تواضعه وتياسره صلى الله عليه وسلم

ثم أتحدث إليكم في صفة بيّنة لبطل الأبطال صلى الله عليه وسلم، كانت ولا تزال على مرِّ الأجيال بادية واضحة في طبعه الكريم، تلك هي: التياسر والتواضع، فبهما كان محمد صورة صادقة لكرامة الإنسان، يؤتاها من صميم نفسه، ولا يصطنعها مما يحيط به من مظاهر خادعة متكلفة.

كان محمد التياسرَ نفسه يتمثل في الرجل الكامل، ويبعث من أعماق قلبه، فيبدد ما يتجمع حوله من زخرف السيادة والملك، وما يتبعهما من الرياء والزينة، وما يُخدَع به الناس من قول أو فعل، كان محمد قريبًا هينًا سهلًا، يلقى أبعد الناس وأقربهم، وأصحابه وأعداءه، وأهل بيته ووفود الملوك بلا تَصَنُّع ولا تَكَلُّف، بل بالحق سافرًا؛ فكانت أعماله تصدر طبيعية، كل منها يدل على خُلقه، كما تدل الصورة على صاحبها.

واسمعوا إلى عدي بن حاتم الطائي يروي قصته، وقد قدم إليه من الشام، بعد أن فتحت جيوش المسلمين بلاده، وبعد أن فر إلى الروم هاربًا.

يقول، وقد كان يظن أنه سيلتقي مَلِكًا في المدينة: دخلت عليه وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ فسلَّمت عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَنِ الرَّجل؟» فَقُلْتُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم، وَانْطَلَقَ بِي إِلَى بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَعَامِدٌ بِي إِلَيْهِ؛ إِذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ، فَاسْتَوْقَفَتْهُ، فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلًا تكلِّمه فِي حَاجَتِهَا، قَالَ: فقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ، قَالَ: ثمَّ مَضَى بِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم حتَّى إِذَا دَخَلَ بي بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةً لِيفًا، فَقَذَفَهَا إليَّ فَقَالَ «اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ»، قَالَ: قُلْتُ: بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا، فقَالَ: «بَلْ أَنْتَ»، فَجَلَسْتُ عليها وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم على الْأَرْضِ، قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ، ثُمَّ قَالَ: «إِيهِ يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيًّا[1]؟» قال: قلت: بلى! قال: «أو لم تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِكَ بِالْمِرْبَاعِ[2]» قَالَ: قُلْتُ: بَلَى! قَالَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ» قَالَ: قُلْتُ: أَجَلْ! وَاللَّهِ.

قَالَ: وَعَرَفْتُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّكَ يَا عَدِيُّ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ، فَوَاللَّهِ لَيُوشِكَنَّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ، حتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ، وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، فَوَاللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لَا تَخَافُ، وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنَّكَ تَرَى أَنَّ الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ، وَايْمُ اللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ»، قَالَ: فَأَسْلَمْتُ[3]. ولقد عاش عديٌّ حتى رأى القادسية والقصور البابلية مفتحة للعرب.

هذه طبيعة محمد؛ لا طلاء عليها، يأتيه عَدِيٌّ وقد وقع بعض أهله قبل ذلك أسرى لجيوشه، يأتيه مغلوبًا فيجلسه على وسادة، ويجلس هو على الأرض، ويحدثه بلا كُلفة عما كان، وما يعتقده كائنًا.

ثم انظروا إليه وقد مات ابنه إبراهيم، فكسفت الشمس، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فيقوم في المسجد يقول: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله؛ لا تنكسفان لموت أحد، ولا حياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله، وصلُّوا وتصدَّقوا»[4].

هذه هي النفس البريئة التي تعشق الحق للحق، وتتعالى في تواضع عن استغلال وهم من الأوهام، أو مصادفة من المصادفات، بل تأبى السكوت على سخف أو ضلال، ولو كان من شأنه أن يبهر العامة.

وهاكم ما يروي جابر بن عبد الله عما وقع له، قال: كَانَ بِالْمَدِينَةِ يَهُودِيٌّ، وَكَانَ يُسْلِفُنِي فِي تَمْرِي إِلَى الجذاذ[5]، فخاست (أي تأخر ثمرها) عامًا، فجاءني اليهودي عند الجَذاذ، ولم أجد شيئًا، فجعلت أستنظره إلى قابل، فيأبى، فأخبر بذلك النبي، فقال لأصحابه امشوا نستنظر لجابر من اليهودي فجاءوني في نخلي فجعل النبي يكلم اليهودي فيقول: أبا القاسم لا أنظره فقام النبي فطاف في النخل، ثم جاءه فكلمه فأبى، فقمت فجئت بقليل رطب، فوضعته بين يدي النبي، فأكل ثم قال: أين عريشك يا جابر؟ فأخبرته، فقال: افرش لي فيه، ففرشته، فدخل فرقد، ثم استيقظ، ثم جئته بقبضة أخرى فأكل منها، ثم قام فكلم اليهودي، فأبى عليه: فقال: يا جابر جذ واقض، (أي اقطع التمر، واقض دينك). ويقول جابر: إن الله بارك فيه فقضى الدين وزاد[6].

والحكاية تُصَوِّر لنا تياسرَه وتواضعَه في سعيه بين اليهودي وجابر، وأكله ونومه، ولين جانبه، فلم يزد بعد أن يئس من اليهودي على أن يأمر صاحبه بأداء ما عليه.

انظروا كذلك إليه؛ كيف يستأذن على أحد أصحابه، وكيف ينصرف؟

يقول قيس بن سعد: زارَنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في منزلنا، فقال: "السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ" فرد أبي ردًا خفيا. فقلت لأبي: ألا تأذن لرسول الله؟ فقال: ذره حتى يكثر علينا من السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع فأتبعه سعد، فقال: يارسول الله: إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردًا خفيًا، لتكثر علينا من السلام. فانصرف معه النبي، وأمر له سعد بغسل فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران، فاشتمل بها ثم رفع يديه، وهو يقول: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد. فلما أراد الانصراف قرب له سعد حمارًا، فقال سعد: يا قيس اصحب رسول الله، فصحبته، فقال: اركب معي، فأبيت، فقال: إما أن تركب وإما أن تنصرف، فانصرفت[7]

هذه زيارة سيد العرب والعجم لأحد أنصاره من كبار المدينة، تمر في غير حفل، ولا ظهور، يذهب إليه ماشيًا، ويعود على حمار؛ يريد أن يُردِف عليه رفيقه، تلك السجية الطاهرة لم تَحُل دون أن يكون أمر محمدٍ مطاعًا، وطاعته قُربة، فإن يحسب الناس أن مظاهر الرياسة والسلطان لازمة لحسن الولاء، واستدامة الطاعة؛ فلقد كان ولاء سعد والأنصار لمحمد المتواضع مضرب الأمثال في تاريخ الدعوة الإسلامية.

ولم تكن دعوته قيسًا إلى الركوب معه على الحمار أمرًا غريبًا، بل كانت هذه عادته؛ يُردف على حماره وبغلته وناقته، ويُعاقب[8] مع رفاقه، قال ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قَدِمَ مكة؛ استقبله أُغَيلمة بني عبد المطلب، فحمل واحدًا بين يديه، وآخر خلفه[9]، وقال معاذُ: كنت ردف رسول الله على حمار يقال له عُفير[10].

وجاء إليه رجل وهو يمشي، فقال: اركب وتأخر على حماره، فقال محمد: أنت أحق بصدر دابتك مني، إلا أن تجعله لي، فقال الرجل: فإني جعلته لك [11].

ويقول جابر: كان رسول الله يتخلَّف في المسير، فيرْجِي الضَّعِيفَ، (أي يسوقه ليلحق الرفاق)، ويُرْدِفُ، ويَدْعُو لهم[12].

ولم يكن أبغض إليه صلى الله عليه وسلم من الكبر والخيلاء؛ فقد قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»[13].

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية(أي كبرها) إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب[14].

هذا الحديث يَنُمُّ بمعناه وعبارته على مقدار غضب محمد إذا ذُكِرَ الكبر والمتكبرون، ولو كان للناس أن يفخَروا بآبائهم لما كان في جزيرة العرب أحق بالفخر من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَيٍّ، ولكن محمدًا لا يرى في المجتمع الذي أقامه إلا هيئة تتساوى فيها الحِرَف، والمراتب، والأعمال، والأحساب، والأنساب، ولا تفاضل عنده إلا بالعمل الصالح يرفع صاحبه.

كان مرة في سفر مع صحبه، فأرادوا أن يهيئوا لهم طعامًا، فقسموا العمل بينهم، فقام يجمع الحطب، فأرادوا أن يكفوه ذلك فأبى؛ لأن الله يبغض الرجل يتعالى على رفاقه.

ولما قف عليه أعرابي يرتجف خشية زجره وذكَّره أنه ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد [15].[16].

وخرج على جماعة من أصحابه يتوكأ على عصًا، فقاموا له، فقال: «لا تَقُومُوا كما تَقُومُ الأعَاجمُ، يُعَظمُ بعضُها بعضًا»[17]، وكان يرى كذلك في تقبيل اليد تشبهًا بالأعاجم، وينهى عنه.

وكان محمد يكره الإطراء والألقاب: انطلق إليه وفد بني عامر، فلما كانوا عنده، قالوا: أنتَ سيّدُنا، فقال: «السَّيدُ الله»، فقالوا: وأفضلُنا فَضْلًا، وأعظَمُنا طَوْلًا، فقال: «قولوا بقَولكم، أو بعضِ قولكم، ولا يَسْتَجْرِيَنَّكُم الشَيطانُ»[18].

ويقول أبو بكر رضي الله عنه: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ»[19]، أي أهلكته بالإطراء والمدح والتعظيم، فإنه يعجب بذلك فيهلك، كأنه قطع عنقه.

ويقول أبو هريرة: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحْثُوَ فِي أَفْوَاهِ المَدَّاحِينَ التُّرَابَ[20].

وكان محمد صلى الله عليه وسلم يكره كذلك الخُيَلاء والتفاصح والتأثير في الناس بالقول المزخرف، ويقول: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: «المُتَكَبِّرُونَ»[21]، والثرثارون هم الذين يكثرون الكلام تكلفًا، والمتشدقون: هم الذين يتكلمون بملء أفواههم تفاصحًا وتعاظما.

وكان يكره الخطيب يسلب بفصاحته ألباب الناس، ويملك حواسهم، قال صلى الله عليه وسلم: «من تعلَّم صَرْفَ الكلامِ لِيَستبي به قلوبَ الرِّجالِ لم يقبلِ اللهُ منهُ يومَ القيامةِ صرفًا ولا عدلًا»[22].

وكان يقول: «هلك المتنطعون ويكررها»[23]؛ بُغضًا منه في التعمق والتفاصح، كان كل ذلك نفورًا بطبعه الميسر المتواضع من التظاهر والرياء والتكلف.

كان في تياسره جم التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، وينصرف بكله إلى محدثه صغيرًا أو كبيرًا، ويكون آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا تصدق وضع الصدقة بيده في يد المسكين، وإذا أقبل جلس حيث ينتهي المجلس بأصحابه، لم يكن يأنف من عمل يعمله لقضاء حاجته أو حاجة صاحب أو جار؛ فكان يذهب إلى السوق، ويحمل بضاعته، ويقول: أنا أولى بحملها، ولم يستكبر عن عمل الأجير والفاعل، سواء كان في بناء مسجد المدينة، أو في الخندق، وهو أمير الجيش يدفع الأحزاب.

وكان محمد صلَّى الله عليه وسلَّم كذلك متواضعًا في ملبسه وسكنه، يلبس كعامَّة من حوله، ويسكن - وقد واتته الدولة والسلطان - في صف من حجرات واطئة مبنية باللبن، بين كل حجرة وأخرى حائط من جريد النخل، ملبس بالطين، ومُغَطًّى بجلد أو كساء أسود من الشعر، وكان يجيب دعوة الحر والعبد والأَمَة والمسكين، وَيَقْبل عذر المعتذر، وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله بيده، ويخدم نفسه، ويعقِل بعيره، ويأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس[24].

كان هذا التياسر والتواضع الصادق من نفسه الطاهرة، والذي هو صورة صادقة له، لم يَنقُص من هيبته ولا محبته، وقد قيل في وصفه: من رآه بداهة هابه، ومن عاشره أحبه[25]، فكانت علاقة أصحابه والناس به علاقة أدب جمّ، وحب ووقار كامل، ولم يتكبَّر، ولكنه لم يرضَ سوء الأدب، وكثيرًا ما بيَّن لأصحابه كيف يتصرفون في حضرته، وفي خطابه.

يقول السير وليم موير، وهو من نقاد محمد الصرحاء، في وصف تواضعه وتياسره: كانت السهولة صورة من حياته كلها، وكان الذوق والأدب من أظهر صفاته في معاملته لأقل تابعيه، فالتواضع، والشفقة، والصبر، والإيثار، والجود، صفات ملازمة لشخصه، وجالبة لمحبة جميع من حوله، فلم يعرف عنه أنه رفض دعوة أقل الناس شأنًا، ولا هدية مهما صغرت، وما كان يتعالى ويبرز في مجلسه، ولا شعر أحد عنده أنه لا يختصه بإقباله وإن كان حقيرًا.

وكان إذا لقي من يفرح بنجاح أصابه أمسك يده، وشاركه سروره، وكان مع المصاب والحزين شريكًا شديد العطف، حسن المواساة، وكان في أوقات العسر يقتسم قوته مع الناس، وهو دائم الاشتغال والتفكير في راحة من حوله وهناءتهم.

ولسنا في تاريخ محمد بحاجة إلى أحد؛ فإن مما اختص به من بين رسل العالم وأبطاله، وضوح حياته وجلاءها من جميع نواحيها، وإنما سُقنا عبارة السير موير هنا لشعورنا أنها صادرة عن إعجاب صادق؛ ولو أننا درسنا سيرة محمد الدراسة اللائقة بها، لكان اليوم حيًّا في قلوبنا، كما كان حيًّا بين أصحابه، ولوجدنا الصورة التي طبعها على الوجوه بعمله وقوله لا تزال واضحة وضوح نفسه العظيمة، المتحلية بأخلاق لا يغطيها طلاء، ولا يحجبها رياء، ولا ترى إلا على حالة واحدة في الليل والنهار، وفي السر والعلانية، وفي الشدة والرخاء، وفي الضعف والقوة، في السوق وهو في شبابه، وفي الشيخوخة وهو على عرش النبوة والملك، وكان محمد بأخلاقه شخصية من اليسر والتواضع لا تبديل ولا تغيير فيها، هي النفس التي اتصلت بالسماء، وعاشت على الأرض، دانية إلى الناس، محببة إليهم، ففي كل أطوار حياته كان بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم، المثل الذي نحن اليوم أحوج ما نكون إليه، ذلك المثل الذي قام عليه النظام الاجتماعي الإسلامي، والذي جعل الناس سواء، في نطاق الأخوة الإسلامية، لا يرفع من شأن أحدهم غنى أو جاه، أو حسب أو نسب، وإنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، والناس من آدم، وآدم من تراب[26].

من كتاب" بطل الأبطال"

تحقيق وتعليق الدكتور علي عبد العظيم علي

[1] الرّكوسية: فرقة لهادين ومذهب بين النصارى والصائبة.(فرقة كانت لا تؤمن بالله الواحد).

[2] ربع الغنيمة الذى كان يأخذه الرئيس في الجاهلية.

[3]البداية والنهاية (5/77).

[4] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، أبواب في الكسوف، باب: الصدقة في الكسوف، برقم (1044) من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها.

[5] الجذاذ: قطع الثمر(المؤلف).

[6] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب: الأطعمة، باب: الرطب والتمر، برقم (5443) من حديث جابر رضي الله عنه.

[7] أخرجه الإمام أبو داوود في سننه، (7/483)، أبواب النوم، باب: كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان، من حديث قيس بن سعد، برقم (5815)، وقال محققه شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف.

[8] المعاقبة: أن يركب واحد مرة ويركب الثاني أخرى (المؤلف).

[9] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب: اللباس، باب: الثلاثة على الدابة، برقم (5965) من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنه.

[10] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب: الجهاد والسير، باب: اسم الفرس والحمار، برقم (2856) من حديث معاذ رضي الله عنه.

[11] أخرجه الإمام أبو داوود في سننه، (4/219)، أول كتاب الجهاد، باب: رب الدابة أحق بصدرها، برقم (2572) من حديث بريدة رضي الله عنه. وقال محققه شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره.

[12]

[13] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه، برقم (147) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[14] أخرجه الإمام الترمذي في سننه، (5/734)، أبواب المناقب، برقم (3955) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال محققه الشيخ شاكر: هذا حديث حسن.

[15] القديد: لحم مملوح يجفف في الشمس (المؤلف).

[16] أخرجه الإمام ابن ماجه في سننه (4/430)، أبواب الأطعمة، باب: القديد، برقم (3312)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وقال محققه شعيب الأرنؤوط: صحيح ورجاله ثقات.

[17] أخرجه الإمام أبو داوود في سننه، (7/516)، أبواب: النوم،باب: الرجل يقوم للرجل يعظمه بذلك، برقم (5230) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وقال محققه شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف.

[18] أخرجه الإمام أبو داوود في سننه، (7/184)، أول كتاب الأدب، باب: في كراهية التمادح، برقم (4806)، من حديث مطرّف رضي الله عنه عن أبيه. وقال محققه شعيب الأررنؤوط: إسناده صحيح.

[19] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب: الشهادات، باب: إذا زكى رجل رجلًا كفاه، برقم (2662) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه.

[20] أخرجه الإمام الترمذي في سننه، (4/600)، أبواب الزهد، باب: ما جاء في كراهية المدحة والمداحين، برقم (2394) من حديث أبي هريرة. وقال الشيخ شاكر: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ» لكن أورده الأمام مسلم وغيره، عن المقداد رضي الله عنه.

[21] أخرجه الإمام الترمذي في سننه، (4/370)، أبواب البر والصلة، باب: ما جاء في معالي الأخلاق، برقم (2018) وقال محققه الشيخ شاكر: وَفِي البَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الحَدِيثَ، عَنِ المُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ وَهَذَا أَصَحُّ.

[22] أخرجه الإمام أبو داوود في سننه، (7/354)، أول كتاب الأدب، باب: في المتشدِّق في الكلام، برقم (5006) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال محققه شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف.

[23] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب: السنة، باب: هلك المتنطعون، برقم (4608) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[24] كل ما سَرَدَه المؤلف له مرويات تؤكده، ولكن تحاشيت إثباتها اختصارًا.

[25]أخرجه الإمام الترمذي في سننه، (5/559)، أبواب المناقب، برقم (3638)، وقال محققه: حسن غريب.

[26] هذا مأخوذ من حديث رواه أبو داوود عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله عزَّ وجلَّ قد أذهبَ عنكم عِبِّتَّةَ الجاهِليَّةِ وفَخْرَها بالآباء، مُؤمِنٌ تقيٌّ، وفَاجِرٌ شقيٌّ، أنتم بنو آدَمَ، وآدمُ مِن تُرابِ، لَيَدَعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوامِ، إنما هم فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جهنمَ، أو ليكونُنَّ أهونَ على الله من الجِعْلانِ، التي تدفَعُ بأنْفِهَا التتْنَ" سنن أبي داوود (7/348)، أبواب النوم، باب: التفاخر بالأحساب، برقم (5116)، وقال محققه شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين