الحاج يعود إلى وطنه

الشيخ : عبد الله نجيب سالم

أمنيات تَتحقق... وثمرات تُقتطف
بعد الانتهاء من مناسك العمرة والحج، وبعد القيام بزيارة المدينة المنورة ومشاهدها العظيمة، يكون الحاج قد حقق أمنية من أكبر أمانيه، وهي الإتيان بركن الحج أحد أركان الإسلام الخمسة، على أفضل وجه وأحسن هدي.
وأول ثمرات ذلك أن يحس المرء بأنه قد انغمس في بحار نعمة الله غمسة أسقطت عنه كل ذنب بينه وبين الله، فإذا أضاف إلى ذلك قضاء ما فات من واجبات، وردّ ما عليه من حقوق للخلق، فقد سقطت عنه آثام كل الذنوب قاطبة، حتى يعود كيوم ولدته أمه، بصحيفة بيضاء ووجه مشرق ومغفرة تامة.
 
مغفرة وإيمان ... وآفاق من العمل الصالح:
هذا المعنى هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
ـ " من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه "(1) . ويؤكد عليه الحديث الآخر المروي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ـ " تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة جزاء إلا الجنة "(1).
 
ولذا فيعود الحاج حين يعود، وقد قرت عينه بالمغفرة، وامتلأت نفسه بالإيمان، وقوي عزمه على مقاومة الهوى والشيطان، وفتح أمامه صفحة جديدة وأُفْقاً من العمل واسعاً.
 
عود على بدء... الطريق إلى الأهل
ويسن للمسافر في الرجوع إلى وطنه أن يدعو بدعاء السفر: وهو سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون.
 
كما يضيف إليه القول المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم : آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون.
 
وأن يكبر على كل شَرَف (أي مرتفع من الأرض)، طيلة عودته في الطريق.

ويستمر على حاله ذلك، وهو في طريق عودته، لا يلهيه الشوق إلى الأهل عن لوعة فراق البيت، ولا التفكير في الدنيا عن طلب الحسنة في الآخرة، كما قال سبحانه:

ـ (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ، وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(1).
 
ولا يفوت الحاج أن يقول عند دخوله كل بلدة في طريق عودته إلى وطنه     - خاصة إذا كان يريد التوقف فيها - اللهم إني أسألك من خير هذه وخير ما جَمَعَتْ فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما جمعت فيها، اللهم ارزقنا حَيَاها (أي خصبها) وأعذنا من وباها، وحبِّبْنا إلى أهلها، وحبب صالحي أهلها إلينا.

على أطلال الأوطان ! ودعاء بالمغفرة
وقبل أن يصل إلى بلدته يستحب له أن يرسل إلى أهله خبراً بقرب وصوله، ليكونوا مطمئنين عليه مستعدين لاستقباله، فإذا وصل بلدته استحب له أن يبدأ بالمسجد ـ إن أمكن ـ فيصلي فيه ركعتين، كما كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم(2).
 
فإذا أراد دخول بيته قال: توباً توباً، لربنا أوباً، لا يغادر حوباً.
هذا ولا بأس أن يُتَلَقّى الحاج والمسافر من ظاهر بلدته، وهي سنة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعادة مضت عليها الأمة الإسلامية في شتى بلدانها، خاصة وأن العائد من الحج في الزمن الماضي عائدٌ من سفر شاق مضنٍ، فيه كثير من المظان، كما أنه يعود محمّلاً بالذكريات الحية الطرية التي تهفو إليها النفوس، وتشتاق لسماعها الآذان، وتبرق لأنوارها العيون.
 
وعند استقبال الحاج العائد يدعو المستقبلون والزائرون للحاج بالخير، وبما ورد في الحديث الشريف:

- " قَبِلَ الله حجك، وغفر ذنبك، وأخلف نفقتك "(1)...
كما يطلبون منه أن يدعو لهم بالمغفرة والخير، فهو مرجو الإجابة مغفور الذنب مشمول بالرحمة ونظر الرضى الإلهي، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

ـ " اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج "(2).
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ـ " إذا لقيت الحاج فسلمْ عليه، وصافحه، ومُرْه أن يستغفر لك قبل أن يدخل بيته، فإنه مغفور له ".
 
الحج ... بين الماضي العبق، والحاضر الميسور
وكان الحج في الماضي يعني تحمل المشاق والمخاطرة بالنفس ومفارقة الأهل والأوطان مدة طويلة، وكان ذا بهجة وسرور وعادات طيبة وأعراف محمودة، سواء عند وداع الحاج، أو عند استقباله...
 
كان الحاج إذا ذهب هبَّ الجميع لوداعه وداعاً صادقاً، كأنما هو رسولهم إلى المؤتمر الأكبر، والنائبُ عنهم في حضور الموقف العظيم، فإذا عاد سارعوا إلى الاستعداد بالزينات والطبول والأنوار، حتى إذا وصل تقاطروا للسلام عليه والتبرك به وطلب دعائه، فقد عاد إليهم محملاً بالأنوار والنفحات، يدعو لهم بما يرغبون به، ويحدثهم بما يطربون له، ويحمل إليهم ماء زمزم وتمرات المدينة، ومسابح الحرمين وأعواد الأراك وبخور الحجاز.
 
وإذا كان الحج في أيامنا هذه قد تميز بالكثير من التيسير والتسهيل، والأمان والراحة، والخدمات والرفاهية، فإنه بالمقابل فَقَدَ نتيجة عصر السرعة وضمور العاطفة وضعف الإيمان والتفكك الاجتماعي كثيراً من بهجته ورونقه ومعانيه وبريقه.
 
تذكر أيها الحاج
وعلى كل حال فما ينبغي أن تعود أيها الحاج من حجك إلا بحصيلة طيبة من الذكريات، تشوق بها من حولك، وتغذي بها روحك، وتقوي بها صلتك بربك.
 
فعِشْ أيها الحاج العائد في ظل مناسك الحج والعمرة، من الزهد في الدنيا، والتجرد عن المظاهر الخداعة، والتلبية الدائمة لأمر الله تعالى، والتوجه الصادق إليه في كل صلاة، وطرد الشيطان في كل موقف، وذبح الهدي عند كل شهوة، ورجم النفس الأمارة بالسوء، وهجر قرناء الشر، وترك أفعال المعصية، والتوبة الصادقة عن كل ذنب يلطخ صفحتك البيضاء وسجلك الناصع.
 
أيها الحاج: يا من وفدت على الله فأكرمك، وسألته فأعطاك، واستغفرته فغفر لك، ووقفت بين يديه بالذل والانكسار فتجلى عليك بالرضى والمحبة، أتريد أن تفرط في منحة من الله أُكرمت بها؟ أو عطية منه فُزْت بها أو محبة ورضى أُسبغا عليك ... فإياك إياك أن تكون ممن يستبدل الدنيا بالآخرة، وبيع العاجلة بالآجلة، ويتبع الشيطان في وسوسته، ويعرض عن الرحمن في شريعته.
 
حاسب نفسك محاسبة من ذاق لذة المناجاة، وأدبها أدب من حَرِص على نفحات السعادة، وألجمها عن نوازع الشهوة ودروب الفتنة، وصنها عن أوساخ المعصية وأدران الذنوب.
إن كنت تاركاً للصلاة، أو مانعاً للزكاة، أو مفطراً في رمضان، أو مقصراً في الإحسان إلى الجيران، أو عاقاً لوالديك، أو آكلاً للربا، أو شارباً للخمر، أو مرتكباً للزنا، أو مستبيحاً لمال اليتيم، أو غاصباً لحق مسلم، أو غير هذا وذاك، فاجعل الحج حداً فاصلاً بينك وبين كل ما يبعدك عن ربك، ويسود وجهك يوم الحساب، ويوردك النار وبئس العذاب.
 
تقبل الله يا حاج
وتذكر - أخي المسلم - دائماً كلما ناداك الناس: يا حاج! أنهم يقولون لك: يا طائعاً لربه، يا ملبياً، يا مكبراً، يا ساعياً، يا طائفاً، فلا يليق بمن هذا وصفه أن يبارز الله بالمعاصي، أو يتحداه بالذنوب.
 
اللهم اجعلنا ممن أكرمتهم بالحج المبرور والسعي المشكور...
اللهم اكتب لنا بكرمك أجر من دل على الخير وسعى فيه ووضَّحه وبيّنه.

اللهم أدم للحرمين عزهما، وبارك في كل من هوى فؤاده إليهما، واجعلنا ممن سار على الطريق إلى الله، وذاق لذة القرب منه، وحظي بنفحات الرضا عنه ... حتى لا يعود لنا مأرب أو رغبة أو توجه إلى سواك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه صلاة يرضى بها عنا ربنا كل الرضا، ويرفع بها مقام نبينا إلى الدرجة الرفيعة، وتكون لنا ذخراً في الآخرة والأولى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين