نبي الرحمة (21)


غزوة بدر الكبرى اول معركة من معارك الإسلام الفاصلة (3)


روائع الإيمان في هذه المعركة:
تجلى في بدر روائع تبرز قوة العقيدة وثبات المبدأ، التقى الآباء بالأبناء، والأخوة بالأخوة، خالفت بينهم المبادئ، ففصلت بينهم السيوف، والتقى المقهور بقاهره، فشفي منه غيظه. ومن روائع الإيمان: ١- عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أُخرجوا كرهاً، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرهاً)، فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف، فبلغت صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب:(يا أبا حفص، أيُضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف؟) فقال عمر: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فو الله لقد نافق.فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيداً.
٢- نهى عن قتل أبي البختري، لأنه كان أكف القوم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، وكان لا يؤذيه ولا يبلغ عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام بنقض صحيفة المقاطعة. لكن المجذر بن زياد البلوي لقيه في المعركة، ومعه زميل له، يقاتلان سوياً، فقال المجذر: يا أبا البختري إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نهانا عن قتلك، فقال: وزميلي؟ فقال المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، فقال: والله إذن لأموتن أنا وهو جميعاً، ثم اقتتلا، فاضطر المجذر إلى قتله.
٣-كان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة، فلما كان يوم بدر مر به عبد الرحمن، وهو واقف مع ابنه علي بن أمية، آخذاً بيده، ومع عبد الرحمن أدراع قد استلبها، وهو يحملها، فلما رآه قال: هل لك فيّ؟ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك، ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟- من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن- فطرح عبد الرحمن الأدراع، وأخذهما يمشي بهما، قال عبد الرحمن: قال لي أمية بن خلف: من الرجل منكم المعلم بريشة النعامة في صدره؟ قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن: فو الله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي، وكان أمية هو الذي يعذب بلالاً بمكة، فقال بلال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا, قلت:أي بلال، أسيري، قال: لا نجوت إن نجا. قلت: أتسمع يا ابن السوداء. قال: لا نجوت إن نجا. ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة، وأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت أنج بنفسك، ولا نجاء بك، فو الله ما أغني عنك شيئا. قال: فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالاً، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري.
٤- وقَتل عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام بن المغيرة.
٥- نادى أبو بكر الصديق ابنه عبد الرحمن- وهو يومئذ مع المشركين- فقال: أين مالي يا خبيث؟ فقال: عبد الرحمن: لم يبق غير شكة ويعبوب ... وصارم يقتل ضلال الشيب.
٦-ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على بابه يحرسه، رأى صلى الله عليه وآله وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له:(والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟)قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلي من استبقاء الرجال.
٧- وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن محصن الأسدي، فأتى صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاه جذلاً من حطب، فقال: (قاتل بهذا يا عكاشة)، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه، فعاد سيفاً في يده طويل القامة، شديد المتن أبيض الحديدة، فقاتل به، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد.
٨- مر مصعب بن عمير بأخيه أبي عزيز بن عمير، مر به وأحد الأنصار يشد يده، فقال: مصعب للأنصاري: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، فقال أبو عزيز لأخيه مصعب: أهذه وصاتك بي؟ فقال مصعب: إنه-الأنصاري- أخي دونك.
٩-أُمر بإلقاء جيف المشركين في القليب، وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، نظر صلى الله عليه وآله وسلم في وجه ابنه أبي حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال:(يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟)فقال: لا والله، يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك.
قتلى الفريقين:
انتهت المعركة بهزيمة ساحقة للمشركين، وبفتح مبين للمسلمين، وقد استشهد في هذه المعركة أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. أما المشركون قتل منهم سبعون وأسر سبعون، وعامتهم القادة والزعماء والصناديد. وقف صلى الله عليه وآله وسلم على القتلى، فقال:(بئس العشيرة كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس)، ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر.
عن أبي طلحة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقُذِفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث. وكان إذا ظهر على قوم-غلبهم- أقام بالعَرْصَةِ- ساحةِ القِتالِ- ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى، وأتبعه أصحابه حتى قام على شَفَةِ الرَّكِيِّ ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم:(يا فلان ابن فلان، يا فلان ابن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّاً؟) فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ قال صلى الله عليه وسلم:(والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم).
مكة تتلقى نبأ الهزيمة:
فر المشركون من ساحة بدر في صورة غير منظمة، تبعثروا في الوديان والشعاب، واتجهوا صوب مكة مذعورين، لا يدرون كيف يدخلونها خجلاً.
قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف في رجال من الزعماء سمّاهم. فلما أخذ يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا، فاسألوه عني، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية قال: ها هو ذا جالس في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا. وقال أبو رافع- مولى صلى الله عليه وآله وسلم-: كنت غلاماً للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزاً، وكنت رجلاً ضعيفاً أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فو الله إني لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب-طرف- الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب: هلم إلي، فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه. فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لَقِينَا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تُليق شيئاً، ولا يقوم لها شيء.قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلاً ضعيفاً، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته، فضربته به ضربة فعلت في رأسه شجة منكرة، وقالت: إستضعفته أن غاب عنه سيده، فقام مولياً ذليلاً، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته - وهي قرحة تتشاءم بها العرب- فتركه بنوه وبقي ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه. هكذا تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة في بدر، وقد أثر ذلك فيهم أثراً سيئاً، حتى منعوا النياحة على القتلى؛ لئلا يشمت بهم المسلمون.
المدينة تتلقى أنباء النصر:
لما تم النصر أرسل صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة بالبشرى للمدينة، وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة، ومنها ادعاؤهم مقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولما رأى أحد المنافقين زيد بن حارثة راكباً القصواء- ناقته صلى الله عليه وآله وسلم- قال: لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، فجاء فلاً- منهزماً-. وأحاط المسلمون بالرسولين وسمعوا الخبر وتأكدوا من النصر، فعمت البهجة، واهتزت أرجاء المدينة تهليلاً وتكبيراً. قال أسامة بن زيد: أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان، وكان صلى الله عليه وآله وسلم خلفني عليها مع عثمان.
الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة:
وقع خلاف بين الجيش حول الغنائم، أمر صلى الله عليه وآله وسلم بأن يرد الجميع ما بأيديهم، ففعلوا، ثم نزل الوحي بحل هذه المشكلة. فعن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدت معه بدراً فالتقى الناس، فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحرزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، وليس لأحد فيها نصيب وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم أحق بها منا، نحن نحينا منها العدو وهزمناه، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به، فأنزل الله:{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال:١]. فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين. وبعد أن أقام صلى الله عليه وآله وسلم ببدر ثلاثة أيام تحرك بجيشه نحو المدينة ومعه الأسرى واحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين، وجعل عليه عبد الله بن كعب، فلما خرج من مَضِيق الصفراء نزل على كَثِيب بين المضيق وبين النَّازِيَة، وقسم هنالك الغنائم على المسلمين على السواء بعد أن أخذ منها الخمس ، وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث- حامل لواء المشركين ببدر- وكان من أكابر مجرمي قريش، وأشد الناس كيداً للإسلام، وإيذاءً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فضرب عنقه علي بن أبي طالب. ولما وصل إلى عرق الظبية أمر بقتل عقبة بن أبي معيط، الذي ألقى سلا جزور على رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي، وهو الذي خنقه بردائه، وكاد يقتله لولا أن يعترض أبو بكر، فلما أمر بقتله قال: من للصبية يا محمد؟ قال: (النار). وقتله عاصم بن ثابت الأنصاري. وهذان لم يكونا أسيرين بل مجرمي الحرب لذا كان قتلهما واجباً.
وفود التهنئة:
لما وصل إلى الروحاء لقيه رؤوس المسلمين الذين خرجوا للتهنئة. وقال لهم سلمة بن سلامة: ما الذي تهنئوننا به؟ فو الله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن، فتبسم صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال:(يا ابن أخي أولئك الملأ). وقال أسيد بن حضير: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظفرك، وأقر عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدواً، ولكن ظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (صدقت). ثم دخل صلى الله عليه وآله وسلم المدينة مظفراً منصوراً، قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها. فأسلم بشرٌ كثير من أهل المدينة، ودخل عبد الله بن أبي وأصحابه في الإسلام ظاهراً. وبعد بلوغه المدينة بيوم، قسم الأسرى على أصحابه، وأوصى بهم خيراً، فكانوا يأكلون التمر، ويقدمون لأسراهم الخبز عملاً بوصيته.
قضية الأسرى:
استشار صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في الأسرى، فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله، فيكونوا لنا عضداً. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ترى يا بن الخطاب؟) قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوى صلى الله عليه وآله وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وهما يبكيان فقلت يا رسول الله أخبرني ما يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (للذي عرض عليّ أصحابك: من أخذهم الفداء، فقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة-شجرة قريبة-) وأنزل تعالى:{ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:٦٧-٦٨]. والكتاب الذي سبق:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً}[محمد:٤] ففيه الإذن بأخذ الفدية من الأسرى، ونزل العتاب لأنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الأرض، ثم إنهم قبلوا الفداء من الذين لم يكونوا أسرى فقط، بل كانوا أكابر مجرمي الحرب. استقر الأمر على رأي الصديق بالفداء، وكان من أربعة آلاف درهم، إلى ثلاثة آلاف درهم، إلى ألف درهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء. ومنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عدد من الأسرى، فأطلقهم بغير فداء، ومنّ على خَتَنِه أبي العاص بشرط أن يخلى سبيل زينب، وكانت قد بعثت في فدائه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها صلى الله عليه وآله وسلم رق لها واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوه، واشترط على أبي العاص أن يخلى سبيل زينب، فخلاها فهاجرت، وبعث صلى الله علي وآله ه وسلم زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار، فقال: (كونا ببطن يَأجَج حتى تمر بكما زينب فاصحابها) فخرجا حتى رجعا بها. وكان في الأسرى سهيل بن عمرو، وكان خطيبا مِصقعاً فقال عمر: يا رسول الله، أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه، فلا يقوم خطيباً عليك في موطن أبداً، بيد أن صلى الله عليه وآله وسلم رفض هذا الطلب. و خرج سعد بن النعمان معتمراً فحبسه أبو سفيان، وكان ابنه عمرو بن أبي سفيان في الأسرى، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد.
القرآن يتحدث عن المعركة:
نزلت سورة الأنفال، فيها تعليق إلهي ـ إن صح هذا التعبيرـ على المعركة. فالله لفت أنظار المسلمين للتقصيرات الأخلاقية الباقية فيهم، وصدرت بعضها منهم، ليسعوا في تزكية نفوسهم. وذكر بما في هذا الفتح من تأييد الله وعونه ونصره بالغيب للمسلمين. كي لا يغتروا بشجاعتهم، فتتسور نفوسهم الكبرياء وليتوكلوا على الله ويطيعوه ويطيعوا رسوله عليه الصلاة والسلام ثم بين لهم الأهداف والأغراض النبيلة التي خاض النبي صلى الله عليه وسلم لأجلها المعركة، والصفات والأخلاق التي تسببت بالنصر، ثم خاطب المشركين والمنافقين واليهود وأسرى المعركة، ووعظهم موعظةً تهديهم إلى الإستسلام للحق والتقيد به. وقنّن للمسلمين مبادئ وأسس مسألة الغنائم. ثم شرّع لهم قوانين الحرب والسلم، حتى تمتاز حروب المسلمين عن حروب أهل الجاهلية، ويقوم لهم التفوق في الأخلاق والقيم والمثل، ويتأكد للدنيا أن الإسلام يثقف أهله عملياً على الأسس والمبادئ التي يدعو إليها. ثم قرر بنوداً من قوانين الدولة الإسلامية التي تقيم الفرق بين المسلمين الذين يسكنون داخل حدودها وخارجها.
وفي السنة الثانية من الهجرة فُرض صيام رمضان، وزكاة الفطر، وبُينت أنصبة الزكاة الآخرى، التي كانت تخفيفاً لكثير من الأوزار التي يعانيها فقراء المهاجرين. وأول عيد للمسلمين في حياتهم هو العيد الذي وقع في شوال سنة ٢ هـ. إثر الفتح المبين في غزوة بدر، فما أروع تلك الصلاة التي صلوها بعد أن خرجوا من بيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد، وقد فاضت قلوبهم رغبة إلى الله، وحنينًا إلى رحمته ورضوانه بعد ما أولاهم به من النعم، وأيدهم به من النصر، وذكرهم بذلك:{وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [ الأنفال:٢٦].
يتبع ...
منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين