نقض مزاعم في التفسير العلمي

كَثُرَ المدَّعون في زماننا هذا، الزَّمانِ الذي تفشَّى فيه الجهل والادِّعاء، والتَّطاول على العلم والعلماء، وخاصَّة سلف هذه الأمَّة مِن المفسرين والفقهاء، بحجَّة أنَّهم رجالٌ، وأنَّ هؤلاء المتعالين المناطحين رجالٌ، ونحن لا ننفي الرُّجولة عن المتأخرين، كما لا ننفي الإبداع في بعض الأنواع، غير أنَّنا لا نرضى نقض الصَّحيح الثَّابت المتَّسق مع اللُّغة والسِّياق والسِّباق وأصول التَّفسير بزعم زاعمٍ لا يحسن أن ينطق بالعربيَّة فضلًا عن أن يفسِّر كتابها الأوَّل، كتاب الله تعالى.

وهذه سلسلةٌ مِن نقض آراء هؤلاءِ المتطاولين على كتاب الله تعالى وعلى علماء الأمَّة، نبدؤها ببيان تهافت تفسيرات المهندس علي منصور كيالي الذي اغترَّ بأقواله وتنطُّعاته غير المختصين في التَّفسير وعلوم القرآن فنشروها بين النَّاس على وسائل التَّواصل الاجتماعي دون وعيٍ وانتباهٍ لما فيها مِن عثراتٍ وضلالاتٍ.

كما أتبعها بتفسيرٍ منحرفٍ سمعته مِن بعض المعاصرين حول نجاة سيِّدنا يونس عليه الصَّلاة والسَّلام بعد التقام الحوت له، ينتهي في تحريفه هذا إلى إبطال المعجزة الظَّاهرة ظهور الشَّمس في وسط النَّهار!!

المهندس علي منصور كيالي وافتراءاته:

بوَّابات الكذب والافتراء!!:

مِن ذلك ادِّعاؤه أنَّ الصَّواريخ التي تُرسل نحو الفضاء الخارجي لا تُطلق إلَّا مِن بوَّاباتٍ خاصَّة في الغلاف الذي يحيط بالأرض، وزعم أنَّ الصَّواريخ الرُّوسية مثلًا تُدفع إلى الفضاء في أماكن مخصوصةٍ لا يمكن أن تُدفع في غيرها!!

وقرَّر بكلِّ جرأةٍ أنَّ ذلك مذكورٌ في كتاب الله تعالى، وسرد آياتٍ ذكرت أنَّ في السَّماء أبوابًا!!

ولا ريب أنَّ هذا التَّهوُّرَ اعتداءٌ على كتاب الله تعالى أولًا، واعتداءٌ على حقائق العلم ثانيًا، ونحن نتحدَّاه أن يدلُّنا على مصدرٍ علميٍّ موثوقٍ يؤيِّده في زعمه الفاسد هذا، فقد سئل أهل الاختصاص في هذا المضمار، ومنهم مَن كان له تجربةٌ فعليَّةٌ، فنفوا ذلك وعجبوا مِن بوَّابات الكذب هذه وممن ادَّعاها!!

أليس هذا استخفافًا بكتاب الله عزَّ وجلَّ، واستهانةً بعقول المسلمين خاصَّة والنَّاس جلُّهم من العامَّة؟!

جهل في العقيدة وادعاء في العلم:

ومِن ذلك أيضًا ما رأيته في مقطعٍ مصوَّرٍ، وأمامه حشدٌ يبدو مِن لباسهم أنَّهم مِن دولةٍ خليجيَّةٍ، وقد أنصتوا له تمامَ الإنصاتِ، وكأنَّ على رؤوسهم الطَّير، وهو يقول بلغةٍ مُنْحَدِرَةٍ سَقِيْمَةٍ (الله لا يريد لنا مرض السرطان، القرآن الكريم إذا موجود عندنا فما عندنا مشكلة، ولا بأي مرض، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) هذا كلامه بحروفه وألفاظه.

ثمَّ تحدَّث عن الغُدَّة الصَّنوبريَّة، وأنَّها تفرز مادَّةً لها أثرٌ في منع مرض السَّرطان، وأنَّ آثرها إنَّما يكون بعد صلاة العشاء إلى الفجر، وأدخل في حديثه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾ [النور:58]!!

وفي التَّعليق على كلامه أقف عند فكرتين:

- الأولى: قوله (الله لا يريد لنا مرض السرطان) هذه العبارة تدُّل على جهلٍ عارمٍ يَجتاح عقل هذا الرَّجل الذي يتصدَّى للحديث عن القرآن وإعجازه وتفسيره.

فما مِن شيءٍ كان أو سيكون، مِن الذَّرة إلى المجرَّة إلَّا بإرادة الله تعالى ومشيئته، ومرضُ السَّرطان كان بإرادته سبحانه وتعالى وهو يريده للابتلاء والامتحان، كما يريد غيره مِن الابتلاءات والامتحانات.

- الثَّانية: قوله (القرآن الكريم إذا موجود عندنا فما عندنا مشكلة ولا بأي مرض.. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى..):

هذا خلطٌ وخَبَطٌ لا كخَبْطِ العَشواءِ، بل كخَبْطِ العمياءِ، فما علاقة كون القرآن عندنا بالأمراض الابتلائيَّة لا العقابيَّة، وما صلة قوله تعالى: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه:2] بحديثه وكلامه؟!!

كان القرآن العظيم ينزل غَضًّا طريًّا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تنقطع الأمراض، لأنَّها كما قدمنا آنفًا ابتلاءاتٌ جُبِلت عليها الحياة الدُّنيا، وستبقى ما بقيت الحياة.

فكم مِن إمامٍ، وكم مِن وليٍّ، وكم مِن صالحٍ، وكم مِن مؤمنٍ طائعٍ أصابه مرضٌ أفضى به إلى بارئه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» [مسلم برقم:2999].

ومرض السَّرطان الذي يتحدَّث عنه هذا الرَّجل يصيب الحضريَّ والبدويَّ، والغنيَّ والفقير، والكبير والصَّغير، ونحن نسأله تعالى العفو والعافية في الدِّين والدُّنيا والآخرة.

الحور العين دليل سياحي!!:

ومِن آخر الطَّامات والجهالات والسِّيئات التي افتراها هذا المهندس قوله: إنَّ الحور العين هم: (عبارة عن دليلٍ سياحيٍّ أو عبارة عن الخدم الذين يوزعون الشَّراب والفواكه وكل هذه الأمور)!!

وهذه عباراته نقلتها بألفاظها السَّقيمة القبيحة مِن حيث اللُّغة العربية.

ودليله على هرائه هذا، أنَّ الله تعالى ذكرهنَّ في آيتين: (عربًا أترابًا) ثمَّ فسَّر ذلك بقوله: أي صغيراتٍ دون العشر سنواتٍ، وصديقات لا زوجات، فهنَّ لسن للعمل الجنسي!!

ثمَّ تقوَّل على الله تعالى، وافترى على اللُّغة العربيَّة فقال: وقوله تعالى: ﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾ [النبأ:33]، أي الأنثى دون العشر سنوات التي ليس لها صدر!!

وهذا إفكٌ مبينٌ على كتاب ربِّ العالمين، وعلى اللِّسان العربيِّ المبين، وأغفل قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ [الدخان:54]؛ لأنَّه يفسد عليه كلَّ تخرصاته!

وفي النِهاية نقول: ألا فليتق الله عزَّ وجلَّ أولئك الذين يظهرون هذا المعتدي المتهوِّر وينشرون كلامه..

والمرجو مِن المحطَّات الفضائيَّة التي تروِّج لهذا الرَّجل أن تتقي الله تعالى، وأن تعظِّم كتابه، وأن تكرم العقول عن مثل هذا الغُثَاءِ والسُّخف الهازل.

ما سر نجاة سيدنا يونس؟!:

ومن أعجب ما وقفتُ عنده مِن تفسيراتٍ منحرفةٍ، هذا التَّفسير لهذه الآيات مِن سورة الصَّافات، وهي قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات:142-143-144].

يَزعم أحدهم أنَّ سيِّدنا يونس النَّبيّ الكريم عليه الصَّلاة والسَّلام عندما التقمه الحوت بعد خروجه مِن القرية مغاضبًا، وركوبه البحر، ثمَّ إلقائه فيه بعد مساهمته – أي اقتراعه- يزعم أنَّه سقط في حجرة الهواء؛ أي في رئة الحوت، فلم يُحَل بينه وبين الهواء الذي تقوم به الحياة عادةً؛ لهذا لم يمت وبقي حيًّا طوال المدَّة التي مكثها في بطن الحوت، ولولا وقوعه في هذه الحجرة الهوائيَّة، لهلك من ساعته!

هكذا يفهمون سرَّ نجاة هذا النَّبيِّ، فما هي إلَّا أسبابٌ ومسبَّباتٌ، وليس هناك آية ولا معجزة خارقة للعادة!

ولستُ أدري ماذا بقي مِن المعجزات بعد هذا التَّفسير المتعسف؟! لم يبقَ إلَّا أن ننكر ذواتنا وأنفسنا؛ لأنَّها معجزات لكنَّها مألوفة!

وما أدري أيضًا ماذا يقولون في معجزة الإسراء والمعراج التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصَّةً المعراج الذي تجاوز به رسول الله السَّماوات العلى، ولم يكن في مركبةٍ فضائيَّةٍ مترعة (بالأوكسجين) وما تكون به حياة الإنسان؟!

وهذا التَّفسير بل التَّحريف منقوضٌ مِن قواعده وذلك بأمورٍ:

الأول: أنَّ الآيات التي ذكرت سيِّدنا يونس والتقام الحوت له جاءت في نسق الآيات التي تتحدَّث عن الأنبياء ومعجزاتهم التي أيّدهم الله تعالى بها، فذكرت داود وتسبيح الجبال والطَّير معه، وسليمان وتسخير الريح والشَّياطين له، ثمَّ ذكرت ما أصاب أيوب مِن البلاء الشَّديد وكيف كشف الله عزَّ وجلَّ عنه الضُّر الذي أحاط به، بعد ذلك جاء ذكر ذي النُّون (يونس) الذي ترك قومه المعرضين عن دعوته مغاضبًا فقال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [المؤمنون:87 – 88]، وقد أُردفت هذه الآيات بذكر زكريا ودعائه والتجائه إلى الله سبحانه وتعالى ليرزقه الولد الصَّالح _ وقد كان شيخًا كبيرًا، وكانت زوجته عقيمًا_ فأُعطي ما سأل.

وهكذا نرى أنَّ سياق الآيات يتحدَّث عن الأنبياء ومعجزاتهم التي تجاوزت نواميس الكون وقوانينه المعروفة، فلا يسوغ في عقل عاقلٍ أن يفسرها تفسيرًا ماديًّا، وكذلك الأمر الذي وقع ليونس عليه السَّلام ما هو إلَّا معجزة صِرفة، وما هي مِن الأسباب المادية في شيءٍ.

الثَّاني: أنّه لو سلمنا جدلًا أنَّ يونس سقط في حجرة الهواء كما يدَّعون، فلا بدَّ أن يقال لهم: كيف نجا إذن مِن بين فكيِّ الحوت بعد التقامه؟ كيف يُتصوَّر أن يقع إنسانٌ في فم حوتٍ في ظلمة اللَّيل والبحر مضطرب، ثمَّ يبقى حيًّا دون أن يتمزَّق شرَّ ممزَّقٍ؟!

ثمَّ إني لأسأل سؤالَ المستفسر المتعجِّب: هل جرت العادة في عالم الحيتان أنّها عندما تبتلع شيئًا تلقيه في حجرة الهواء وتبقى معداتها الضَّخمة الفارغة يعض بعضُها بعضًا؟!

مَنْ قال هذا؟! وفي أيِّ مرجعٍ علميٍّ عظيمٍ حظيَ به؟! أم هي أضغاث أحلامٍ رآها في منامه ثمَّ أذاعها بين النَّاس على أنَّها حقائق علميةٍ؟!

لا ريب أنَّ يونس عليه السَّلام كان في بطن الحوت كما أخبر الله عزَّ وجلَّ حيثُ قال: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: 143- 144]، وقد أمر الله تعالى هذا المخلوق الفتَّاك أنَّ يحفظ عبده يونس في بطنه حيًّا؛ ليكون أشبه بالسِّجن، وكأنَّ الله تعالى قال لهذا الحوت الضَّاري: هذا عبدي يونس لا تنهش له لحمًا ولا تحطم له عظمًا لكن احفظه سجينًا في بطنك إلى حين، وهذا مظهر المعجزة الخارقة للعادة.

الثَّالث: ويقال لهم أيضًا: كيف تفسِّرون ما حصل ليونس بعد ذلك مِن خروجه مِن بطن الحوت، وقذفه له في مكانٍ مناسبٍ على الشَّاطئ، وإنبات الله تعالى عليه شجرةً مِن يقطين، لتعود إليه قوَّته وصحته بعد هذه المحنة وهذا الابتلاء؟!

كلُّ ذلك يقرر أنَّ بقاءه حيًّا في بطن الحوت، كان معجزةً لا يماري فيها إلَّا جاهلٌ أو معاندٌ، ويعضد هذا أنَّ الآية بيَّنت أنَّ سبب نجاته كان التجاؤه إلى مولاه تعالى، وتسبيحه إيَّاه، أي فما كانت نجاته بالأسباب الماديَّة إنَّما كانت بأسباب غيبيَّة، لأنَّ فرار المضطر إلى الله والتجاءه إليه ودعاءه إيَّاه لا يخرج عن نطاق الغيب.

الرَّابع: أنَّ هذا التَّحريف لمثل هذه المعجزة إنكارٌ مطبقٌ غير صريحٍ للمعجزات الماديَّة التي وقعت للأنبياء، وهذا مسلك الماديين.

ولو أنصف هؤلاءِ لأدركوا أنَّ الإنسان عينه معجزة في ظاهره وباطنه وعقله وجسده، لكنَّه معجزة مألوفة، فقد ألف هذا المخلوق نفسه وما حوله من آيات فغاب عنه وجه الإعجاز، ولو دقّق النظر واعتبر لأدرك أنّه مِن أعظم المعجزات: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات:21].

وتزعم أنَّك جرمٌ صغيرٌ=وفيك انطوى العالم الأكبر

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين