تفسير سورة قريش (2)

وأما وجه المنَّة الإلهية على قريش في إيلافها الرحلتين:

فهو في مبلغ علمنا أن الله تعالى أبدلها بما كانت تذهب إليه العرب في طلب الرزق من التغاور والتناهب، وسيلة للارتزاق ألصق بالشرف وأدنى إلى مكارم الأخلاق، هي التجارة فيما يعرف الناس طريق للارتزاق شريفة ومباركة. فأما أنها شريفة فلأنها بعيدة عن السلب والنهب، وأما أنها مباركة، فلأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تسعة أعشراء الرزق في التجارة) [ رواه سعيد بن منصور في سننه عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي ويحيى بن جابر الطائي مرسلا، وأعله الحافظ العراقي في تخريج الإحياء بالإرسال].

وتحقيق هذا المعنى أن العرب حول مكة كانوا يتغاورون ويتناهبون على ما يصور ذلك القَطامِي الشاعر في قوله:

ومن ربض الجحاش فإن فينا = قنا سلباً وأفرساً حسانا

وكنَّ إذا أغرن على جناب = وأعوزهن نهب حيث كانا

أغرن من الضباب على حلول = وضبة، إنه من حان حانا

وأحياناً على بكر أخينا = إذا ما لم نجد إلا أخانا

يقول الشاعر: إننا لسنا أهل حضر نقتني الجحاش، ولكننا أهل بادية وأرباب غزو نقتني الخيل العتاق، لنغزو عليها، ونصطفي الرماح الطوال لنقاتل بها، فإذا أغرنا على القبائل من حولنا، بدَّدنا شملها، وأزعجنا أمنها، وأنهبنا مالها، فصارت تتقينا، وتأخذ حذرها منا، فتبتعد عنا، وتمعن في الهرب منا، فإذا لم نجد ما نغير عليه من الأباعد، أغرنا على أقاربنا وأبناء عمومتنا، وعلى الحالات النازلة فيهم ومن حولهم، ومن قدر له الهلاك، لابدَّ أن يدركه الهلاك.

تلك كانت شنشنة العرب.

فأمَّا قريش فإن شعورهم بشرف نسبهم ورفعة حسبهم جعلهم يتجنبون ألوان الخساسة في طلب الرزق، فكانوا إذا استعصى على أحدهم الارتزاق من طريق شريفة آثر الموت جوعاً على الحياة من طريق خسيسة، وفي هذا المعنى يروي أبو الحسين أحمد بن فارس: (أن أحدهم كان إذا جاع جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضرب عليه وعلى عياله خباء حتى يموتوا، ومازال أمرهم على ذلك حتى كان عمرو بن عبد مناف سيد زمانه، وكان له ابن يقال له أسد، وكان لأسد هذا ترب من بني مخزوم يحبه ويلعب معه، وذات يوم قال له: نحن غداً نعتفد (الاعتفاد: هو أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل أحداً حتى يموت جوعاً، وليس يعرف الناس صورة تسامي هذه الصورة أو تدانيها في استرخاص الحياة إيثاراً للترفع عن الدنايا من أجل الحرص على الحياة).، قال أبو الحسين: فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه من بني مخزوم، فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، عاشوا به أياماً، ثم إن ترب أسد أتاه مرة أخرى فقال له مثل ما كان قد قال، وفعل أسد كما فعل، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف فقام خطيباً في قريش، وكان فيهم سيداً مطاعاً، فقال: إنكم أحدثتم حدثاً تقلون فيه وتكثر العرب، وأنتم أهل حرم الله جل وعز، وأنتم أشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد أن يأتي عليكم، فقالوا له: نحن لك تبع، فقال: ابتدئوا بهذا الرجل فأغنوه عن الاعتفاد، يعني أبا ترب أسد، ففعلوا ثم إنه نحر البدن وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد وأطعم الناس، ومن أجل ذلك سمِّي هاشماً، وهو جد محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه يقول الشاعر:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه = قوم بمكة مُسْنِتينَ عجاف

ثم جمع عمرو هذا، كل بني أب على رحلتين، رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه هاشم بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيِّهم، فلمَّا جاء الإسلام جاء وهم على هذه الفضيلة، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالاً ولا أعز من قريش، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعجبه أن يثني المثنون على بني عبد مناف بهذه الفضيلة التي عُرفت فيهم ولهم، وكان يصحِّح الأمر للذين يخطئون فيه عن جهل أو عن عمد. روى سعيد بن جبير أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم مر ذات يوم ومعه أبو بكر بملأ، وهم ينشدون:

يا أيها الرجل المحول رحله = هلَّا نزلت بآل عبد مناف

لو قد نزلت بهم تريد قِراهم = منعوك من جهد ومن إيجاف

الرائشون وليس يوجد رائش = والقائلون هلمَّ للأضياف

والخالطون غنيهم بفقيرهم = حتى يصير فقيرهم كالكافي

عمرو العلا هشم الثريد لقومه = قوم بمكة مسنتين عِجَاف

وكما ورث هاشم عن أبيه عبد مناف خلائق صدق تضفي على الناس من الخير بمقدار ما تضفي على أهلها من سيادة، ورّث بنيه تلك الخلائق، فلم يكن عبد المطلب بن هاشم دون أبيه بذلاً للمعروف، وغياثاً للملهوف.

وهو الذي حفر زمزم برؤيا رآها في المنام، فخرج إلى قريش يقول لهم: تعلموا أني قد أمرت أن أحفر لكم زمزم، فقالوا له: فهل تبيَّن لك موضعها؟ قال: لا، قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يكن ما رأيت من الله يبين لك، وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك، فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فرأى كأن قائلاً قال له: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لن تندم، وإنها تراث من أبيك الأكرم، لا تنزف أبدًا ولا تذم – يقال: بئر ذمة: قليلة الماء-، وهي سقيا الحجيج الأعظم، ولك على موضعها ثلاث علائم، نقرة الغراب الأعصم، وقريرة النمل، والفرث والدم.

وقد تجمَّعت هذه العلائم الثلاث بين الوثنَيْن: إساف ونائلة، حيث كانت العرب تنحر ذبائحها.

فلمَّا رأى عبد المطلب الفرث والدم وتجمع النمل والغراب ينقر بحثاً عن قوته، اشتدَّ عزمه، وقوي أمله في الكشف عن سقيا جدِّه إسماعيل عليه السلام، فمضى يبتغي ما أراد، حتى إذا ظهر طيّ البئر كبَّر، فعرفت قريش أن قد تمَّ لعبد المطلب ما أحب من تكريم الله له في سقيا الحجيج، ولما تمادى به الحفر وجد غزالين من ذهب وأسيافاً وأدرعاً، فلم يستأثر لنفسه من ذلك بشيء، بل ضرب من الحديد باباً للكعبة، واتخذ لها من الذهب حلية.

وهنا يقول السهيلي رحمه الله تعالى:

لم تكن الكعبة موضعَ احترام العرب وحدهم، ولكن العجم كذلك كانوا يحترمونها، فكان الأوائل من ملوك الفرس يحجُّون إليها، إلى عهد ساسان أو سابور، وقد أهدى أحد الملكين إلى الكعبة الغزالين من الذهب والأسياف والأدرع من الحديد، فلما تقاتل العرب وجرهم والأحلاف، طموا البئر وردموها بعد أن ألقوا فيها بالغزالين وبالأسياف والأدرع، حتى كشف عنها عبد المطلب، وجرى على يديه بهذا الكشف للناس خير كثير، بعد أن ظلت دارسة عافياً أثرها دهراً من الزمان طويلاً.

وأما سرُّ العناية الربَّانيَّة بقريش فمرد ذلك في مبلغ علمنا إلى الدعوتين اللتين توجَّه بهما أبراهيم عليه السلام إلى ربه، إحداها: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ....﴾ [البقرة: 126].

والثانية: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...﴾ [البقرة: 129].

وقد استجاب الله تعالى إبراهيم دعوتيه، فجعل البيت مثابة للناس وأمناً، ثم ابتعث في ذريته محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت قريش هي القبيلة التي ولد فيها محمد وابتعث منها محمد، وكان اختيار هذا النبي على سنَّة الله تعالى في اصطفائه رسله وأنبياءه من أكرم البيوت وأشرف الظهور وأطهر البطون، وأبعدها عن الدنايا، وألصقها بمكارم الأخلاق، على ما يقول تعالى:﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ٣٣ ذُرِّيَّةَۢ بَعۡضُهَا مِنۢ بَعۡضٖۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ٣٤﴾[آل عمران: 32-33]. وعلى ما يقول جل شأنه: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124].

وقد بيَّ، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا المعنى بقوله الشريف: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خِيارٌ من خِيار من خيِار).

وبهذا المنطق في كتاب الله وفي بيان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان القريشيون حيث كانوا موضعاً للعناية الربانيَّة، تحوطهم في حلهم وترحالهم، وسلمهم وحربهم، وتنشر عليهم الأمن سابغاً حتى ألفوا العزازة، وتبسط لهم الرزق طيباً حتى لم يطعموا خبثاً، وتضفي عليهم شرف النفس حتى أنفوا الجور وكرهوا الظلم، وكان لهم شرف التعاهد في الجاهلية على نصرة المظلوم وقهر الظالم، وآية ذلك حلف الفضول.

فقد روي عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت) تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها، وألا يعز – يقهر- ظالم بمكة مظلوماً).

قال الإمام السهيلي: وهذا الحديث في مسند الحارث بن عبد الله التميمي، وقد بيَّن وجه تسمية هذا الحلف (حِلف الفُضُول) وكان هذا الحلف بعد الفجار، وقد كانت هذه الحرب في شعبان، وكان حلف الفضول في ذي القعدة، قبل المبعث بعشرين سنة، وكان أكرم حلف سمع به الناس وأشرفه، وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب، وكان سببه أن رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة، اشتراها منه العاصي بن وائل، وكان العاصي ذا قدر بمكة وشرف، فحبس عن الزبيدي حقه، فاستعدى عليه الأحلاف – عبد الدار ومخزوماً، وجُمَح وسهماً وعديّ بن كعب – فأبى هؤلاء أن يعينوه على العاصي بن وائل، وزبروه زبراً شديداً، فلما رأى الزبيدي الشر، أوفى على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، ثم صار بأرفع صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته = ببطن مكة نائي الدار والنفر

ومحرم أشعث لم يقض عمرته = يا للرجال وبين الحجر والحجر

إن الحرام لمن تمت كرامته = ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

فلما سمع الناس ذلك، قام الزبير بن عبد المطلب وهو يقول: ما لهذا مَتْرك، فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاماً، وتحالفوا في ذي القعدة، في شهر حرام، قياماً متعاقدين متعاهدين بالله أن يكونوا يداً واحدة للمظلوم على الظالم، حتى يؤدي إليه حقَّه، ما بلَّ بحر صوفة، وما رسا حراء وثير مكانهما، وعلى التأسِّي في المعاش، فسمَّت قريش ذلك الحلف: (حلف الفضول) قائلين: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشى المحالفون هؤلاء إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزَّبيدي ودفعوها إليه

ويبتدر الأذهان ها هنا سؤال، هو: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سمع رجلاً يقول: يا للمهاجرين، وآخر يقول: يا للأنصار، قال عليه السلام: (دعوها فإنها منتنة) من حيث كانت دعوة جاهلية، فكيف يتفق هذا مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حِلف الفضول، وهو جاهلي: (لو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت؟).

والجواب عن هذا هو: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصَّص هذا الحلف بالإجازة، لأن أهدافه تتفق مع الأهداف السامية، التي يقرها الإسلام، ومما يحسن تدوينه دليلاً على مضي حكم هذا الحلف في الإسلام، ما حدَّث به يزيد بن عبد الله بن أسامة الليثي أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان – أمير المدينة من قبل عمه معاوية - كان بينهما منازعة في مال بذي المروة، فتحامل الوليد على الحسين معتزًّا بسلطانه فغضب الحسين ثم قال: أحلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لأدْعُونَّ بحلف الفضول.

وكان في المجلس عبد الله بن الزبير، فقال: وأنا أحلف بالله لئن دعا حسين بحلف الفضول لآخذنَّ سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعاً، ولما بلغ الأمر ميسور الزهري وعبد الرحمن بن عثمان التيمي قالا مثل ما قال الحسين وعبد الله بن الزبير، فلما عرف ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه واسترضاه حتى رضي.

والذين يتلون كتاب الله حقَّ تلاوته، يسترعي انتباههم ذكر قريش خاصَّة دون سائر العرب، مع أنَّ للعرب منزلة أشار إليها القرآن في قوله تعالى:﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 44].وفي قوله:﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: 10].

ويسترعي انتباههم أيضاً، تأكيد المنَّة بالأمن على قريش في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ [العنكبوت: 67].

وفي تفسيرها يقول جار الله: كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضاً ويتغاورون ويتناهبون، وأهل مكة قارّون آمنون لا يغزون ولا يغار عليهم، مع قلتهم وكثرة العرب من حولهم فجاءت الآية وفيها تذكيرهم النعمة الخاصَّة عليهم، وفيها توبيخٌ لهم لأنهم يؤمنون بالباطل الذي هم عليه، ويكفرون نعمة الله تعالى التي لا يقدر عليها إلا هو وحده لا شريك له.

ثم يشير جار الله إلى النعمة بالأمن وبالطعام في تفسيره للآية: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص: 57]. فيقول رحمه الله تعالى:

إن قريشاً تقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إننا نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب، مع أننا أكلة رأس (قليلون) نخاف أن يتخطَّفونا من أرضنا، فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ألقمهم الله تعالى الحجر لأنه مكَّن لهم في الحرم الذي أمنه بحرمة البيت، وأمَّن قطَّانه بحرمته، وكانت العرب من حوله يتناحرون وقريش آمنون في حرمهم لا يخافون، وبحرمة البيت هم قارُّون بواد غير ذي زرع، والثمرات والأرزاق تُجْبى إليهم من كل أوْب، فإذ قد خوَّلهم الله ما خوَّلهم من الأمن والرزق في حرمة البيت وحدها، مع كونهم كفرة عَبَدة أصنام، فكيف يستقيم أن يعرضهم للخوف والتخطُّف، ويسلبهم الطمأنينة والأمن إذا ضمُّوا إلى حرمة البيت حُرمةَ الإسلام.

فأما اختصاص قريش بالذكر دون سائر قبائل العرب، فللإشارة إلى أنَّهم أهل شرف وبيت مجادة وسيادة، وأنهم بحكم هذين عليهم أن يناصروا محمداً في دعوته لا أن يقفوا عقبة في طريقه حتى تتهيَّأ لهم بذلك سبل الخير في الدنيا والآخرة جميعاً.

وأما تكرار المنة الإلهيَّة عليهم في أكثر من آية بتأمينهم من الخوف وإطعامهم من الجوع، فللإشارة إلى أنَّ هذين الأمرين هما أساس الحياة وقوام المجتمع الإنساني، وللإشارة أيضاً إلى أنَّ الله جلَّ ثناؤه، وهو الخالق الرازق المنعم بجلائل النعم ودقائقها إذا اقتضى عباده أن يعبدوه لأنه وفَّر لهم هاتين النعمتين، فإن على ولاة الأمر من المؤمنين أن يوفِّروا للشعوب التي يسوسونها هاتين النعمتين، لكي يقتضوا من خلالهما حقهم في الطاعة، وإلا كان حكمهم للشعوب تسلطاً، وطاعة الشعوب إياهم ذلة وخضوعاً ن وهذا ما لا يقره الإسلام ولا يرضاه، فتلك هي إرادة الله تعالى، وذلك هو توجيه الله تعالى فيما تضمنته السورة الشريفة وفيما أشارت إليه من معانٍ شتى.

وعناية القرآن الكريم بالإطعام من الجوع والتأمين من الخوف، عناية بالغة، لا يكاد يحصيها بما تدل عليه وتشير إليه إلا الآحاد من الفقهاء بكتاب الله تعالى، فقد سلك الله إطعام الطعام مع جلائل أعمال البر على عباده فذلك حيث يقول: ﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡعَقَبَةُ١٢ فَكُّ رَقَبَةٍ١٣ أَوۡ إِطۡعَٰمٞ فِي يَوۡمٖ ذِي مَسۡغَبَةٖ١٤ يَتِيمٗا ذَا مَقۡرَبَةٍ١٥ أَوۡ مِسۡكِينٗا ذَا مَتۡرَبَةٖ﴾ [البلد: 12-16].

كما سلك الشحّ بالطعام والبخل به مع الذميم من الخصال التي يستحق بها المرء سخط الله وأليم عقابه، فذلك قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ٣٨ إِلَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلۡيَمِينِ٣٩ فِي جَنَّٰتٖ يَتَسَآءَلُونَ٤٠ عَنِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ٤١ مَا سَلَكَكُمۡ فِي سَقَرَ٤٢ قَالُواْ لَمۡ نَكُ مِنَ ٱلۡمُصَلِّينَ٤٣ وَلَمۡ نَكُ نُطۡعِمُ ٱلۡمِسۡكِينَ٤٤ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلۡخَآئِضِينَ٤٥ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ٤٦ حَتَّىٰٓ أَتَىٰنَا ٱلۡيَقِينُ٤٧﴾ [المدثر:38-47].

وقد جعل الله تعالى الأمن جزاء للمؤمنين الذين لم يشُبْ إيمانَهم ظلم: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].

كما جعل الجوع والخوف أشد عقوبتين للَّذين يكفرون به ويجحدون نعمته: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112].

تلك لوافت على غاية الإجمال، وفي أوجز صور الإيجاز، تشير إلى ما ينبغي أن تنشط له الهمم، وتنعقد عليه العزائم، من العمل على توفير الأمن للخائفين، وتحصيل القوت للجائعين، فذلك هو الأساس الذي تقوم به المجتمعات قياماً يسلمها إلى عز الدنيا ويدنو بها من رضوان الله عزَّ وجل.

والله ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

اختارها وقابلها بالأصل المطبوع وأعدَّها للنشر: مجد مكي

من كتاب: "مع القرآن " للشيخ أحمد حسن الباقوري، ص 300-315

الحلقة الأولى هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين