من مدرسة التاريخ الحديث

الأيَّام تعيد بعضها وتكرِّر نفسها، لطالما ردَّد المحللون والسِّياسيُّون هذه العبارة؛ لإسقاط تجربةٍ مِن تجارب التَّاريخ على واقعٍ يريدون وصفه الآن، ومع احتفاظ كلِّ تجربةٍ بخصوصيَّتها النَّابعة مِن اختلاف معطيات الزَّمان والمكان والظُّروف، فإنَّ الإطار العامَّ بالمجمل يَسيرُ وفق قواعد الفطرة الإنسانيَّة وردات أفعالها، وقوانين علم الاجتماع وسننه.

وإنَّني أكتبُ هذه الخاطرة بعد أن دَرَسْتُ في حياتي الجامعيَّة تفاصيل المدارس الأدبيَّة المتلاحقة في العصر الحديث، بدايةً مِن أواسط القرن التَّاسع عشر حتَّى أواخر القرن العشرين، وكيف زرعت البذور الأدبيَّة والفكريَّة لكلِّ مدرسةٍ انطلاقًا مِن أوربا ودولها القوميَّة المختلفة، وانتقال هذه المدارس الأدبيَّة والسِّياسيَّة إلى الأمَّة العربيَّة بعد عقودٍ مِن ظهورها في أوربا، وقد كان الانتقال للتقارب في الظُّروف الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة التي تمرُّ بها هذه البلدان.

ولا بدَّ مِن التَّذكير أوَّلًا أنَّ الحياة الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة هي التي عكستْ على الأدب ومختلف الفنون هذه الاختلافات والمراحل، وكما يقول الأدباء: "فالأدب مرآة المجتمع".

وقد عادت بي الذَّاكرة إلى هذه المدارس ونظريَّاتها العامَّة بعد أنْ عشتُ الثَّورة السُّوريَّة في قلبها النَّابض في الغوطة الشَّرقيَّة قرب دمشق، ثمَّ خرجتُ منها بعد سنواتٍ مِن حصارها لأمرَّ على القلمون ثمَّ حمص ثمَّ إدلب وأعايش بإيجاز حال الثُّوار هناك، ومع الانتقال لإسطنبول عاصمة الثَّقافة والتَّاريخ والفنِّ في الشَّرق الأوسط، فسَنَحَتْ لي الأيَّام أن ألتقيَ بالعراقيين والمصريين والليبيين واليمنيين مـمَّن ألجأتهم ثورات الرَّبيع العربيِّ للهجرة إلى إسطنبول على اختلاف تيَّاراتهم ومشاربهم الإيديولوجيَّة والفكريَّة، مع زياراتٍ متقطِّعةٍ لبعض عواصم أوربا ولقاءِ مَن فيها مِن الجاليات العربيَّة وجماعات النَّشاط الدَّعوي فيها.

كلُّ ذلك جعلني أنظر إلى أيِّ ثورةٍ كطريقٍ لا بدَّ فيه مِن عدَّة مراحلَ تختلف مِن مكانٍ إلى آخر ومِن زَمَنٍ إلى غيره، لكنَّها تلتقي في النَّهاية في إطارٍ عامٍّ سببه الأكثر مَنْطِقيَّةٍ هو تقارب الظُّروف المحيطة بالمجتمع وما يعانيه ويواجهه.

فالمرحلة الأولى التي يُعايشُها المجتمع بأدبائه وساسته هي المرحلة التَّقليديَّة الكلاسيكيَّة التي تتعايش مع الأنظمة المستبدَّة الملكيَّة والدِّيكتاتوريَّات الجمهوريَّة، والتي تُجمِّل الواقع وتراعي ضوابطه السِّياسيَّة والاجتماعيَّة، ويكون فيها الأدب والسِّياسة أضعفُ الحلقات تأثيرًا، ويحكم هذه المرحلة الظُّلم والاستبداد والتَّفاوت الطَّبقي والسَّيطرة التَّامَّة على التَّوجُّه الدِّينيِّ والقيميِّ لتدجين المجتمع للسَّمع والطَّاعة، كلُّ هذه أسبابٌ كامنةٌ للثَّورة والتَّمرد على هذا الواقع.

هذه الثَّورة التي تنتظر أن يَشتعل فتيلها لسببٍ أو لآخر؛ لتكون ثورةً كاملةً على كلِّ حوامل هذا الواقع الـمُثار عليه بحكَّامه وطبقاته الاجتماعيَّة وأدبه ومرجعيَّاته الأخلاقيَّة والدِّينيَّة بل وغالبًا ما ترافقت هذه الثَّورات بردَّات فعلٍ مفرطةٍ إثر انتقالها مِن الاحتجاجات والإضرابات والتَّظاهرات للعنف العشوائيِّ أو العنف المنظَّم.

فلم يَشهد التَّاريخ استجابة الأنظمة الدِّيكتاتوريَّة للاحتجاجات والثَّورات الشَّعبيَّة، وإنَّما سبيل هذه الأنظمة على مرِّ التَّجارب التَّاريخيَّة هو البَطْشُ والقوَّة لفضِّ هذه الاحتجاجات، والذي يتولَّد عنها أدبٌ ثوريٌّ وعنفٌّ مقابلٌ، قد تَطُولُ شُهورُه وسنواتُه وتتعاظم ضحايا رَحَاهُ مما يُدخِل البلاد والمجتمع في فوضى عارمةٍ تَطغى فيها الاستثناءات على المبادئ التي كان يدَّعيها المستبدُّ، وعلى المبادئ التي نادى بها الثَّائرون عليه، ومع الانتقال مِن الوسط التَّقليديِّ الكلاسيكيِّ إلى الوسط الإبداعيِّ الثَّائر المتمرِّد تولَّدت مشاعر التَّحرر ونمت نموًّا مفرطًا قد يزيد بالحلم والخيال عن المستطاع والمنال، وتبدأ الملحمة الطَّويلة لينال الثَّائرون حريَّتهم المنشودة ويحققوا أضعاف ما طلبوه بادئ ذي بدءٍ، وطوال الصراع والثورة بمقدار ما يزيد من الأهداف ويرفع مِن سقف المطالب، فإنَّه يَبتعد عن الواقع شيئًا فشيئًا باتجاه المثاليَّة وما نسمِّيه بأحلام اليقظة التي تحيكها الأمنيات الجميلة.

الأمر الذي قد يَتسرَّبُ معه مشاعر اليأس والإحباط الذي تَرافق مع الكثير مِن أُدباء العصر الإبداعيِّ الرُّومنسيِّ وأدَّى إلى ظهور انتشار البُؤس والشَّقاء في الأدب الرُّومنسيِّ ثمَّ ظهور الواقعيَّة القديمة التَّشاؤميَّة فيما بعدُ.

وبالعودة للحديث عن المدارس الأدبيَّة وتصويرها للواقع الاجتماعيِّ والسِّياسيِّ فإنَّنا نقف عند المدارس الرَّئيسيَّة الأربعة: الكلاسيكيَّة التَّقليديَّة ثمَّ الإبداعيَّة الثَّائرة فالحائرة ثمَّ الواقعيَّة المتشائمة المحبطة ثمَّ الواقعيَّة الجديدة الثَّوريَّة.

ولقد عانت غالب الثَّورات في العصر الحديث مِن ظهور طبقةٍ جديدةٍ مِن الثُّوار مارسوا الاستبداد السِّياسيَّ والاجتماعيَّ بشكلٍ آخر عمَّا ثاروا عليه، فبعد سنواتٍ مِن تحمُّل الشَّعب الفرنسيِّ لتضحيَّات ثورته 1789 م والتي استمرت لعشر سنواتٍ تربَّع على حكم فرنسا وقتها الإمبراطور نابليون بونابرت والذي حكم البلاد بثلاثة عهودٍ مِن التَّفرد والدَّيكتاتوريَّة ليطيح به الاحتلال الإنكليزيُّ أخيرًا وليعود الشَّعب الفرنسيُّ العظيم لثورةٍ جديدةٍ على درب الحريَّة ضدَّ الاحتلال.

وارتداء الضَّحيَّة ثوبَ الجلَّاد واقتباسُه العفويُّ لممارساته، وكذلك الثَّورات المضادَّة هي ألوانٌ مِن ألوان الإحباط الاجتماعيِّ والسِّياسيِّ الذي يَنعكس على الأدب ليخرج بشكله الرُّومانسيِّ الهارب مِن الواقع أو الواقعي التَّشاؤميِّ المنتهي بالانتحار القيميِّ قبل الانتحار الاجتماعيِّ.

في حين أذنت مرحلة التَّحرُّر مِن أحلام اليَقَظَةِ التي تَعيشها الرُّومانسيَّة وشعاراتُها البرَّاقة المغرية التي تتعاطاها الشُّعوب لتخدر آلامها بمدرسةٍ واقعيَّةٍ جديدةٍ انتقل أدبها بشكلٍ أسرع مِن أيِّ مدرسةٍ سابقةٍ لتعيشَ الثَّورة وتَعي الواقع وتَطلب الإصلاح الاجتماعيَّ والسِّياسيَّ الممكن المتدرِّج القابل للتَّطبيق بعيدًا عن الأحلام، والتي يَعيبُها النُّقَّاد بطغيان الماديَّة والماديَّة الدِّيالكتيَّة في هذه الواقعيَّة على الجانب القيميِّ والرُّوحيِّ فيها، هذا الجانب الفطريُّ الذي لم يَعدْ الغرب للاهتمام به إلَّا مع التَّحرُّر الحقيقيِّ وظهور الليبراليَّة المرهفة في مجتمعاتهم التي حقَّقت التَّقدُّم الصِّناعيَّ و التَّحرر الدِّيمقراطيَّ مِن الاستبداد والعبوديَّة.

في حينٍ كانت الأمَّة العربيَّة والإسلاميَّة لا تَعيشُ حالة الهروب مِن الدِّين وأربابه كما عاش الغرب ملحمة التَّحرُّر مِن الكنيسة وتُجارِها، الأمر الذي حافظ على الجانب القيميِّ الرُّوحيِّ متوازنًا مع المجتمع ومادياته وصراعاته.

تلك ربما إطاراتٌ عامَّةٌ طابقت بعض الثَّورات الغربيَّة وكانت قريبةً مِن بعضها الآخر، والسُّؤال هنا إلى أيِّ مدًى ممكنٍ لثورات الرَّبيع العربيِّ أن تتأطَّر بمثل هذه الإطارات، وهل انتقل بعضُها مِن مرحلة الثَّورة على التَّقليد إلى مرحلة الشِّعارات المخدَّرة البعيدة عن إمكانيَّة التَّطبيق، فيما وصل بعضها الآخر إلى مرحلة التَّشاؤم واليأس مِن الفوضى العارمة أو مِن الثَّورة المضادَّة التي حالت بالشَّعب لما هو أسوأ مما ثار عليه؟

وهل ستشهد ثورات الرَّبيع العربيِّ على اختلاف ظروفها مرحلة الاستيقاظ مِن الشِّعارات والوعود المخدرة إلى استمرار ثورة الواقع بما تفرضه ظروف الزَّمان والمكان وتسمح به قادمات الأيام.

وفي جميع الحالات والتَّجارب فإنَّ إرادة الشَّعب بالتَّحرُّر وإيمانهم بحقوقهم هي أقوى من أن يحدَّها إخفاقٌ أو تعثُّرٌ، وانتصار أحلام الشُّعوب وثوراته ليس مرتبطًا بأشخاصٍ أو جماعاتٍ أو مرحلةٍ مِن المراحل، فالبذرة في الأرض تَشقُّ طريقها وتنمو متحديَّةً التُّراب، وغالبًا ما يتعب بالاعتناء بها زارعها ليشهد عذب ثمارها أبناؤه وأحفاده.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين