جواب حديث الغرقد

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى

وبعد: فقد تكلم بعض الفضلاء في خبر قتال اليهود الوارد في كتاب مسلم، وفيه أن الله ينطق الشجر والحجر فيقول: (يا مسلم هذا يـهودي خلفي تعال فاقتله) وفيه زيادة: (إلا الغرقد) فإنه من شجرهم، وذهبوا إلى تضعيف هذه الزيادة وإعلالها بتفرد سهيل بن أبي صالح، وأن البخاري لم يذكرها، وأنه لا معنى لاستثناء الغرقد فإن فيه منافع يستشفى بـها، وأن ما ينقل في الخطب والمنابر ومواقع النت من أن اليهود يزرعون الغرقدة لا أصل له.

والكلام من وجوه:

الوجه الأول: هذا الحديث إنما رواه مسلم في الشواهد لا في الأصول، ولعله لتفرد سهيل به، وعدم ذكر البخاري له بـهذه الزيادة لا ينافي صحتها كما هو معلوم، لأنه إنما لم يذكرها لكونـها ليست على شرط كتابه، وتفرد سهيل هنا محتمل، لنكتة وهو أنه ملازم لأبيه معروف بالرواية عنه، ومن أصل الحفاظ احتمال التفرد والتدليس وعدم اعتباره علة في حديث من عرف بطول ملازمة الراوي وشهرته بالرواية عنه والإكثار منه، كالأعمش في أبي صالح وابن جريج في عطاء وغير ذلك.

فكيف وسهيل أثبت في أبيه من غيره، حتى إن الحافظ نقل كلام ابن عدي قال: وقال ابن عدي (سهيل شيخ، وقد روى عنه الأئمة، وحدَّث عن أبيه، وعن جماعة عن أبيه، وهذا يدل على تميُّزه؛ كونه ميَّز ما سمع من أبيه، وما سمع من غير أبيه، وهو عندي ثبت لا بأس به مقبول الأخبار، روى له البخاري مقرونا بغيره).

قال الحافظ: (وعاب ذلك عليه النسائي، فقال السلمي: سألت الدارقطني: لم ترك البخاري حديث سهيل في كتاب الصحيح؟ فقال: لا أعرف له فيه عذراً، فقد كان النسائي إذا مرَّ بحديث سهيل قال: سهيل والله خير من أبي اليمان ويحيى بن بكير وغيرهما).

وقال الحاكم في باب من عيب على مسلم إخراج حديثه: (سهيل أحد أركان الحديث، وقد أكثر مسلم الرواية عنه في الأصول والشواهد، الا أن غالبها في الشواهد، وقد روى عنه مالك وهو الحكم في شيوخ أهل المدينة الناقد لهم، ثم قيل في حديثه بالعراق أنه نسيى الكثير منه وساء حفظه في آخر عمره).

وقال فيه ابن عيينة: (ثبت في الحديث) فقد اتفق عليه شيخا أهل الحجاز مالك وابن عيينة، وأيضا فهو لم يخالف في هذا الخبر، بل غايته أنه روى ما لم يرو غيره، ومثل هذا التفرد لا يعل به الحديث إلا حيث كان معناه مناقضا للأصول، وهذا الخبر ليس كذلك.

وأما اختلاطه فلا يضر لأنه في حديث العراقيين عنه، وأما ما رواه أهل الحجاز عنه فهو صحيح، كهذا الخبر فإنه يرويه عنه يعقوب بن عبد الرحمن القاري المدني وهو ثقة كما قال الإمام أحمد، ولأجل هذا رواه مسلم في كتابه.

الوجه الثاني: أن له شاهدين يقويانه:

الشاهد الأول: عن أبي أمامة الباهلي في حديث مطول غريب كما قاله الحافظ ابن كثير، يرويه ضمرة بن ربيعة عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن عمرو بن عبد الله الحضرمي عن أبي أمامة الباهلي، أخرجه حنبل في (الفتن) والطبراني في (الطوال) والروياني في (مسنده) وابن أبي عاصم في (المثاني) وتمام في (فوائده) والضياء في (فضائل بيت المقدس) بـهذا الوجه.

ورواه ابن ماجة بوجه آخر من طريق عبد الرحمن المحاربي عن إسماعيل بن رافع أبي رافع عن أبي زرعة السيباني يحيى بن أبي عمرو عن أبي أمامة الباهلي، فخالف في إسناده، واضطرب فيه فرواه تارة عن السيباني عن عمرو بن عبد الله الحضرمي عن أبي أمامة.

وقد جزم الحافظ ابن حجر أن الصواب فيه الوجه الأول من طريق ضمرة بن ربيعة عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن عمرو بن عبد الله الحضرمي عن أبي أمامة الباهلي، وقطع المزي في (الأطراف) أن رواية ابن ماجة وهم فاحش، وإسماعيل بن أبي رافع ضعيف فلعل الوهم منه، والحديث على روايته منقطع لأن السيباني لم يسمع من أبي أمامة، فهذه الرواية مرجوحة ولا يسوغ أن تعلَّ بـها الرواية الراجحة، لعدم الاستواء كما تقرر في أصول الرواية، فكيف وهو قد رواه على الصواب كما مر، فروايته على الصواب الموافقة للرواية الصحيحة من طريق ضمرة أرجح، وقد وافقهم فيه عطاء الخراساني أيضا.

ولهذا صوَّب المزي في (التهذيب) الوجه الأول، وتبعه ابن كثير في (تاريخه) وذكر أن هذا الحديث وقع في تخبيط كثير، وذكر ابن حجر أنه وقع في بعض نسخ ابن ماجة على الصواب أيضا، ووقع في سنن أبي داود مختصراً على الصواب، ولهذا قطع ابن كثير بأن أبا داود جوَّد إسناده.

والصواب الذي أشار الحافظ أنه وقع في بعض نسخ ابن ماجة، لعله هو ما رواه أبو نعيم الأصبهاني كما في (النكت الظراف) من طريق عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن أبي رافع إسماعيل بن رافع عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني عن عمرو بن عبد الله عن أبي أمامة.

وعليه فهو إسناد صحيح مسلسل بالشاميين، وقد حسنه الحافظ ابن حجر، فإن ضمرة في أرفع درجات الثقة، والسيباني وثقه العجلي وقال يعقوب الفسوي: (شامي ثقة) وعمرو بن عبد الله الحضرمي قال فيه العجلي ويعقوب الفسوي كلاهما: (شامي تابعي ثقة) وقال ابن حبان في (المشاهير): (كان متقنا) وبه يُعلم خطأُ الشيخ شعيب في تعليقه على السنن حيث قطع بجهالته وضعَّف الحديث لأجله، وقد أثبت له ابن حبان صحبة، لكن قال أبو حاتم: (لا يصح حديثه) أي: مرفوعا لأنه لا تثبت صحبته.

وقد ادعى بعض الفضلاء أن حديث ضمرة هذا من أخبار كعب الأحبار، لأن نعيم بن حماد روى في (الفتن) عن ضمرة عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن كعب قال: (إذا سمع الدجال نزول عيسى بن مريم هرب، فيتبعه عيسى فيدركه عند باب لُد فيقتله، فلا يبقى شيء إلا دل على أصحاب الدجال، فيقول: يا مؤمن هذا كافر) ثم اعتمد على بعض كلام النقاد أن ضمرة له أوهام.!

وهذا تقرير ضعيف، ولو ذهبنا نطعن في الآثار بمجرد قول بعض النقاد في الثقات لم يسلم لنا راو، فمن الثقة الذي لم يُتكلَّم فيه، ولهذا لم يذكره الذهبي في (الميزان) واستدركه العراقي في (ذيله) فنقل قدح ابن المنادي فيه، وتعقبه بقول آدم بن أبي إياس في ضمرة: (ما رأيت رجلا أعقل لما يخرج من رأسه منه) وقال ابن سعد: (كان ثقة مأمونا خيِّراً، لم يكن هناك أفضل منه) ثم قال العراقي: (فمن كان هذا حاله عند أهل هذا الشأن، فكيف يحاسب كأحد من المتأخرين ويُتكلَّم فيه).!

وإنما قال الساجي فيه إن له مناكير لأجل تفرده بحديث عن الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: (من ملك ذا رحم محرم فهو عتيق) وهذا أنكره أحمد ورده رداً شديداً، وقال: (لو قال رجل إن هذا كذب لما كان مخطئا) ومع هذا قال أحمد في ضمرة: (رجل صالح، صالح الحديث، من الثقات المأمونين، لم يكن بالشام رجل يُشبهه، وهو أحب إلينا من بقية) وإنما أنكروا عليه خبر عتق ذي الرحم المحرم لأنه خولف فيه، ولم يتابع عليه، وأما هذا الخبر فلم يخالفه فيه أحد، فلا يسوغ رده بالاحتمالات والتوهمات المجردة.

على أن خبر نعيم هذا لا ذكر فيه لشجر الغرقد، بل هو عام وليس في مثنوية كما هو ظاهر، واختلاف الخبرين في المتن دليل ظاهر على أن حديث كعب غير حديث أبي أمامة، ويقويه أن ضمرة تثبت في الحديثين وميز مخرجهما ومتنهما، فروى خبر كعب عن يحيى بن أبي عمرو عن كعب، على العموم في متنه، وروى خبر أبي أمامة عن يحيى بن أبي عمرو عن عمرو بن عبد الله الحضرمي عن أبي أمامة، على تخصيص الغرقد في متنه، وهذا التمايز دليل على الضبط، وبه يظهر تـهافت هذه الدعوى، بل الأولى أن يجعل خبر كعب دليلا على ثبوت أصل الحديث عند أهل الكتاب، فيتوافق الخبران في أصل المعنى، ويزيد خبر أهل الإسلام باستثناء الغرقد.

الشاهد الثاني: أخرجه نعيم في الفتن: حدثنا عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة وليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفا، وهذا إسناد مسلسل بالمصريين وهو صحيح موقوف، فإن كان من أخبار أهل الكتاب فهو يقوي خبر أهل الإسلام، ويبطل به قول من زعم أنه لا يعرف خبر الغرقدة عن أهل الكتاب، وإن كان ليس عن أهل الكتاب فله حكم الرفع لأنه مما لا يقال بالرأي، ولا يقال إن نعيم بن حماد فيه كلام، لأن الذي استقر عليه عمل أهل الرواية النقل عن كتابه واعتماده، وإنما الضعف فيما يرويه من حفظه، وعلى تقدير ضعفه مطلقا فهو شاهد صالح لما مر.

فهذه ثلاثة سنن مفاريد، لثلاثة أمصار مشهورة بالعلم، فحديث سهيل مسلسل بالمدنيين، وخبر أبي أمامة مسلسل بالشاميين، وخبر ابن العاص مسلسل بالمصريين، وكلها صحيحة بمفردها، فكيف إذا جُمع بعضها إلى بعض.

الوجه الثالث: وأما ما قيل عن شجر الغرقد، فليس مما يتجه إعلال الروايات به، لأنه معنى ضعيف لا يتقرر بوجه صحيح، وكما أن للغرقد منافع فله مضار وهو سام، وهذا يقابل المعنى الذي ذكره من رام الطعن في الخبر من هذا الوجه.

وأيضا فإن وجود الفوائد للغرقد لا يمنع من أن يكون ضارَّاً من الوجه الذي قرَّره الحديث، وهو كونه من شجر اليهود وأنه لا ينطق ليخبر باختبائهم خلفه، فإن هذا معنى لا تعلق له بوجود منافع في ثمره، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب مثلا للفاجر الذي يقرأ القرآن بالريحانة وفيها فوائد معلومة.

وهذه الحجارة فيها منافع عظيمة خلقها الله للناس، وهي يوم القيامة وقود النار، وضرب الله مثلا، ولا تلازم بين خلق المنافع فيها وبين وجود نوع شر فيها، وقد كان في البقيع شجر الغرقد فقُطع وبقي الاسم، على أن نسبة هذا الشجر لليهود لا لأنه يختص بـهم بل لأنـهم يختبئون خلفه ولا يخبر بـهم، كما لعن الله في كتابه شجر الزقوم، لا لأنه ملعون في نفسه، بل لأن آكله في النار ملعون، ويحتمل أنـها إنما لُعنت لأن كل من ذاقها لعنها لكراهة طعمها، وهكذا الغرقدة إنما ذمها الشارع لأنـها خالفت جنسها في ترك الإخبار باختباء اليهود وراءها، فوقع الذم عليها لأن فعلها المذموم يستلزمه.

ويحتمل لأن منظرها كريه ولهذا وصفت بأن طلعها كرؤوس الشياطين، فالغرقدة مثلها لأن طعمها كريه وسام، وإنما الفائدة في بعض ورقها وخواصها، كالذباب في جناحه داء وفي الآخر دواء، وكالثوم والكراث والبصل سمي شجرة خبيثة كما صح في الحديث مع ما فيه من فوائد ومنافع عظيمة، لكن الذم واقع على ريحه، وهذا لأن الذم من وجه لا يستلزم النقص في الكل، ووجود المدح والنفع في البعض لا يقتضي امتناع الضر والذم من البعض الآخر.

وأما ما ذكروه عن اليهود وأنـهم يزدرعون الغرقد لتكثيره فزعم الناقل أن هذا من أخبار النت التي يروجها القصاصون والخطباء بلا تمميز، فلا أدري ما وجهه، وقد قرأت في جريدة اليوم السابع المصرية النقل عن صحيفة يديعوت أحرنوت أنـها نشرت خبراً يتضمن صوراً عن زراعة شجر الغرقد في إسرائيل بعد كشفهم أنه لكثافته صان سكك الحديد من صواريخ حماس فلم تتضرر منها، والله أعلم.

وادعى بعض الباحثين أنه لم يجد في التاريخ ما يشهد لوجود اعتناء بـهذا الشجر عند اليهود، وهو عجيب منه فإن الحديث خرج مخرج الإخبار بالمغيبات فكيف يعارض بمثل هذه الدعوى، وأيضا فإنه من الإخبار بما يقع آخر الزمان، فعدم وجود أصل لاعتناء اليهود به لا يضره، لأن مقتضى كونه خبراً عن مستقبل يدل على عدم وقوعه في الماضي، فلا يلزم من عدمه في الماضي عدمُهُ في المستقبل، وإلا لم يكن في الإخبار به معجزة، بل الأصل أن يجعل هذا الخبر دليلا على أن اعتناءهم بالغرقد يقع في آخر الزمان حيث يظهر لهم الحاجة إليه، على أن المقرر عند أهل الميزان أن الكلية السالبة تنتقض بموجبة واحدة، وقد نقلنا عن صحيفة اليهود المعتمدة ما ينقض كلام هذا الباحث، وبالله لتوفيق.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين