ملامح سور القرآن: سورة العنكبوت

مقصد سورة العنكبوت بيِّن من مطلعها، وهو الفتنة بمعنى الابتلاء، لتمحيص الإيمان، وليظهر الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، فالدعاوى كثيرة، والاختبار يظهر الحقيقة، وذلك سنة الله في الماضين واللاحقين.

ولكن قوله: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) يدل على أن الفتنة المرادة الفتنة بالناس المكذبين والصادِّين والمؤذين، وقد جاء صريحًا في قوله بعد: (فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله).

وقد جاء جزء كبير من السورة في بيان عاقبة هؤلاء الذين يعملون السيئات، أي المؤذين للمؤمنين، كما أخذ قوم نوح بالطوفان، وقوم لوط بالحجارة، وقوم شعيب بالرجفة.

وتبين السورة أن كل قبيل من الأقوام كان له نوع من الأخذ، ولكنهم جميعًا استحقوا المصير نفسه: (فكلا أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا)، ولم ينجهم أو ينصرهم ما تعلقوا به من أسباب، أو اتخذوه من أولياء، فذلك في منَعته كبيت العنكبوت، وهو أوهن البيوت.

ثم أشارت السورة إلى موعد ذلك، وإلى استعجال الكافرين له تهكمًا، وهو له أجل، ويأتي بغتة، ليكون أنكى وأشد، وهناك العذاب المؤجل في الآخرة.

ولم تفصِّل السورة إلا في قصة إبراهيم ولوط، وأظن أن ذلك لأنهم قلة معدودة، في وسط كثرة غالبة، وأكثر ما جاء في قصة إبراهيم جدله لقومه، وهو جدل للمشركين يقابله جدل أهل الكتاب المشار إليه في أواخر السورة مجملًا.

ومن الجدل: الاستدلال على المصدر الإلهي للقرآن، إذ تلاه النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد بلوغه الأربعين، وما كان قبل ذلك يتلوه بلسانه ولا يخط بيده، وهذا كما جاء في سورة يونس: (فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله)، إذ لو كان تحصيلًا ذاتيًّا لكانت له مبادئ وأوائل، ولكنه نزل عليه مكتملًا آمرًا ناهيًا معاتبًا، ثم إنه انتقل إلى صدور أهل العلم يحملونه ويتلونه ويحرصون على كل لفظة فيه، ولو كان كلامًا بشريًّا لما حفظ هذا الحفظ، ولما أحيط به تامًّا طبقة بعد طبقة. ثم هو بعد ذلك أُنس التالي، وعصمة المبتلَى، ونور البصيرة، وحبل الله المتين.

ثم ذكرت السورة ألوانًا من الفتنة بالناس، بدأتها بفتنة الوالدين المشركين، وذلك من أشدها، للصلة النفسية بهما، ثم فتنة طول المدة، فقد بلغت في حالة نوح ألف سنة إلا خمسين عامًا، فالأولى في النوع، والأخرى في المقدار الزمني. والإشارة إلى فتنة أهل الكتاب، وهو لون آخر، لأن لهم صلة ما بالوحي والألوهية والنبوة، فربما افتتن بعض الناس بقولهم ودعوتهم لدينهم. وإبراهيم -عليه السلام- على جلالة قدره، وقد وصفه الله بأنه أمة، آمن له لوط فحسب، وهذه فتنة أخرى، فتنة قلة الأتباع، وعوَّضه الله بالذرية الصالحة، بل بذرية من الأنبياء، فكان هو أبا الأنبياء.

ومن مراودة الكفار للمؤمنين ليكونوا مثلهم ويعملوا بعملهم ويعينوهم على ظلمهم وفسوقهم أنهم يهوِّنون عليهم ذلك بأنهم سيحملون عنهم خطاياهم يوم القيامة، ولن يكون ذلك، ولكنهم سيحملون أوزارًا مضاعفة بإضلالهم غيرهم، وسيحمل أولئك قسطهم لا ينقص من شيء، وكما في مجادلة إبراهيم لقومه سيكون بينهم يوم القيامة التكافر والتلاعن، وإن جمعتهم مودة الدنيا باتخاذ الأوثان. ومن أراد بمجاراة الكفار فيما هم عليه أن يحتمي بهم ويتعزز بهم فإنما يحتمي بأوهن البيوت، وهو بيت العنكبوت.

وأشارت السورة في أواخرها إلى الهجرة، للخروج من ضغط الفتنة: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون)، وما يتصل بذلك من الخوف على الرزق، فقال: (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم)، فليس الانتقال بمانع الرزق، ولا الرزق بمحمول، ولكنه مقدَّر مكفول، وعلى كل حال فالحياة هي حياة الآخرة، وليست الدنيا بدار قرار ولا اطمئنان. ولأن الآخرة هي الحيوان، فالجزاء الأوفى فيها، فوعَد الله عباده المؤمنين بأن يبدلهم من ضنك الدنيا غرف الآخرة، والأنهار الجارية، والخلود في الجنة، وتكفير السيئات، وأن يجزيهم أحسن الذي كانوا يعملون.

ثم ختمت السورة بأن المجاهدة في الله هي سبيل الهداية إليه، وذلك بمقاومة ما يصد عن سبيله، وحمل النفس على الثبات على طريقه، وإنما كان ذلك كذلك لأن بذل هذا الجهد من الإحسان، والله مع المحسنين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين