مقدمة كتاب

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب السماوات والأرضين، منزل الكتاب المبين هدى للعالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد خاتم النبيين ومعلم الدين القويم، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فقد تعود بي ذاكرتي إلى صغري وأنا طالب في الثانوية في مدرسة "مولانا آزاد تعليمي مركز" االواقعة على مسافة ثلاثة أميال من قريتي أو أكثر، إذ طرق بها أذني اسم غامض، اسم لم أسمع به في بيتي، ولا في محيطي، ولا في مدرسة ضياء العلوم بماني كلان، التي تعلمت فيها اللغة الفارسية وشيئا من العربية، اسم لم أجد إلى تفسيره ورفع الغموض عنه سبيلا، ألا وهو اسم مولانا حميد الدين الفراهي، وصودفت أنه قريب العهد منا، لا من المتقدمين الذين امتلأت المقررات الدراسية بكتبهم، وأنه قريب الدار مني، ولعل هذا الثاني كان موقعه في نفسي أشد غرابة ودهشة.

وصحبت في هذه المدرسة الجديدة بعض الإصلاحيين (المتخرجين من مدرسة الإصلاح التي طورها الإمام حميد الدين الفراهي) وتلمذت على بعضهم، وهم: العلامة الكبير نجم الدين الإصلاحي، والشيخ المفسر داود أكبر الإصلاحي، والعلامة الجليل إظهار الإصلاحي، والمفسر المدقق مشتاق أحمد الإصلاحي، والأديب العبقري شميم أحمد الإصلاحي، رحمهم الله تعالى، والعلامة النحوي المربي عبد القدوس الإصلاحي حفظه الله ومد في عمره، متشاركين في ثلاث خصال: عنايتهم بكتاب الله جل جلاله، وولعهم بالبحث والتحقيق، وزهدهم في المطعم والملبس والمسكن، ولعلهم ورثوها عن إمامهم المتنسك الذي اعتزوا بالانتماء إليه.

جالستهم منجذبا إليهم وهاويا إياهم، ولم تمض الأيام إلا وزالت عني غرابة ذلك الاسم، وحل محلها أنس، وتسرب إلى نفسي حب للفراهي متغلغلا في أحشائي ومختلطا بلحمي ودمي، وشاء القدر أن التحقت بدار العلوم لندوة العلماء سنة 1398ه، فاتفقت لي بها صحبة شيخنا العلامة الأجل المفسر الفذ شهباز الإصلاحي رحمه الله تعالى، والتي أحدثت ثورة في عقلي وفكري، فتغيرت نظراتي إلى العلوم والفنون، وآثرت التدقيق والتحقيق على المحاكاة والتقليد.

قرأت كل ما تيسر لي من كتب الفراهي منذ أول عهدي باسمه، وأنا مديم النظر فيها وعاكف عليها، إنها أنشأت في صلة متوثقة بالقرآن الكريم، واعتمادا له في الهدى والعلم، ووقفا لنفسي على تدبره، وتعميقا لجذور الإيمان في داخلي، وتثبيتا للإسلام وشعبه في قلبي، وربط بيان النبي صلى الله عليه وسلم به متعاضدين، والكشف عن حقيقة الدين، والفصل بين أصوله وفروعه، ووضع المذاهب الفقهية موضعها في غير إفراط ولا تفريط، وتجنب البدع الكلامية والفلسفية والطرقية.

ولعل وجوه إعجابي بالإمام الفراهي يكشف عنها القناع ما دبجه يراع العلامة السيد سليمان الندوي إثر وفاته: "الصلاة على ترجمان القرآن" نداء ارتفع قبل ستة قرون تقريبا من بلاد مصر والشام إلى حدود الصين، للصلاة على الإمام ابن تيمية رحمه الله، وحق لذلك الصوت أن يعلو مرة أخرى من ربوع الهند على الأقل إلى بلاد مصر والشام، فقد وافى الأجل ابن تيمية هذا العصر في التاسع عشر من جمادى الآخرة سنة 1349هـ الموافق 11 نوفمبر سنة 1930م. ولعل العالم الإسلامي لن يلد مثله فضلا ونبوغا، ذلك الإمام الجليل الذي كان نادرة من نوادر الدهر، ومستوعبا لعلوم الشرق والغرب، رجل واحد مستجمع لأنواع المعارف، مضطلع من العلوم الدينية، ناقد للعلوم العقلية، بذ أقرانه في الصناعات العربية، وفاق الخلق في التبحر في القرآن وتدبر معانيه وسبر أغواره، واستخراج حكمه ودرره، كنيف ملىء علما، وا أسفاه! لم ينقل من علمه إلى الصحف إلا النزر اليسير" ‏‏.

وما كتبه شيخنا الإمام أبو الحسن علي الندوي رحمه الله في تقديمه لكتاب (إمعان في أقسام القرآن): "فجاء هذا الكتاب – على صغر حجمه – يجمع بين إزاحة بعض الحجب التي طرأت على هذا الصنف من الإعجاز القرآني، وبين مادة ثرية من الأصول الأدبية، ونكت مستمدة من فن البلاغة وأساليب البيان العربي، ولا يتأتى ذلك إلا لمن جمع بين التدبر في القرآن والاشتغال به، وبين التذوق الصحيح لفن البلاغة والمعاني والبيان في اللغة العربية، والتشبع من دراسة بعض اللغات الأجنبية والصحف السماوية القديمة، وبين سلامة الفكر ورجاحة العقل والتعمق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" ‏‏

إن هذا الرجل لم يظهر مثله في علماء الإسلام بعد الشاه ولي الله الدهلوي (1176ه) في فقه الدين، وفهم كتابه، ونفوذ النظر فيه، ودقة الاستنباط منه، مع جرأة عقلية عديمة المثال، وخلع لربقة الهوى والتقليد، ومع قدرة عجيبة على اللسان وامتلاك ناصعة البيان، ومع صلاح وتقوى، وزهد وقناعة، وصبر وحلم، وسائر الفضائل، والمحاسن.

ألفت طريقه في التفسير، وزال كل لون عني وامحى، وعايشت القرآن الكريم تدبرا ثم تقريرا له على الطلاب وفق منهجه، عازما على أن أصنف تفسيرا موجزا باللغات العربية والإنكليزية والأردية سالكا مسلكه ومقتفيا أثره، وأن أخدم تراثه وأنشر علومه، وقد سبقت لي مقالات عن بعض جوانبه، وهذا هو أول عمل لي عنه في صورة كتاب.

وسميته (حكمة الصلاة)، مقسما إياه إلى مدخل في ترجمة الفراهي، ومدخل آخر في وصف الكتاب، وعشرة أبواب: معنى الصلاة وفضله، وتاريخ الصلاة، والصلة بين الصلاة وغيرها من أمور الدين، وشروط الصلاة، وصفة الصلاة، والجماعة والجمعة، وقيام الليل، وقصر الصلاة، وإقامة الصلاة، وآثار الصلاة.

انتقيت كل ذلك من كتاباته المنتشرة محيلا على مواضعها، ورتبته ترتيبا يجعله قريب المنال، وخرجت أحاديثه، وعضدته بالآيات القرآنية، والبيانات النبوية، وعبارات الأئمة المحققين، ورأيت في نشره الخير، راجيا أن يفعل في نفوس غيري ما فعل في نفسي، فهو يرد إلى الناس أطرافا من معاني الصلاة قد تفلتت منهم وامتنعت عليهم، تختلف إلى العلماء، وتتردد إلى الشيوخ فلا تكاد تظفر من بينهم بمن فتحت له تلك المعاني أو وجدت إليه سبيلا، وذلك أن عامتهم مغرمون بالسهل الميسور من العلم، ومفتونون باللذيذ الممتع من الفن، والطرق الممهدة مغرية، والجوادُّ المسلوكة مرغبة، فاستغنوا بها عن النظر والتحقيق وكل ما يكلفهم مشقة وعناء، ومن نيتي في تقديم هذا المجموع أن يبعث في الناشئة بعض الهمم، وينهض لهم العزائم.

وأدعو ربي أن يصلح نفسي، ويصحح قصدي، ويتقبل هذا العمل بقبول حسن، وهو على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين