تقديم كتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، خالق السماوات والأرضين، والصلاة والسلام على رسوله محمد النبي الصادق الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه المرتضين الأخيار أجمعين، ومن تبعهم ووالاهم إلى يوم الدين، وبعد:

فيسعدني أن أقدم للقراء كتاب (مرتضى الزبيدي معجميا) من عمل أخينا الكريم الدكتور قمر شعبان الندوي، المحاضر في جامعة بنارس الهندوكية، الواقعة في بنارس، من مدن الهند، وقد لقيته غير مرة فأنست به، مستحسنًا اهتمامه الجاد بالدراسة والبحث الأكاديمي، ومعجبا بدماثة خلقه، وصدق تواضعه، وعذوبة لهجته، ولين حديثه، ويا له من شاب مهذب كريم، وعالم سمح شريف!

إن هذا الكتاب الذي أتحدث عنه عبارة عن رسالته التي نال بها شهادة الدكتوراة من جامعة جواهر لال، نيو دلهي، الهند.

لقد استرعى عنوان الكتاب انتباهي، إذ قرأت الكثير عن الحافظ مرتضى الزبيدي محدِّثا ومسندا، ولعله لم يأت بعد الحافظين السخاوي والسيوطي من توسع مثله في الإسناد وذكّر السامعين بلذة "حدثنا"، و"أخبرنا"، وهو الذي أحيا سنة القراءة والسماع والإجازة بعد أن أميتت، وبعث مجالس الإملاء بعد أن أتى عليها حين من الدهر لم تكن شيئا مذكورا، وبهر بإسهامه في هذا الجانب وإثرائه ذلك الفن الشريف عامة المحدثين والمسندين، وعلى رأسهم شيخ كثير من شيوخنا الحافظ محمد عبد الحي الكتاني، وإذا بصاحبنا قمر يطلع علينا بهذه الدراسة التي تتناول جانبا خطير الشأن في حياة الزبيدي لا يقل عن جانبه الحديثي، ألا وهو الجانب اللغوي، وليس الجمع بين الحديث واللغة بمستغرب.

لم تزل الهند – رغم أعجميتها وبعدها عن معاهد العروبة – محضنا سنيًّا للغة العربية وعلومها وفنونها وآدابها، حتى برزت على ساحتها حركة ندوة العلماء، فأنشأت دارا لعبت دورا غير مسبوق إليه في تعليم اللغة العربية وآدابها ونشر ثقافتها وتاريخها وحضارتها، ودرّبت جنودا متحمسين وناذرين لها نفوسهم، حملوا أمانتها، وأدوا رسالتها المتمثلة في دينها، يصدعون بالحق جهارا في غير جمجمة ولا إدهان، متسامين عن المهاوي التي أخلد إليها عامة الكتاب والمؤلفين، والتي يذل فيها العزيز ويمتهن الكريم، ولقد عجز الباطل أن يخدع أولئك الغر الميامين أو يغريهم إغراءا، وكان لهم تأثير في عامة مدارس الهند وجامعاتها الأهلية والرسمية، رغم ما قاسوا من وحشات، وما لقوا من عقبات، وواجهوا من عراقيل، معالجي الوحشة بالوحشة والتفرد والانعزال، وبصبر منقطع النظير وصمود قل له مثال، وأنى لإخواننا العرب أن يقدروا جهود هؤلاء المستعربين الذين كونوا لأنفسهم جزيرة للغة بني عدنان، والأجواء حولهم تفتر عزائمهم، وتثبط هممهم، فما أسعد تلك النفوس غنى وقناعة، وما أسمى تلك العقول طهرا ونزاهة.

صاحبنا خريج ندوة العلماء وجامعة جواهر لال، وارثا للثقافتين، وعلى معرفة بمشاركات العلماء والباحثين في مجال اللغة العربية، وفي ظل هذه الجامعية درس هذا البحر العملاق، وفي ذرى تلك الجهود الجادة تمخضت دراسته عن هذا البحث، إنه لم يهاجر الهند في سبيله، ولا سبح الأجواء ولا عبر البحار، ولم يأو إلى القاهرة أو زبيد، ولم ينزو إلى بطحاء الحجاز أو بوادي نجد، وإنما أنجز هذا العمل بعيدا عن مهد العروبة، وآثر البقاء بين أهله وذويه، ليقرر أن العالم العربي ليس عبارة عن حدوده وثغوره، بل كل من نطق بلغة الضاد وعاش حضارتها فهو عربي.

رأى صاحبنا أن عامة الدراسات عن اللغة العربية في الهند تدور حول الأدب وصنوفه، ودراسة القضايا الاجتماعية والسياسية والدينية، والاتجاهات والنظريات المستوردة من الآداب الغربية، مهملة المواد اللسانية نشأتها وتطورها ومتغاضية عنها شر التغاضي، فنهض انطلاقا من حبه للغة العربية وشغفه بفنونها وآدابها إلى معالجة موضوع يعاني من غفلة العلماء والباحثين، واختار من بين اللغويين لغوي بلده، الهندي المولد والمنشأ، الحافظ مرتضى البلجرامي الزبيدي، اختاره لبحثه دون غيره من اللغويين والأدباء العرب والهنود، ولأمر ما ساقه سائق التوفيق والتقدير إلى هذا الاختيار، ولا يسعني هنا إلا أن أشيد بحسن اختياره.

استفاد في هذه الدراسة من المصادر الأصلية والفرعية باللغات العربية والإنكليزية والأردية، مستقصيا إياها ومحللا لها تحليلا دقيقا، فوفق إلى كتابة هذا البحث الشامل المتين، والذي قسمه إلى مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة، وفي كل باب فصول مختلفة رتبها ترتيبا منطقيا.

عني الباب الأول بترجمة الزبيدي: حياته العامة والعلمية من ميلاده ونشأته وأسرته، ودراسته ورحلاته وشيوخه، وإفادته وتدريسه، وآثاره ومؤلفاته، وتناول الباب الثاني القاموس المحيط لمجد الدين الفيروزآبادي وصفا ولأغراضه كشفا.

وعالج في البابين الثالث والرابع موضوع تاج العروس: دراسته التاريخية، وعرضه عرضا علميا ناقدا، مع مناقشة المصادره التي استقى منها الزبيدي مادة هذا الشرح، وبيان منهجه فيه وأسلوبه، كما خصص فصلا لدراسة محاسن التاج وبعض ما يمكن أن يؤخذ عليه، وتعرض في المقدمة لمناقشة نقاط هامة حول هذا البحث، منها إلماحة إلى الدراسات والبحوث التي تناولت التاج على مدى قرنين من الزمان.

يقول في المقدمة: "شرح القاموس شرحًا مفصلا، حرًّا مبرهنا، مستدلا بكل من القرآن والحديث، والشعر والخطابة، والأمثال والأقوال، والمعاجم والكتب اللغوية والمعرفية القديمة، حتى خرج كأكبر موسوعة لغوية في اللغة العربية، متناولا شرح مائة ألف وعشرين ألف كلمة". ص 16.

"وكان المؤلف أنجزه في عشرة مجلدات، ثم صدر بعدما حققه نخبة من المحققين في أربعين جزءا ضخما بدولة الكويت". ص 16.

ويقول وهو يلقي الضوء على خصائص الكتاب: "ومن أهم مزايا التاج استدلاله بالقرآن، والحديث، والشعر العربي، بصفة كل ذلك أساسا للأدب، واللغة، والمعاجم اللغوية الأخرى" ص 167.

ومما ذكر الباحث من المآخذ على تاج العروس: " أنه لم يدقق في بيان تفاصيل المصادر، وكثيرا ما اكتفى بإيراد الشعر دون تسمية الشاعر، ونقل الحديث دون الإحالة على الكتاب الذي نقله منه، وربما سمى الكتاب غير ناسب له إلى مؤلفه". ص 169.

"والنقص الآخر الذي يبدو في تاجه جليا هو ما يمكن أن يسمى النقص التنظيمي للكتاب، ومن المحتوم على المعجمي أن يرتب المواد، والجذور اللغوية حسب تنظيم معجمي محدد... ولكن لا نجد في تاجه نظاما موحدا في ذلك، فافتتح بعض المواد بالفعل، وبعضها بالاسم، واستهل بعضها بالفعل مع تخلل للأسماء في أمثلته". ص 172.

وقال في الخاتمة: "إن الميزة التي تجعل تاجه قيما وممتازا هي أن الزبيدي أخرج المعجمية من دائرة كتاب الرجوع والمراجعة، الأمر الذي يحدث في القارئ سآمة ومللا، إلى دائرة كتاب أدبي ممتع، يخيل للقارئ عند قراءته أنه يقرأ كتابا فيه روعة الألفاظ، وجمال التعبير، وحلاوة المعنى، وبهاء الأدب". ص 177.

فإليكم الآن أيها القراء هذا الكتاب الذي قضى فيه صاحبه سنين، وسهر عليه الليالي، وأتعب فيه النهار، والذي يستحق أن يعد مقدمة لدراسة المعاجم بصفة عامة، وتاج العروس بصفة خاصة، ولعلنا نوفق بعد ذلك إلى توازن بين الزبيدي المحدث المسند، والزبيدي اللغوي الأديب.

وقبل أن أفارقكم أيها القراء أعود إلى صاحبنا، فأقول: يا من سمَّته أمه قمرا! لقد لمستُ فيك روحًا أحبها، وهي روح خوض الغمار، واستسهال الصعاب، امتلأت الدنيا بطلبة يلتقطون مواضيع بسيطة ذليلة لبحوثهم، مطيعي نفوسهم، ومجاري أهواءهم، ومؤثري الراحة والدعة، فما أبعدك عن مذهب الكسالى الفاترين! وما أرفعك عن مهابط المتنعمين الفارهين! اخترت موضوعا عسيرا، وسلكت طريقا وعرة قليلا منتهجوها، فبارك الله فيك وزادك علما وفضلا يا عاصي النفس! ويا ناهيها عن هواها!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين