دينٌ ودولة

للأستاذ محمود تيمور بك


مقالة كتبها الأستاذ الكبير محمود تيمور بك ( بمجلته الرسالة عدد 913 بتاريخ 22 ربيع الأول 1370 هـ / أول يناير 1951م ) ليتحدث فيه عن الإسلام وهل هو عقيدة وشريعة ؟ جاء لينظم علاقة المرء بربه، وينظم كذلك علاقة الناس بعضهم ببعض فيما يضطرون فيه من وسائل العيش وشؤون الاجتماع ؟ وليؤكد أنه في حضارة الإسلام لا دين بلا دولة، ولا دولة بلا دين.


****


دينٌ ودولة


يخوض الناس في حديث الدين متنازعين يتساءلون: هل هو عقيدة روحانية وشريعة عمرانية معا ؟
أينظم الدين علاقة المرء بربه، وينظم كذلك علاقة الناس بعضهم ببعض فيما يضطرون فيه من وسائل العيش وشؤون الاجتماع ؟
والناس قاطبة مؤمنون بأن الدين عقيدة تسمو بالنفوس إلى الله، ولكنهم مختلفون في أنه مع ذلك قانون للمجتمع ودستور للدولة !!
والهاتفون بأن الدين شريعة ودستور يلتمسون برهان ذلك فيما سنَّ الدين من أوضاع تحكم مرافق الناس ومصالحهم جميعا، ويروون في هذه الأوضاع قواعد جامعة صالحة لكل زمان ومكان، خليقة أن تقوم عليها سائر القوانين والأحكام.
والقائلون بقَصْر الدين على معاني التعبد، يريدون للناس أن يكونوا أحرارا فيما يتخذون من أنظمة للتعايش، مستهدين في ذلك حاجة العصر، وطابع الزمن ؛ مُسايرين موكب المجتمع البشري في تطوره الفكري.
والرأي عندي: أن مثل هذا النزاع لا يقوم في أمة إلا إذا كانت من أمر نفسها على قلق.. لا هي متدينة موصولة بدينها فتسكن إليه، وتهتدي في عامة شأنها به ؛ ولا هي قد تخلت عن الدين جملة، فتركن إلى أن تتخذ لعلاقاتها الاجتماعية ضوابط من قانون مصنوع.
* * *
لا خلاف على أن الأمة المثالية هي التي تكون مصدر السلطات، وهي التي تحكم نفسها بقانون مستمد من خصائصها ملائم لما يشيع فيها من عادة وعُرف، محقق لرغبة مجموعها فيما يعتقدون أنه خير وبر وصلاح. فإذا لم يكن قانون الأمة على هذا النحو من موافقته لنفسيتها، ومطابقته لمصلحتها، فهو قانون مفترى عليها، لا بقاء له فيها.
وإذن: فالقانون لا منبع له إلا الأمة فيما يكون لها من مستوى فكري واقتصادي واجتماعي، وفيما يكون لها من صبغة نفسية وطابع شخصي، وفي هذا القانون الذي يحكمها تتجمع صفوة ما تتميز به من أخلاق وعادات وتقاليد، فإذا هو مرآة لها، تجلو وجهة نظرها في الحياة، ومبلغ فهمها لما هو خير وحق وعدل.
ومما لا مرية فيه أن الإيمان إذا استبطن النفوس، لم يلبث أن يوطنها على هداه، ومتى رسخ الاعتقاد انقادت العقول طوعا له. وليست مظاهر الحياة في كل أمة إلا ميزانا أمينًا لما يعمر جوانبها من إيمان، ومقياسا دقيقا لما يرسخ فيها من اعتقاد.
ومادام الدين إيمانا عميقا وعقيدة روحانية تأخذ الناس بألوان من تقاليد وأوضاع، ومادامت هذه الأوضاع والتقاليد ذات أثر بالغ في سلوك الناس أفرادًا وجماعات، فلا منجاة للقانون من التأثر بالدين، والاصطباغ بصبغته، فإن قانونا يتشكل بروح الأمة لابد أن يسرى إليه ما يسرى في جوانب تلك الأمة من خصائص التدين، فبقدر ما يسكن في النفوس من هذه الخصائص يظهر الأثر واضحا في روح القانون.
فإذا نقم الناقمون من قوانيننا التي يجري بها العمل في المجتمع الحاضر أنها تجانب تعاليم الدين بقَدْر يسير أو بقَدْر جسيم، وإذا طمح الطامحون إلى تضييق دائرة الفروق بين الدولة والدين، فلينظروا باديٌ بدء:
- أفي هذه القوانين تمثيل صحيح لحاجات البيئة التي يندرج فيها مجموع الأمة ؟ وهل هي تطبيق سليم للمبادئ العامة التي يزكيها أهل الرأي، وتنزل من موافقتهم منزلة الإجماع ؟
فإن استبان لهم أن القوانين منقوصة الحظ من صحة التمثيل، وسلامة التطبيق، فليعمدوا إلى تعديلها وإصلاحها بالوسائل المشروعة التي يجري بها التعديل والإصلاح.
وأما إن وجدوها سليمة صحيحة، من حيث مسايرتها لحاجات الأمة، وطبائع المجتمع الحاضر، فليعلموا إذن أن هذه القوانين لا تجانب تعاليم الدين بغيا وعدوانا، ولكن لأن الأمة هي التي بضعف استشعارها لهذه التعاليم، فهي تجانبها على عمد أو على غير عمد.
فليقولوا في غير مواربة: إننا نحن الذين أخذنا من الدين قشورًا وظواهر، وإننا نحن الذين آمنا به رسوما وأسماء، فأما أغلب مبادئ الدين وتعاليمه الوثيقة الصلة بنواميس العيش وحقائق الاجتماع، فقد ظلت بعيدة عنا، أو خافية علينا، فلم نشعر لها في مجموعنا بذلك الأثر الذي ينفض صبغته على حياتنا العملية، ولم يكن لنا إلهام منها فيما نتخذ من دستور، وما نصنع من قانون.
* * *
ولعل السر في ذلك أن أغلب المبادئ والتعاليم التي رسمها الدين، لينتظم بها المجتمع في أسواق الحياة، يستأثر بعلمها نفر من رجال الشرع، ويتخذونها موضوع درس وتلقين في حلقات الدرس والتلقين، فهي محجوزة لهم، مخصوصة بهم، يتعالمونها فيما بينهم لأغراض دراسية محضة لا صلة بينها وبين دنيا الواقع ومشهود الناس. فكأن هذا الدين قسمة بين أهليه: فهو للجمهور عقيدة يتعبدون بها وحسب، وهو لبعض الناس شريعة دراسية يتلقاها تلميذ عن أستاذ في مقام التعليم.
فمن شاء أن يكون للدين سلطان على القانون، فليجعل الدين سلطانا على الأمة مجموعها، وليبث في نفسيتها العامة مبادئ الشريعة وتعاليمها، حتى يستشعر الناس أن هذا الدستور الديني أنظمة حيوية علمية يقوم على دعائمها صرح المجتمع، وحتى تطمئن العقول والقلوب إلى أن اصطناع هذه الأنظمة لا يصد عن مُسايرة الحضارة في ركبها السيار. ويومئذ لا تكون القوانين إلا ظلا لهذا الإيمان والاطمئنان على نحو طبيعي لا تكلف فيه ولا افتئات ولا استكراه.
والدولة في جوهرها يتمثل كيانها في قوانينها التي هي نابعة من عرف الأمة وروحها وخصائصها، والتي هي صورة صادقة لمبلغ ما تنطوي عليه نفسية الأمة من إيمان بالدين، وفهم لمبادئه، واستشعار لتعاليمه، ولكل أمة مقدار كبير أو صغير من ذلك الإيمان والفهم والاستشعار. وإذن لابد أن تتأثر الدولة بقدر ما تتأثر به تلك القوانين، فإنه لا دين بلا دولة، ولا دولة بلا دين.
محمود تيمور 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين