نبي الرحمة (22)

النشاط العسكري بين بدر وأحد

كانت معركة بدر نصراً حاسماً بأول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين، مُني بها المشركون خسائر فادحة، فكانوا مع اليهود يحترقون غيظاً على المسلمين {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:٨٢] وفي المدينة بطانة للمشركين واليهود أسلموا حين لم يبق مجال لوقارهم، وهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه، ولم تكن هذه الفرقة الثالثة أقل غيظاً من الفرقتين. وهناك فرقة رابعة وهم البدو حول المدينة، لم يهمهم الكفر والإيمان، لأنهم أهل سلب ونهب فخافوا أن تقوم في المدينة دولة قوية تُنهي السلب والنهب، فحقدوا على المسلمين وصاروا لهم أعداء. وهكذا أحاطت الأخطار بالمسلمين, ففي المدينة وما حولها تظاهرٌ بالإسلام، وحياكة المؤامرات الخفية, كما كانت فرقة من اليهود تعلن العداوة. وكانت مكة تهدد بأخذ الثأر، وتهتم بالتعبئة العامة. وظهرت عبقرية قيادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتيقظ لهذه الأخطار، وحسن التخطيط للقضاء عليها.

غزوة بني سليم بالكُدْر:

شوال ٢ هـ. نقلت إستخبارات المدينة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام أنّ بني سليم من قبائل غطفان تحشد للغزو على المدينة، فاستخلف على المدينة سباع بن عرفطة وباغتهم في مائتي راكب في عقر دارهم وبلغ منازلهم في الكُدْر. ففر بنو سليم وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استولى عليها جيش المدينة، وقسمها صلى الله عليه وسلم بعد إخراج الخمس فأصاب كل رجل بعيرين وأصاب غلاماً يقال له:"يسار" فأعتقه. وأقام صلى الله عليه وآله وسلم في ديارهم ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة.

مؤامرة لاغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

في مكة جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحجر، وكان وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان والله إِنْ في العيش بعدهم خير. قال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين عليّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قِبَلَهُمْ علة، ابني أسير في أيديهم. فاغتنمها صفوان وقال: عليّ دينك،أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم. فقال عمير: فاكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل. ثم أمر عمير بسيفه فشُحِذَ له وسُمَّ وانطلق إلى المدينة، فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب فقال: هذا الكلب عدو الله عمير ما جاء إلا لشر، ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحاً سيفه، قال: (فأدخله علي) فأقبل عمير فلَبَّبَهُ بحمالة سيفه، وقال لرجال من الأنصار: ادخلوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به، فلما رآه صلى الله عليه وآله وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال:(أرسله يا عمر، أدن ياعمير) فدنا وقال: أنعموا صباحاً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام، تحية أهل الجنة). ثم قال: (ما جاء بك يا عمير؟) قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه. قال: (فما بال السيف في عنقك؟) قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال: (اصدقني ما الذي جئت له؟)قال: ما جئت إلا لذلك. قال: (بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني والله حائل بينك وبين ذلك) قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق, ثم تشّهد شهادة الحق، فقال صلى الله عليه وسلم:(فقهوا أخاكم في دينه وأقْرِؤوه القرآن وأطلقوا له أسيره) أما صفوان فكان يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر. ويسأل الركبان عن عمير، حتى أخبروه عن إسلامه فحلف ألا يكلمه، ولا ينفعه بنفع أبداً. ورجع عمير إلى مكة وأقام بها يدعو إلى الإسلام فأسلم على يديه ناس كثير.

نموذج من مكيدة اليهود:

قال ابن إسحاق: مر شاس بن قيس ـ وكان شيخاً يهودياً قد عسا "كبر"، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلَةَ بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بُعَاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم رددناها الآن جَذَعَة ـ يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم ـ وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا : قد فعلنا، موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة: الحَرَّة ـ السلاح السلاح، فخرجوا إليها وكادت تنشب الحرب.

فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتى جاءهم فقال:(يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟). فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس. هذا مما كان اليهود يفعلونه من إثارة القلاقل والتحريشات في المسلمين، وإقامة العراقيل في سبيل الدعوة الإسلامية، ويبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار، ثم يكفرون آخره، ليزرعوا بذور الشكوك في قلوب الضعفاء، وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مالي، فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء، وإن كان له عليهم يأكلونه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه، وكانوا يقولون: إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سبيل. كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر، على رغم المعاهدة التي عقدوها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصبرون على كل ذلك، حرصاً على بسط الأمن والسلام في المنطقة.

بنو قَينُقَاع ينقضون العهد:

لمّا رأى اليهود أنّ المسلمين صارت لهم شوكة وهيبة بعد أن نصرهم الله في بدر. تميزوا غيظاً وكاشفوا بالشر والعداوة. وكان يهود بني قَينُقَاع شر طائفة منهم، وكانوا يسكنون داخل المدينةـ في حي باسمهم- وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذا توفر لكل رجل منهم آلات الحروب، وعدد مقاتليهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة وأول من نكث العهد والميثاق من اليهود. فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وصاروا يثيرون الشغب، ويؤذون كل من ورد سوقهم من المسلمين، حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم. وتفاقم أمرهم واشتد بغيهم، وعن ابن عباس قال: لما أصاب صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة، جمع اليهود في سوق بني قَينُقَاع فقال:(يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً) قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش، كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ * قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ}[آل عمران:١٢-١٣]. كان جواب بنو قَينُقَاع إعلاناً بالحرب فكظم النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيظه وصبرالمسلمون. روى ابن هشام عن أبي عون أنّ امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته في سوق بني قَينُقَاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها- وهي غافلة- فلما قامت انكشفت سوأته، فضحكوا بها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله- وكان يهودياً- فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود. وحينئذ عِيلَ صبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

غزوة بني قَينُقَاع:

استخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر على المدينة، وأعطى اللواء لحمزة بن عبد المطلب، وسار إلى بني قَينُقَاع، فلما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم وذلك يوم السبت ١٥ شوال٢هـ، ودام الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم فأمر بهم فكُتفوا. وحينئذ قام عبد الله بن أبِيّ بدور نفاقه وألحّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعفو عنهم فقال: يا محمد: أحسن في مواليَّ - وكان بنو قَينُقَاع حلفاء الخزرج- فأبطأ عليه صلى الله عليه وآله وسلم، فكرر ابن أبِيّ مقالته فأعرض عنه فأدخل يده في جيب درعه فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (أرسلني) وغضب حتى رأوا لوجهه ظُلَلًا، ثم قال: (ويحك،أرسلني) ولكن المنافق مضى على إصراره وقال: لا والله لا أرسلك حتى تُحسن في مواليَّ أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، وتحصدهم في غداة واحدة؟إني والله امرؤ أخشى الدوائر. وعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا المنافق- الذي مضى على إظهار إسلامه شهر واحد- بالمراعاة، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذْرُعَات الشام. وقبض صلى الله عليه وآله وسلم منهم أموالهم، فأخذ منها ثلاث قِسِي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح، وخمس غنائمهم، وتولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة.

غزوة السَّويق:

كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل المغارم ظاهر الأثر يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه، ويبرز ما لديهم من قوة، وكان قد نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً، فخرج في مائتي راكب ليبِرَّ يمينه، حتى نزل بصدْر قَناة إلى جبل يقال له: ثَيبٌ، من المدينة على بَرِيد أو نحوه، ولكنه لم يجرؤ على مهاجمة المدينة جهاراً، فدخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفياً، فأتي حُيَيَّ بن أخطب فاستفتح بابه، فأبى وخاف، فانصرف إلى سَلاَّم بن مِشْكَم سيد بنِي النضير وصاحب كنزهم إذ ذاك، فاستأذن عليه فأذن، فَقَرَاه وسقاه الخمر، وبَطَن له من خبر الناس، ثم خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتى أصحابه فبعث مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها: [العُرَيض] فقطعوا وأحرقوا أسوَارًا من النخل، ووجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة. وبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخبر، فسارع لمطاردة أبي سفيان وأصحابه، ولكنهم فروا ببالغ السرعة، وطرحوا سَويقاً كثيراً من أزوادهم وتمويناتهم، يتخففون به، فتمكنوا من الإفلات، وبلغ صلى الله عليه وآله وسلم إلى قَرْقَرَةِ الكُدْر ثم انصرف راجعاً. وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سَويقهم، وسموا هذه المناوشة بغزوة السويق. وقد وقعت في ذي الحجة ٢ هـ بعد بدر بشهرين، واستعمل على المدينة في هذه الغزوة أبا لبابة بن عبد المنذر.

غزوة ذي أمر:

هي أكبر حملة عسكرية قادها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أحد في محرم ٣ هـ. وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن جمعاً كبيراً من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فخرج صلى الله عليه وسلم في أربعمائة وخمسين مقاتلاً، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان. وفي الطريق قبضوا على رجل يقال له : جُبار من بني ثعلبة، فأُدْخِل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال، وصار دليلاً للمسلمين إلى أرض العدو. وتفرق الأعداء في رؤوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة. أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم- وهو الماء المسمى [ بذي أمر ] فأقام شهر صفر كله، ليشعر الأعراب بالرهبة والرعب من قوة المسلمين، ثم رجع المدينة.

قتل كعب بن الأشرف:

كان كعب من قبيلة طيء- من بني نَبْهان ـ وأمه من بني النضير، وكان شاعراً وغنياً ومعروفاً بجماله في العرب وله حصن خلف ديار بني النضير. ولما بلغه خبر انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش قال: أحق هذا؟ هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس, والله إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها. فانبعث يهجو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ويمدح عدوهم ويحرضهم عليهم وركب إلى قريش، فنزل على المطلب بن أبي وَدَاعة السهمي، وأنشد الأشعار يبكي على أصحاب القَلِيب من قتلى المشركين، يذكي الحقد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدعو إلى حربه، وسأله أبو سفيان والمشركون: أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدى سبيلاً؟ فقال: أنتم أهدى منهم سبيلاً وأفضل، وفي ذلك أنزل تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً}[النساء:٥١] ثم رجع كعب إلى المدينة، وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة، ويؤذيهم. فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله) فانتدب له محمد بن مسلمة، وعَبَّاد بن بشر، وأبو نائلةـ واسمه سِلْكَان بن سلامة وهو أخو كعب من الرضاعةـ والحارث بن أوس، وأبو عَبْس بن جبر وكان قائد هذه المفرزة محمد بن مسلمة. ويُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال:(من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله) فقام محمد بن مسلمة فقال:أنا يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال:(نعم) قال: فأذن لي أن أقول شيئاً. قال:(قل). فأتاه محمد بن مسلمة، فقال: إنّ هذا الرجل قد سألنا صدقة وإنه قد عَنَّانا. قال كعب: والله لَتَمَلُّنَّهُ. قال ابن مسلمة: فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه؟ وقد أردنا أن تُسْلِفَنَا وَسْقًاً أو وَسْقَين. قال كعب: نعم أرهنوني. قال ابن مسلمة: أي شيء تريد؟ قال: أرهنوني نساءكم. قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فترهنوني أبناءكم. قال: كيف نرهنك أبناءنا فيُسَبُّ أحَدُهم فيقال: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ. هذا عار علينا ولكنا نرهنك اللَّأْمَةَ-السلاح- فواعده أن يأتيه. وصنع أبو نائلة مثل ابن مسلمة. ونجح ابن مسلمة وأبو نائلة إلى ما قصدا، فإن كعباً لن يُنكر معهما السلاح والأصحاب بعد هذا الحوار وفي ليلة١٤ربيع الأول٣هـ اجتمعت المفرزة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فشيعهم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم قائلاً: (انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم) ثم رجع بيته يصلي ويناجي ربه. ولمّا انتهوا إلى حصن كعب هتف به أبو نائلة فقام لينزل إليهم فقالت له امرأته وكان حديث العهد بها: أين تخرج هذه الساعة؟ أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم. قال كعب: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة إنّ الكريم لو دُعي إلى طعنة أجاب، ثم خرج إليهم وهو متطيب ينفخ رأسه. وقال أبو نائلة لأصحابه، إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمّه، فإذا رأيتموني استمكنت منه ومن رأسه فدونكم فاضربوه، فنزل كعب إليهم تحدث معهم، ثم قال أبو نائلة: هل لك يا بن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث بقية ليلتنا؟ قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فقال أبو نائلة وهو في الطريق: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قطّ، وزُهِي كعب بما سمع، فقال: عندي أعطر نساء العرب، قال أبو نائلة: أتأذن لي أن أشمّ رأسك؟ قال: نعم، فأدخل يده في رأسه فشمّه وأشمّ أصحابه. ثم مشى ساعة ثم قال:أعود؟ قال كعب: نعم، فعاد لمثلها حتى اطمأن. ثم مشى ساعة ثم قال: أعود؟ قال: نعم فأدخل يده في رأسه فلما استمكن منه قال: دونكم عدو الله، فقتلوه، ورجعت المفرزة وكان قد أصيب الحارث بن أوس بذُبَاب بعض سيوف أصحابه فجرح ونزف الدم، فلما بلغوا بقيع الغرقد كبروا، وسمع صلى الله عليه وآله وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه فكبر فلما انتهوا إليه قال: (أفلحت الوجوه)، قالوا: ووجهك يا رسول الله. ورموا برأس الطاغية بين يديه، فحمد الله على قتله، وتفل على جرح الحارث فبرأ، ولم يُؤْذ بعده.

علم اليهود بمصرع كعب فدب الرعب في قلوبهم، ولم يحركوا ساكناً لقتله، واستكانوا وتظاهروا بإيفاء العهود. وتفرغ صلى الله عليه وآله وسلم لمواجهة الأخطار الخارجية ، وتخفف عن المسلمين كثير من المتاعب الداخلية.

يتبع ...

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين