نبي الرحمة (23)

النشاط العسكري بين بدر وأحد(2)

غزوة بحران:

وهي دورية قتال كبيرة، قوامها ثلاثمائة مقاتل، قادها صلى الله عليه وآله وسلم في شهر ربيع الآخر 3هـ. إلى أرض بحران فأقام بها شهر ربيع الآخر ثم جمادى الأولى ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق حرباً.

سرية زيد بن حارثة:

جمادى الآخرة 3هـ. قال صفوان بن أمية لقريش بعد أن انتخبته في هذا العام لقيادة تجارتها إلى الشام: إن محمداً وصحبه عَوَّرُوا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل؟ وأهل الساحل قد وادعوهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا، فلم يكن لها من بقاء. وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء. ودارت المناقشة فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان: تَنَكَّب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق- طريق طويلة تخترق نجداً إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها، وقريش تجهل هذه الطريق- وخذ فرات بن حيان من بني بكر دليلاً. وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية، آخذة الطريق الجديدة، إلا أن أنباء القافلة وخطة سيرها طارت إلى المدينة. وذلك أن سليط بن النعمان- وكان قد أسلم- اجتمع في مجلس شرب- قبل تحريم الخمر- مع نعيم بن مسعود الأشجعي- ولم يكن أسلم- فلما أخذت الخمر من نعيم تحدث عن العير وخطة سيرها، فأسرع سليط إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يروي له القصة. وجهز النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوقته حملة قوامها مائة راكب في قيادة زيد بن حارثة الكلبي، وأسرع زيد حتى دهم القافلة بغتة وهي تنزل على ماء (قَرْدة) في أرض نجد فاستولى عليها، وفر صفوان ومن معه بدون أي مقاومة. وأسر المسلمون دليل القافلة- فرات بن حيان- وحملوا غنيمة كبيرة من الأواني والفضة، قدرت قيمتها بمائة ألف، قسم صلى الله عليه وآله وسلم هذه الغنيمة على أفراد السرية بعد أخذ الخمس، وأسلم فرات على يديه صلى الله عليه وآله وسلم. وكانت مأساة ونكبة كبيرة أصابت قريشاً بعد بدر، اشتد لها قلق قريش، ولم يبق أمامها إلا طريقان، إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها وتأخذ طريق الموادعة والمصالحة مع المسلمين، أو تقوم بحرب شاملة وتقضي على قوات المسلمين بحيث لا يبقى لهم سيطرة على هذا ولا ذاك، واختارت مكة الحرب، فازداد إصرارها على الثأر، وتصميمها على غزو المسلمين في ديارهم، فكان ذلك وما سبق من أحداث التمهيد لمعركة أحد.

غزوة أحد(1)

استعداد قريش لمعركة ناقمة:

كانت مكة تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ الثأر لقتل صناديدها وأشرافها ببدر، فمنعوا البكاء على قتلاهم، ومنعوا الاستعجال بفداء الأسرى، حتى لا يتفطن المسلمون مدى مأساتهم وحزنهم. واتفقت قريش على القيام بحرب ضد المسلمين تشفي غيظها, وأخذت بالاستعداد لها. وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد الله بن أبي ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحمساً لخوض المعركة. وأول ما فعلوه احتجزوا العير التي نجا بها أبو سفيان والتي كانت سبباً لمعركة بدر، وقالوا للذين كانت فيها أموالهم: يا معشر قريش، إنّ محمداً قد وَتَرَكُم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأراً، فأجابوا لذلك وباعوها وكانت ألف بعير وخمسين ألف دينار، ونزل فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:٣٦]. وفتحوا باب التطوع لغزو المسلمين من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة، وأغرى صفوان بن أمية أبا عزة الشاعر لتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حياً يغنيه وإلا يكفل بناته, وكان أبو عزة أُسِر في بدر فمنّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأطلقه بغير فدية، وأخذ منه العهد بأن لا يقوم ضده، فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره، واختاروا شاعراً آخر مُسَافع بن عبد مناف الجمحي لنفس المهمة.

إنّ ما أصاب قريشاً في غزوة السويق وسرية زيد بن حارثة من خسارة قصمت فقار اقتصادها، مما زاد سرعة قريش في استعدادها للمعركة الفاصلة .

قوام جيش قريش وقيادته:

لما استدارت السنة استكملت مكة عدتها، واجتمع ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، ورأى قادتهم أن يستصحبوا معهم النساء لاستماتة الرجال دون أن تصاب حرماتُهم وأعراضُهم، وكان عدد النسوة خمس عشرة امرأة، وسلاح النقليات ثلاثة آلاف بعير ومن سلاح الفرسان مائتا فرس، وسلاح الوقاية سبعمائة درع. وكانت القيادة العامة لأبي سفيان وقيادة الفرسان لخالد بن الوليد، يعاونه عكرمة، واللواء لبني عبد الدار. وتحرك الجيش نحو المدينة مشحونا بالثأر والغيظ.

الإستخبارات النبوية تكشف حركة العدو:

كان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك الجيش بعث رسالة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفاصيل الجيش. وأسرع رسول العباس فقطع الطريق بين مكة والمدينة بثلاثة أيام، وسلم الرسالة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمسجد قباء وقرأها أبي بن كعب على النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره بالكتمان وعاد مسرعاً إلى المدينة, وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار.

استعداد المسلمين للطوارئ:

ظلت المدينة في حالة استنفار عام، لا يفارق رجالها السلاح، حتى وهم في الصلاة. وقامت مفرزة من الأنصار- فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة- بحراسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقامت على مداخل المدينة مفرزات تحرسها, وقامت دوريات تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون.

الجيش المكي إلى أسوار المدينة:

لما وصل المشركون الأبواء اقترحت هند بنت عتبة- زوج أبي سفيان- بنبش قبر أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فرفض قادة الجيش وحذروا من عواقب الأمر. وواصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فنزل قريباً من جبل أحد في عَينَيْن شمال المدينة، فعسكر هناك يوم الجمعة ٦شوال ٣هـ.

المجلس الاستشاري لأخذ خطة الدفاع:

نقلت استخبارات المدينة خبر جيش مكة ومعكسره، فعقد صلى الله عليه وآله وسلم مجلساً استشارياً عسكرياً تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف, وأخبرهم عن رؤيا رآها، فقال:(إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً يُذبح، ورأيت في ذُبَاب سيفي ثُلْماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة) وتأوّل البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأوّل الثَلْمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته وتأوّل الدرع بالمدينة. وقدّم رأيه أن لايخرجوا من المدينة. ويتحصنوا بها، فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بغير جدوى، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأَزِقَّةِ, والنساء من فوق البيوت. ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين الذي حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج. ويبدو أنّ موافقته ليتمكن من البعد عن القتال دون أن يعلم أحد، وشاء الله أن يُفتضح هو وأصحابه أمام المسلمين، وينكشف عنهم غطاء النفاق. فقد بادر جماعة من فضلاء الصحابة وخاصة من فاته الخروج يوم بدر ، فأشاروا على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج، وألحوا عليه، حتى قال قائلهم: يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم. وفي مقدمة المتحمسين حمزة بن عبد المطلب فقال للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة). ونزل صلى الله عليه وآله وسلم على رأي المتحمسين، واستقر الرأي على الخروج من المدينة، واللقاء في الميدان السافر.

تكتيب الجيش الإسلامي وخروجه إلى ساحة القتال:

صلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالناس الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجد والإجتهاد، وأن النصر لهم بما صبروا، ففرح الناس. ثم صلى بهم العصر وقد حشدوا وحضر أهل العوالي، ثم دخل بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه فتدجج بسلاحه، وظاهر بين درعين- لبس درعاً فوق درع- وتقلد السيف، ثم خرج على الناس وهم ينتظرون خروجه، فقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الخروج، فردوا الأمر إليه، فندموا جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته-الدرع-أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه) وقسم صلى الله عليه وآله وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب:

١- كتيبة المهاجرين، وأعطى لواءها مصعب بن عمير.

٢- كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطى لواءها أسيد بن حضير.

٣- كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطى لواءها الحباب بن المنذر.

وكان الجيش من ألف مقاتل، فيهم مائة دارع وخمسون فارساً، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وتحرك الجيش نحو الشمال، وخرج السعدان أمامه صلى الله عليه وآله وسلم يعدوان دراعين. ولما جاوز ثنية الوداع رأى كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش، فسأل عنها، فأُخْبِر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج، يرغبون في القتال ضد المشركين، فسأل:(هل أسلموا؟)فقالوا: لا. فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك.

استعراض الجيش:

وصل إلى " الشيخان " واستعرض جيشه، فردّ من استصغره ولم يره مطيقاً للقتال، وكان منهم عبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وزيد بن حارثة ، وسعد بن حبة. وأجاز رافع بن خديج، وسمرة بن جندب على صغر سنهما، وذلك أن رافع بن خديج كان ماهراً في رماية النبل فأجازه فقال سمرة: أنا أقوى من رافع أنا أصرعه فأمرهما أن يتصارعا أمامه فتصارعا، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه.

المبيت بين أحد والمدينة:

وأدركهم المساء، فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المغرب، ثم صلى العشاء، وبات هنالك، وانتخب خمسين رجلاً للحراسة ، قائدهم محمد بن مسلمة الأنصاري، وتولى ذكوان بن عبد قيس حراسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة.

تمرد عبد الله بن أبيّ وأصحابه:

قبل طلوع الفجر أدلج صلى الله عليه وآله وسلم - سار ليلاً-، فلما كان بالشَّوْط صلى الفجر، وكان بمقربة جداً من العدو يراهم ويرونه، وهناك تَمرَّد عبد الله بن أبيّ المنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر- ثلاثمائة مقاتل- قائلاً: ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ومتظاهراً بالإحتجاج بأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره. ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأيه، وإلا لانعزل عن الجيش من بداية سيره، بل كان هدفه أن يحدث البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم، حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتنهار معنويات من يبقى معه، بينما يتشجع العدو وتعلو همته، فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المخلصين. وكاد ينجح، فقد همت طائفتان بنو حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج أن تفشلا، ولكن الله تولاهما، فثبتتا بعد ما همتا بالانسحاب، قال تعالى:{إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران:١٢٢].

وحاول عبد الله بن حرام تذكير المنافقين بواجبهم في هذا الظرف، فتبعهم وهو يوبِّخهم ويحضُّهم على الرجوع، ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلاً: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه. وفيهم نزل:{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمان يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ}[آلعمران:137].

بقية الجيش الإسلامي إلى أحد:

بعد التمرد قام صلى الله عليه وآله وسلم ببقية الجيش- سبعمائة مقاتل- وواصل سيره نحو العدو، وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد، فقال:(من رجل يخرج بنا على القوم من كثب -أي من قريب- من طريق لا يمر بنا عليهم؟). فقال أبو خَيثَمةَ: أنا يا رسول الله، ثم اختار طريقاً قصيراً إلى أحد يمر بحرة بني حارثة وبمزارعهم، تاركاً جيش المشركين إلى الغرب. ومر الجيش بحائط مِرْبَع بن قَيظِي- وكان منافقاً ضرير البصر- فلما أحس بالجيش قام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول: لا أحلّ لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول الله, فابتدره القوم ليقتلوه، فقال:(لا تقتلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصر). ونفذ صلى الله عليه وآله وسلم، حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي، فعسكر بجيشه مستقبلاً المدينة، وجاعلاً ظهره إلى هضاب جبل أحد، وصار جيش العدو فاصلاً بين المسلمين وبين المدينة.

يتبع ...

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين