ويسألونك عن الحرية

الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، ولقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً، وسنقضي العمر كله مكافحين من أجل أن نتحرَّر، عسى أن نموتَ - كما وُلِدْنا – أحراراً، صحيح أنه لم يأتِ ذكر الحرية "لفظاً صريحاً" في القرآن الكريم، ولكن رحم الله سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قال: "متى استعبدتُم الناسَ وقد ولدتْهُم أمهاتُهُم أحراراً؟"(1)، وكان الصحابة يقول قائلهم أثناء فتوحات البلدان: "اللَّهُ ابْتَعَثَنَا، وَاللَّهُ جَاءَ بِنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الإِسْلامِ"(2)، وقال علي رضي الله عنه: "لا تكن عبدَ غيرِك وقد جعلَكَ الله حُرّاً"(3).

وكل ما في الدنيا يحب الحرية حتى الحيوانات والطيور، والبلبل بطل الحرية رغم ضعفه وصغر حجمه، فدعوا الناس تقرع أبواب الحرية لتتنفس أريج الحياة، فعنترة بن شداد لما قال له أبوه: "كُرْ يا عنترة"، فقال: "العبدُ لا يحسِن الكَرّ إنّما يُحْسِنُ الحلابَ والصّر"، فقال له: كُرْ وأنت حُرّ"(4).

لقد استعبد بعض البشر بعضاً عبر التاريخ، كفرعون الذي أذاق بني إسرائيل ذلَّ العبودية، ولذلك امتنَّ الله على بني إسرائيل لما نالوا الحرية بعد استعبادهم، فقال سبحانه: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [ البقرة: 49]، وكان فرعون يَمُنُّ على كليم الله موسى عليه السلام أنه لم يستعبده كما استعبد قومه، فما كان من موسى إلا أن رَدَّ عليه قائلاً: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [ الشعراء: 22]، أي: أنا فرد واحد، وهؤلاء جميعاً قومي، وقد استعبدتهم على كثرتهم وعددهم، فأين منَّتُك عليَّ أنك لم تستعبدني!

وها نحن اليوم نجد لكلمة الحرية بريقاً عالمياً جذاباً، فكل الثورات تجعل من شعارها (الحرية)، وقلّما تجد حزباً في الدنيا إلا وقد جعل من مبادئه وشعاراته (الحرية)، إلا أنه لا حرية في الكون بلا قيود، فالدعوة للحرية ليس معناها دعوة للانفلات والفوضى والهمجية، بل الحرية قيمة عظيمة في الإسلام، وقد ورد في إعلان حقوق الإنسان الصادر عام 1789م أن الحرية: هي «حق الفرد في أن يفعل ما لا يضُرّ بالآخرين»، والحكمة تقول: أنت حُرّ ما لم تضُرّ، والحرية في الإسلام هي: «ما وهبه الله للإنسان من مكنة التصرف لاستيفاء حقه وأداء واجبه دون تعسف أو اعتداء»(5).

إن للحرية في الإسلام مكانتها السامية، حيث أطلقها الإسلام حتى في اختيار عقيدة الدين الإسلامي كما نص على ذلك قول الله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان:3] فهو سبحانه بذلك قرَّرَ للإنسان حريته بأسمى الأمور وهي الإيمان والعقيدة، وحمّله مسئولية حريته في ذلك، وهذا هو العدل التام، وأقام عليه الحجة بما أعطاه من حرية قوامُها الإرادة والاختيار والعقل، وإذا تأملنا قول الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256] نجد أن الإسلام رفع الإكراه عن المرء في عقيدته، وأقر أن الفكر والاعتقاد لا بد أن يتسم بالحرية، وأن أي إجبار للإنسان، بتخويفه أو تهديده على اعتناق دين أو مذهب أو فكرة؛ باطل ومرفوض، لأنه لا يرسخ عقيدة في القلب، ولا يثبتها في الضمير، لذلك قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].

وهذه الحرية للذكر والأنثى، فالإنسان يتزوج من يشاء، والمرأة ترضى بمن تشاء، فمن شاءت وافقت على الزواج منه، ومن شاءت أبتْ الزواج منه، حيث لها الحرية في ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: (لاَ تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَلاَ الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: إِذَا سَكَتَتْ)، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19]، وهذه الحريات التي منحها الله تعالى للبشر ثابتة، ومقررة وهي من العيش الكريم.

وأول تجربة لممارسة الحرية كانت لأبينا آدم عليه السلام حينما قال الله تعالى له: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 35].

فقد منحه الله تعالى الحرية بقيد واحد فقط، وهو عدم الأكل من الشجرة، وهذا القيد لا يعني أنه لا يستطيع أن يمارس حريته، بل يستطيع ممارسة الطاعة والمعصية، ويمارس حريته الكاملة ولكن عليه أن يتحمّل مسؤولية المخالفة في الدنيا والآخرة، فما من مخالفة إلا وظلْمٌ يحيق بالنفس والآخرين لذلك قال سبحانه: ﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فلا حرية في معصية، ولا يمكن أن يقال: أن هناك حرية في سَبِّ الذات الإلهية، أو أحد أنبيائه ورسله، أو التطاول على ثوابت الدين وأحكامه وشرائعه، ولا يمكن أن تترك عقوبة الزاني إذا كان راضياً بفعله هو والزانية؛ لأن الله ليس براض، كما لا يمكن أن يكون الربا حلالاً إذا كان المرابيان الآخذ والمعطي راضييْن؛ لأن الله لا يرضى لعباده المعاصي والآثام؛ لما في ذلك من ضرر يعود على الفرد والمجتمع معاً، فالحرية المطلقة بغير قيود ولا حدود، هي سلوك فوضوي مفسِد ومدمِّر، لايليق بكرامة الإنسان صاحب الرسالة، ولا بحياته ومجتمعه.

إن حقيقة التلازم بين الحرية والمسؤولية في حياة الإنسان أشبه بحال السائق وقواعد نظام السير: فأنت حُرّ أن تركب سيارتك باختيارك، وتسير حيث تشاء، لكنك مطالب بمراعاة قواعد نظام السير واحترامها، حفاظاً على سلامتك وسلامة غيرك، ولو سِرْتَ بحرية مطلقة في الطريق العام بغير انضباط ولا التزام، جنيتَ على نفسك وعلى غيرك وعلى النظام العام.

والحرية الحقيقية هي حرية الرأي وليست حرية الجسد، فكم من جسد حُر وهو سجين، وكم من سجين حُر وهو خلف القضبان! فلا حرية مع الإكراه، لأن الإكراه يفسد اختيار الإنسان، ويجعل المكره مسلوب الإرادة، فينتفي بذلك رضاه واقتناعه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)(6) وإذا فقد العبد حريته في العمل، ومشيئته في الاختيار، صار مجبراً مكرهاً، فلا يؤاخذه الله تعالى على أفعاله، وأما ما عمله باختياره وحريته، فإن الله تعالى سيحاسبه عليه، ولذا جاء الشرع بتحريم بيع الحُر، وجعله من الكبائر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي، ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ)(7).

إلا أن هناك أنواعاً من العبوديات غير صريحة يختارها بعض الناس اختياراً فَطِنَ لها أعداء الله تعالى، الذين لا يريدون للشعوب أن تتحرَّر لأن نهايتهم بتحرره، فهم يحاولون استعباد الشعوب بأي وسيلة كانت، ولذا ابتكروا طرقاً جديدة في فتح أبواب العبودية، وجعلوهم عبيداً لأفكارهم بما يهيمنون عليه من وسائل الإعلام، وعبيداً لشهواتهم بما يثيرونه فيهم من غرائز، وعبيداً للدرهم والدينار بما يجذبونهم إليه من ألوان المتع واللذة المحرمة، وهكذا انتشرت حريات هي في حقيقتها عبوديات، فحرية الغريزة جعلت بعض الناس عبيداً تحركهم شهواتهم، حتى أصبحتَ تجدُ عبداً لامرأة، أو عبداً لكأس ومخَدِّر يدفع من أجله شبابه وثروته، بل ربما أصبح يسرق لأجل الحصول عليه، فصار هناك عبيد للنساء والشهوات، وعبيد للمخدرات والمسكرات، وعبيد للمال والثروات، وهنالك من هو عبد للثياب والقماش، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ)(8).

فلا تكن أخي الكريم إلا عبداً لله وحده، لأن العبودية لله تنقذ الشاب من مستنقعات العشق، وتخلِّصُ المدمنَ من مخدّر سقط في وحله، وتطهِّرُ السكران من خمرٍ قد لعب بكِلْيته ومزَّق أحشاءه، فالعبودية لله وحده تحرّرُ الناس من التعلُّق بغيره سبحانه وتعالى وتجعلهم أحراراً كِراماً، كما أنهى عبودية بلال الحبشي، وقضى على عبودية سلمان الفارسي، وحرَّر صهيباً الرومي، وغيرهم ممن استعبدوا في يوم من الأيام.

إذن الحرية في الإسلام ليست سائبة ولا مطلقة حتى تهوي بصاحبها إلى قاع الضلال الروحي ودرك الانحطاط الأخلاقي والفوضى الاجتماعي، بل هي حرية واعية منضبطة، فإذا خرج بها الإنسان عن أحكام الدين ونطاق العقل وحدود الأخلاق ومصلحة الجماعة؛ تَمَّتْ مساءلتُه ومحاسبتُه وإيقافه عند حدّه وردّه عن غيِّهِ، منعاً لضرر الفرد والجماعة، وفساد الدين والدنيا.

1 - تاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن الجوزي: 120.

2 - تاريخ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، محمد بن جرير الطبري، دار التراث – بيروت، الطبعة الثانية، 1387هـ: 3/520.

3 - أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه (شخصيته وعصره - دراسة شاملة)، علي محمد الصلابي، مكتبة الصحابة، الشارقة – الإمارات، 1425هـ 2004م: 1/344.

4 - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، دار الساقي، الطبعة الرابعة 1422هـ، 2001م: 10/59.

5 - مفهوم الحرية من المنظور الإسلامي، يوسف محمد أبو سليمة:2.

6 - رواه البيهقي في السنن الكبرى برقم: 15094.

7 - رواه ابن ماجه في سننه، برقم: 2442.

8 - رواه البخاري برقم: 2887.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين