تعلموا العربية أيها الجهلة (7) تعدد معاني

استنكر الضال رشيد كثرة المعاني التي أوردها اللغويون والمفسرون لمعنى "الصمد"، مستخفاً بذلك، لخبث سريرته، وطيش عقله، لقد عدد ثمانية عشر معنى للصمد، ثم تأفف بعد تعدادها بنطقه "أفٍّ" معبراً بها عن حنقه وتعبه، نعمْ هو ممثل بارع شبيه بالنسانيس الخفيفة والسنورات الخرقاء الطائشة، تساعده عيناه اللتان تشبهان عيون الفئران والجرذان، ثم كعادته يستعين بإبراهيم "المتسرين" ليقررا: أن لفظة "الصمد" سريانية ولا يمكن فهمها إلا بمعناها السرياني؟! سَرْينَهم الله فأعماهم وأضلَّ أعمالهم.

والجواب أيها الطائش المخدوع: أن كثرة المعاني التي أوردوها هي ظاهرة تتميز بها لغتنا العربية – لغة القرآن الكريم – ونفتخر بها على من غيرنا كما افتخر بها علماؤنا القدماء، والظاهر لكي تفهم الغرض أيها المسكين يجب عليك فهم هذه الظاهرة اللغوية فبمقتضاها ربما تنبلج لك أنوار العربية - وما إخال ذلك لأنك مطموس الفؤاد، مظلم العقل – فاجعل العربية ميزانك:

من تملَّى بكلامي نالَ من كل العلوم *** وأتى من كل فنٍّ بأفانين الفهوم

ولكن أقفر من أهله ملحوب، فرأينا منك ومن ضيفك هذا الفساد والبوار، هذه الظاهرة تتمثل بسعة العربية، وشمولها، وكثرة مفرداتها حتى قال عنها الشافعي "ولا نعلمه – أي لسان العرب - يحيط به إلا نبي" - (1) وقال ابن جني – وهو ليس من أصل عربي – مؤكداً ما قاله الشافعي "لا يكاد يُعلم بُعدُها ولا يُحاط بقاصيها" (2) ثم لتعلم أيها المتشدق أن من مظاهر العربية "الاشتراك والترادف"؟ أما سمعت – وطلاب المدارس تعرف ذلك عندنا – أن علماءنا ألفوا كتباً خاصة في أسماء أشياء خاصة كثرت عند العرب استعمالاتها فتعددت أسماؤها وصفاتها، لقد ألف ابن خالويه كتابا خاصاً بأسماء الأسد، كما ألف الفيروز أبادي كتاباً خاصا بأسماء عنوانه "ترقيق الأسل لتصفيق العسل" وله كتاب مفقود عنوانه الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف، والمعلوم أن للسيف عند العرب ما يقرب من ألف اسم وصفة، وليتك ترجع إلى مقدمة معجم الصحاح، واقرأ ما كتبه محقق المعجم "أحمد عبد الغفور عطار" حول أعداد جذور العربية في معاجم اللغة قال: العربية غنية بثروة لغوية لا قدرة لأحد على أن يحصيها إحصاء – كتب ذلك سنة 1956م أي قبل انتشار الكمبيوتر – لأن هذه الثروة من الضخامة والسعة لا يسلس قيادها لمن يريد حصرها، أو إحصاءها، وإن أكثر مواد العربية غير مستعمل، وكثير منه غير معروف، قال الكسائي: قد دُرس من كلام العرب كثير "وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير" ثم قرر بناء على ما استعمله عباس محمود العقاد أن المستعمل لا يزيد عن عشرة آلاف كلمة، في حين أن معجم الصحاح يضم أربعين ألف مادة، والقاموس المحيط ستين ألف مادة، والتكملة ستين ألف، واللسان ثمانين ألف، وتاج العروس مائة وعشرين ألف مادة، فالعربية بلغت من الغنى والسعة في المفردات اللغوية الحدَّ الذي لم تبلغه لغةٌ على وجه الأرض حتى الآن (3) ثم هل تعلم بعد ذلك كله أن ما قاله علماؤنا هو وصف لما بقي منها فقط؟! قال ابن فارس: إن لغة العرب لم تنته إلينا بكليتها، والذي جاءنا قليل من كثير، وقال أيضاً: ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاءنا شعر كثير وكلام كثير. (4)

أتُراك بعد هذا الذي ذكرناه عن سعة العربية تستغرب من كثرة ورود معاني عديدة للفظة "الصمد" ما هذا الطيش الذي لا برء لك منه، أريدك أن تدرك من وراء ما سردناه عليك سببَاً من أسباب اختيار الله العربيةَ لتكون لغةَ كتابه، إن في ذلك إشارةً إلى أن الإسلام حين اختاره الله ليكون نظاماً عالمياً ينظم شؤون الأفراد والدول، جعل الله سبحانه وتعالى العربية واسعة لا تكاد تحصر - كما قال ابن جني – ليقضي الناس جميعاً أغراضهم الدينية والدنيوية، إذ لو كانت ضيقة محددة الألفاظ لَما كان بوسعها أن تكون لغةً لهذا الدين العالمي، وتقوم بواجبها إزاء المتكلمين بها، وهذه الوظيفة التي ميزها الله بها عن سائر اللغات كانت سبباً أيضاً- والله أعلم - لجعلها مرنة ودقيقة، ولديها القدرة على تنوع أساليبها الكلامية، والتفنن في إنتاج ظواهر لغوية، فلما كانت العربية بهذه الفضائل وبتلك الميزات التي حباها الله إياها، فلا يستغرب أي عاقل من كثرة معاني "الصمد"؟ ثم هل غاب عنك أن السورة هي جواب عن سؤالهم: صِفْ لنا ربك؟ فلا شك أن وصف الذات الإلهية – خالق هذا الكون ومدبره - يستلزم الألفاظ الدالة على حقيقته سبحانه وتعالى، فرأينا منها "الأحد والصمد"، كما يستلزم التراكيب اللغوية الدقيقة مثل "لم يلد ولم يولد" إذ استعمل "لم" – مثلا- دون "لن" أو غيرها من أحرف النفي، ومثل تقديم خبر "يكن" على اسمها في قوله تعالى: "ولم يكن له كفواً أحد" فكل ذلك فيه حكم لغوية وأسرار عربية جعل أهل العربية - أهل الفصاحة - على اعتقاد تام بأن هذا الكلام ليس من كلام البشر، عبر عنهم الوليد بن المغيرة بقوله (5): "ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن والله إن له لحلاوة، وإن له لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه" أما أنت الجاهل بالعربية، فما زلت تنعق وتنقد القرآن الذي قالت عنه الجن أيضاً "إنا سمعنا قرآنا عجبا" أي معجباً في معانيه ومبانيه، فإذا كان الثقلان قد تعجبا من نظم قرآننا، وبهرتهم تراكيبه ودقائقه اللغوية! فمن أنت لتنقد وتشكك؟ رأيتك من خلال محاوراتك متفاصحاً لسناً كالحدأة التي جعلت لسانها سلاحها، لكنك لا تعي مضامين العربية ولا أسرارها، ولم تقف على مرادات العرب من عربيتهم، فأنت ومن يشايعك:

ذبابٌ رأَوا فوق الجبالِ وجودَهم *** ألا همْ ذبابٌ والجبالُ جبال ُ

والعياذ بالله من الكفر بعد الهداية أيها المخدوع، فلو عندك فهم للعربية لما طرحت فكرة تعدد معاني الصمد، ولما تساءلت لماذا قيل: الله الصمد؟، ولماذا قال بعد ذلك: لم يلد ولم يولد..إلخ ما تتقيأ به من مهازل فكرية فاسدة، ولزيادة التوضيح يامن طمس الله قلبه أقول لك ابتداءً: لو قلنا: رشيد حمامي كذاب دجال مراوغ خبيث ممثل، لكان جائزاً في العربية، وهي إخبار عنك أو صفات لك، بعد جعل كلمة "كذاب" خبراً عن اسمك "رشيد"، وكلها كما ترى متحققة فيك، فلِمَ تنزعج من قرآننا وعربيتنا أيها الجاهل الأفاك حين أورد علماؤنا معاني كثيرة للفظة الصمد؟لقد لجأت في حديثك عن لفظة "الصمد" إلى ضيفك "إبراهيم المتسرْين" الذي قال: إن "الصمد" سريانية، ولا أحد يستطيع أن يفهم معناها ما لم يأخذ بمعناها السرياني، قلت حين سمعت هذا الهراء، لعل لها معنى لا تعرفه العربية، يضيء لنا معاني قدسية زيادة على معانينا العربية؟ ففوجئت بأن الصمد عندهم تعني الجمع والاقتران والربط، فالصمد هو المُصمّد أي الموحَّد المُجمَّعُ، يعني (الثالوث الموحَّد) أي إلههم الثلاثي، قلت: سبحان الله سكت دهراً ثم نطق كفراً، ما أجهل هؤلاء! وما أشد غباءهم؟ ولبيان جهلهم نبدأ بالرد على ترهاتهم الواحدة تلو الأخرى:

1- قالوا: هذه اللفظة سريانية يعني ليست عربية، ووراء الأكمة ما وراءها فالجاهلان يريدان من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخذها من السريانية، وظنوا أنهم بذلك قد ظفروا بشيء ذي قيمة، وما علموا أن هذا ل ايؤثر على الحقيقة بشيء، لقد ذكرنا لكم سابقاً أن علماءنا تحدثوا عن الألفاظ الأعجمية التي وردت في القرآن الكريم، حديثاً مطولاً معروفاً مشهوراً، فلم ينكروا في النهاية وجودها في لغة العرب، فهم جميعاً متفقون على أن هذه الألفاظ كانت العرب تستعملها حين نزل القرآن، فهي عربية الآن، قال الجوهري: "تعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب على منهاجها" (6) أي تصيّره عربياً، فلما نزل القرآن كما قال أبو عبيدة كانت هذه الألفاظ قد اختلطت بكلام العرب، فمَنْ قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: أعجمية فهو صادق (7) إذن لا توجد عندنا مشكلة؟فلماذا تحاول مع ضيفك جعلها اكتشافاً علمياً؟!

قدْ رُحتَ بالوهم يا مجنونُ تجحَدُنا *** طيشاً كناموسةٍ طنّتْ على الجبلِ

ويمكننا أن نضيف إلى ما ذكرناه فنقول أيضاً: إن مثل هذه الألفاظ تعد ألفاظاً مشتركة بين اللغات السامية؟ وقد ذكرت لك سابقاً أن المشتغلين باللغات السامية يرفضون فكرة أن واحدة منها هي أصل لغيرها، وذكرت لك أيضاً بأن أقوالاً علمية الآن بات أصحابها يميلون بل يؤكدون أن العربية هي أم اللغات السامية؟ فإذا افترضنا أنها من المشترك اللغوي الكائن بين اللغات السامية، فهذا الفرض لا يرفضه أحد، لكنه لا يفيد أن العربية أخذته من السريانية كما تريدون هادفين من وراء ذلك تقرير: أن أصل القرآن أعجمي وليس بعربي، وأن رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم ألفه من لغات سامية شتى؟ "فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً" وأؤكد لك مرة ثانية أن هذه القضية لا تمثل شيئا ذا بال عند المسلمين، لأن كل لغات الأرض فيها ألفاظ من غيرها، ووقوع ألفاظ أعجمية في القرآن لا يدل على أنه ليس بعربي، ولا يعني أن رسولنا أخذه من التوراة أو الإنجيل، عن طريق أهل الكتاب كما ذكرنا، ثم هل عندك دليل على حصول ذلك؟ أين التقى بهم؟ ومتى؟ ومن هم؟ وكم استغرق هذا الأخذ؟ وكيف تم هذا التلقين؟ ولم لم يخبرنا اليهود والنصارى بروايات موثقة أسماء هؤلاء؟ ثم هل هؤلاء كانوا أصحاب فصاحة وبيان أعجَزوا العرب ببيانهم الذي تمثل بعد ذلك في هذا القرآن المعجز؟ ثم لقد ذكرت كتب اللغة الكثير من الفصحاء الذين اشتُهروا بين العرب مثل سحبان وائل، وقُسّ بن ساعدة الإيادي فلِمَ سكتوا عن ذكر هؤلاء الذين كانوا على علم عال بصياغة التراكيب المعجزة تلك التي أخذها عنهم رسولنا وتحدى بها قومه أهل الفصاحة والبان؟ ثم لماذا ضنَّ هؤلاء بما عندهم فلم يعطوه إلا للنبي محمد؟ مئات الأسئلة ترِدُ على هذا التفكير الساذج الدال على غباء صاحبه وخبثه ومكره! وأخيراً إذا كان مصدر الكتب السماوية هو الله سبحانه وتعالى، وأرادت الإرادة الإلهية أن تخبر رسولنا بتاريخ الأقوام الذين سبقوا أمته، ووقعت كلمات مشتركة في هذه الكتب فهل هذا يُستغرب؟ لا يستغربه إلا بليد الذهن! وهل إذا وجدت لفظة ذكرت في التوراة ثم في الانجيل، فيجب علينا أن نستنتج أن عيسى أخذ ها من موسى؟ولِمَ لا يقال: إن الله أخبر بهذه اللفظة الأنبياء جميعاً بدليل وردها في التوراة والإنجيل والقرآن؟ وقياساً على زعمكم هذا يُستنتج أن عيسى دلس الإنجيل وزوره قبل تحريفه ممن جاء بعده؟ منطقكم أعوج وفكركم خرب، والعياذ بالله، لذلك كله لا تتعبوا أنفسكم في إحضار ضيوف من أجل القول: إن في القرآن ألفاظاً آرامية أو عبرية، فالاشتغال بذلك هو فَقْرُكم العلمي، لأننا كما ذكرت لا ننكر ذلك، والقرآن حين نزل كانت العرب تتكلم بها، فباتت عربية؟! إنه بلسان عربي، ولله در من قال:

الحق بادٍ لم يزلْ لا يعتريه الباطلُ

الحقُّ يُعرَفُ أهلُه والكاذبون خوامل (يتبع)

1 - الرسالة،29

2 - الخصائص2/166وبهذانرد عليك حين تقول كيف يسأل الصحابة رضي الله عنهم عن معنى كلمة وهم عرب أقحاح؟ فالجواب فيما نبسطه لك من سعة العربية، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد علمه إياها جبريل عليه السلام،فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه – وقيل إن السائل هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله: مالك أفصحنا؟ ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل فحفظنيها – أي جيريل – فحفظتها" انظر روح المعاني،12/174 والأنوار المحمدية 201

3 - مقدمة الصحاح 24بتصرف

4 - المزهر 1/66

5 - القائل هو الوليد بن المغيرة

6 - 1المزهر /268

7 - المزهر 1/269

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين