشتهرتْ، وكانت وظيفة تلك الفئات في الحيّ تقديم كلّ الدعم لنظام الأسد قديماً وحديثاً والوقوف لجانبه، وقد ظهرت نواياهم أيام الثورة، ورأينا ذلك بأعيننا. وتتمة لهذه اللعبة الخبيثة قام نظام الأسد بإنشاء مخفراً للشرطة على كتف الجسر ليكون عيناً له وبؤرة استخبارية هناك.

ولقد لعب هذا الجسر فعلاً أهميّة كبرى لدى المجرم بشار في بداية الثورة السورية، فقد كانت عناصر المخابرات ترصد عليه مظاهرات يوم الجمعة عند جامع الحسن، وجامع منجك، وجامع زين العابدين، فكان يَكمنُ فوقه القنّاصون فيرمون أبناءنا واحداً تلو الآخر في مقتلهم، وكذلك كاميرات شبيحة الإعلام والتلفزيون تلتقط صور الثوار بدقّة عالية عند المساجد وفي الشوارع، ثمّ ترسلها لفروع المخابرات ليتمّ اعتقالهم بعدها وتصفيتهم في المعتقلات.

ولن يذهب من ذاكرة أهل الميدان ما فعله هذا الجسر في حرب الميدان 2012 فقد خدم ميليشيات الأسد وحزب الله خدمة كبيرة، فقد كان بمثابة قاعدة للدبابات ومدافع الهاون التي قصفتْ الحيّ من فوقه، فدمرتْ البيوت والمساجد، وهجّرتْ الأهالي، وحولتْ الحيّ إلى خراب، وكان دور ذلك المخفر المحاذي للجسر أنّه نقطة تفتيش، ومركز تجمع الشبيحة، وحاجز لاعتقال وقنص وتعذيب الثوار في الحيّ.

كما ترتكز أهميّة هذا الجسر لدى نظام الأسد وميليشياته أنّه باتَ خطّاً سريعاً لإمداد عناصره وشبيحته، فلا تفصل الفروع الأمنيّة عن حيّ الميدان سوى دقائق معدودة حتى تنتشر الشبيحة فتغطي المنطقة بكاملها، ففرع المنطقة، والمزّة، والمخابرات الجوية في غرب الجسر، وفرع فلسطين في شرقه.

ومع بداية الانتخابات الوهمية في سورية قامتْ فروع المخابرات بتوجيه عناصرها وأعوانها لإقامة الحفلات الداعمة لمرشحهم بشار في المناطق التي يحكمها صُورياً، وأبدتْ شيوخ الظالم ولائها بشكل فوري، فتجمهرتْ شرذمة تلبسُ لبوسَ المتدين وتدين بفكر المجرم في حيّ الميدان المجاهد وتحت ذلك الجسر، داعمة إجرام السفاح في ترشحه المخادع، مبايعة له في مسرحيته الانتخابية، مُتحدّية الحيّ وأهله، ولسان حالهم يقول: كما أنّ هذا الجسر مزّق حَيَّكُم وفرّقَ جمعكم سنكون نحن بعمائمنا جسراً جديداً ومداساً فريداً لعبور الطغاة والمجرمين والخونة.

أمّا جوابي لرسالة الأخوة من هذا الحيّ العريق: الظلم لن يدوم، وللظالم أعوان بأشكال مختلفة، بهيئة شيخ واعظ، أو داعية متملق، أو مُنفق منافق، أو تاجر فاجر، أو مدير ناهب لجمعية خيرية، أو فقير يقبل الذلّ من أجل رغيف الخبز ويجبن عن كلمة الحق. إنّ هذا الحيّ سيعود لرونقه وبهجته وعزّه عندما نتساعد جميعاً في كشف هؤلاء المتقمصين المنافقين على حقيقتهم، وفضحهم والتشهير بهم حتى لا ينخدع النّاس بهيئتهم وكلماتهم المنمقة، فزوال الاتباع علامة على زوال المتبوع. وكما يقولون في المثل: (قالوا: يا فرعون من فرعنك؟ قال: ما رأيتُ من يردني). فنهاية الطاغية تبدأ بنهاية من جعله طاغية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين