نبي الرحمة (19)

غزوة بدر الكبرى اول معركة من معارك الإسلام الفاصلة(1)

- سبب الغزوة:

في غزوة العشيرة أفلتت عير قريش من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذهابها إلى الشام، ولما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث صلى الله عليه وآله وسلم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال، لكشف خبرها، فوصلا إلى الحوراء، ومكثا حتى مر أبو سفيان بالعير في طريقه إلى بدر، فأسرعا وأخبرا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والعير تحمل ثروات طائلة من أهل مكة، ألف بعير موقرة بالأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي، وفيها من الحرس أربعون رجلاً. فأعلن صلى الله عليه وآله وسلم في المسلمين:(هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها). ولم يعزم على أحد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، فلم يكن يتوقع أنه سيصطدم بجيش مكة- بدل العير- في بدر، فتخلف كثير من الصحابة، يحسبون أنَّ مضيَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لن يعدو ما ألفوه في السرايا الماضية، فلم يُنكر على أحد تخلفه في هذه الغزوة. خرج صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ٨٢ أو ٨٣أو ٨٦ من المهاجرين، ٦١ من الأوس و ١٧٩ من الخزرج, لم يتخذوا أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرس أو فَرَسان، فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيراً ليعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وكان صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيراً. واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء ردّ أبا لبابة بن عبد المنذر، واستعمله على المدينة. ودفع لواء القيادة العامة لمصعب بن عمير، وكان اللواء أبيض. وقسم جيشه إلى كتيبتين: ١- كتيبة المهاجرين، وأعطى رايتها علي بن أبي طالب. ٢-كتيبة الأنصار، وأعطى رايتها سعد بن معاذ. (كانت الرايتان سوداوين). وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو- وكانا الفارسين الوحيدين - وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده صلى الله عليه وآله وسلم. وسار في هذا الجيش غير المتأهب، فخرج من نقب المدينة، ومضى على طريق مكة، حتى بلغ بئر الروحاء، ثم انحرف ذات اليمين على النازية يريد بدراً, ثم انصب حتى قرب من الصفراء، وهنالك بعث بَسْبَس بن عمرو الجُهَنِي وعدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر يتجسسان له أخبار العير.

- النذير في مكة:

وصل خبر استنفار المسلمين لملاقاة العير إلى أبي سفيان، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة، مستصرخاً قريش، وخرج ضمضم سريعاً حتى أتى مكة، فصرخ ببطن الوادي، وقد جدع أنفه، وشق قميصه: يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث. فتحفزالناس سراعاً وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا، والله ليعلمن غير ذلك، فكانوا بين خارج، أو باعث مكانه رجلاً، وتخلف من أشرافهم أبو لهب،الذي عوض عنه رجلاً كان له عليه دين، وحشدوا مَن حولهم من القبائل فلم يتخلف عنهم إلا بنو عدي. وكان الجيش المكي نحو ألف وثلاثمائة مقاتل، و معه مائة فرس وستمائة درع، وجمال كثيرة، وقائده العام أبو جهل بن هشام، والقائمون بتموينه تسعة رجال من أشرافهم، فينحرون يوماً تسعاً ويوماً عشراً من الإبل. ثم ذكرت قريش ما كان بينها وبين بني بكر من العداوة، فخافوا أن تضربهم من الخلف، فكاد ذلك يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جُعْشُم المدلجي - سيد كنانة- فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. وخرجوا من مكة، كما قال الله:{بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنفال:٤٧]، وأقبلوا كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (بحدهم وحديدهم، يحادون الله ويحادون رسوله)، وعلى حمية وغضب لاجتراء المسلمين على قوافلهم.وتحركوا بسرعة باتجاه بدر، وسلكوا وادى عُسْفَان، ثم قُدَيْدًا، ثم الجُحْفَة، وهناك تلقوا رسالة من أبي سفيان: إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله فارجعوا.

- العير تفلت:

لمّا اقترب أبو سفيان من بدر لقي مَجْدِىَّ بن عمرو، وسأله عن جيش المدينة، فقال: ما رأيت أحداً أنكره، إلا أني رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا، فبادر أبو سفيان إلى مناخهما، فأخذ من أبعار بعيرهما ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذا والله علائف يثرب، فرجع إلى عيره سريعاً، محولاً اتجاهها نحو الساحل غرباً، تاركاً الطريق الذي يمر ببدر. وبهذا نجا بالقافلة، وأرسل رسالته إلى جيش مكة في الجحفة.

- همّ الجيش المكي بالرجوع ووقوع الإنشقاق فيه:

لمّا تلقى جيش مكة رسالة أبي سفيان هموا بالرجوع، ولكن قام طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائلاً: والله لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً. وأشارالأخنس بن شريق بالرجوع فعصوه، فرجع هو وبنو زهرة، وكانوا حوالي ثلاثمائة، وأراد بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل، وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع. وسار الجيش وقوامه ألف مقاتل. ونزل وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادي بدر.

- تحرج موقف الجيش الإسلامي:

استخبارات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرته- وهو لا يزال في الطريق بوادي ذفران- خبر العير والنفير، وتأكد أنه لا بد من لقاء دام، ولا بد من الإقدام بشجاعة وبسالة، ولو تُرك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة فذلك تدعيم لمكانة قريش العسكرية، وامتداد لسلطانها السياسي، ومن يمنعُ جيش قريش بعدها عن مواصلة السير للمدينة، ليغزو المسلمين في عقر دارهم، فلو حدث من جيش المدينة نكول كان له أثر سيئ على هيبة المسلمين.

- المجلس الإستشاري:

عقد صلى الله عليه وآله وسلم مجلساً عسكرياً استشارياً، لتبادل الرأي مع عامة جيشه، وقادته. فتزعزع قلوب فريق من الناس {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ * يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال٥-٦]، فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه. فقال له صلى الله عليه وآله وسلم خيراً ودعا له به. ثم قال بعد سماع كلام القادة الثلاثة من المهاجرين:(أشيروا عليّ أيها الناس)وإنما يريد الأنصار، وفطن لذلك قائدهم سعد بن معاذ، فقال: والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: فقد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدواً غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسُر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد، ثم قال:(سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين: والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم).

- الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بعملية استكشاف مع أبي بكر الصديق:

وبينما هما يتجولان حول معسكر مكة إذا هما بشيخ من العرب، فسأله صلى الله عليه وآله وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه- سأل عن الجيشين زيادة في التكتم- قال: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال له صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا أخبرتنا أخبرناك) قال: أو ذاك بذلك؟ قال: نعم. قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذي به جيش المدينة- وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذي به جيش مكة- ولما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال صلى الله عليه وسلم:(نحن من ماء)، ثم انصرف عنه، وبقي الشيخ يتفوه، ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟!

- الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي:

بعد الإستكشاف الذي قام به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث ثلاثة من قادة المهاجرين، علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه- لجلب الأخبار- فذهبوا إلى ماء بدر، فوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة، فألقوا عليهما القبض وجاؤوا بهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في الصلاة، فاستخبرهما القوم، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم ورجوا أن يكونا لأبي سفيان- لا يزال في نفوسهم أمل في الإستيلاء على القافلة- فضربوهما موجعاً، حتى اضطر الغلامان أن يقولا: نحن لأبي سفيان فتركوهما. ولما فرغ صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة قال لهم كالعاتب:(إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله، إنهما لقريش). ثم خاطب الغلامين قائلاً:(أخبراني عن قريش) قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما:(كم القوم؟) قالا: كثير. قال:(ما عدتهم؟) قالا: لا ندري، قال:(كم ينحرون كل يوم؟) قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، فقال صلى الله عليه وسلم:(القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف)، ثم قال لهما:(فمن فيهم من أشراف قريش؟) قالا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف في رجال سمَّياهم. فأقبل صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال:(هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها).

  • - نزول المطر:
  • وأنزل الله في تلك الليلة مطراً واحداً، فكان على المشركين وابلاً منعهم من التقدم، وكان للمسلمين طلاً طهرهم به, وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط به على قلوبهم.

- الجيش الإسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية:

تحرك صلى الله عليه وآله وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر، ويحول بينهم وبين الإستيلاء عليه، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر، فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال:(بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم- قريش- فننزله وتغور- أي نخرب- ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لقد أشرت بالرأي). فنهض صلى الله عليه وسلم بالجيش، حتى أتى أقرب ماء من العدو، فنزل عليه شطر الليل، ثم صنعوا الحياض، وغوروا ما عداها من القلب.

- مقر القيادة:

نزل المسلمون على الماء فقال سعد بن معاذ: يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الآخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولوظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك، ويجاهدون معك. فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيراً، ودعا له بخير وبنى المسلمون عريشاً على تل يشرف على ساحة المعركة. وانتخب فرقة من الأنصار بقيادة سعد بن معاذ، يحرسون مقر قيادته.

- تعبئة الجيش وقضاء الليل:

ثم عبأ صلى الله عليه وآله وسلم جيشه، ومشى في موضع المعركة، ويشير بيده:(هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله). ثم بات يصلي إلى جذع شجرة، وبات المسلمون ليلهم وقد غمرت الثقة قلوبهم، يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباحاً {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ} [الأنفال:١١]. كانت هذه ليلة الجمعة ١٧ رمضان ٢ هـ.

يتبع .......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة ( الرحيق المختوم )

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين