ملامح سور القرآن: سورة القصص

سورة القصص تشير إلى ضرب من العلم، وهو علم أخبار السابقين، وهو لونٌ من الاتصال، إذ يكون بمن سلف. وحوادث التاريخ تتألف من الأحداث الصغيرة التي لا يُتفطن إليها عند حدوثها، تتراكم فتؤدي إلى تبدل أحوال أمم، وفي السورة تفصيلات لقصة موسى لم تأت إلا هنا، حتى إنه ذكر موضع مناداته: (نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة).

فإرادة الله أن يمنَّ على المستضعفين ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين تحققت، وكان بدؤها بخوف الأم على ابنها وإلقائها له في اليم كما أوحى الله إليها: (أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم)، وجرت الأمور على غير المتوقع من ظواهرها، فالذي كان سببًا في زوال ملك فرعون طفل من المستضعفين رُبِّي في قصره، واستمر على انتمائه إلى قومه.

وقد صار آل فرعون الطاغون مثلًا تاريخيًّا مضروبًا، ذكرُهم محوط بالذمِّ واللعنات، وهكذا من يأخذ له مكانًا في التاريخ بالأحداث الفظيعة من الظلم والإفساد، يبقى مذكورًا بفعله تتبعه اللعنة: (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة)، وهم قدوة لكل من يفعل فعلهم ويسير بسيرتهم: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار)، فيحملون أوزارهم وأوزار من يقتدي بهم، ولن تجد طاغية إلا وفي ذهنه نموذج لطاغية سبقه. وشر من ذلك ما يكون من جزائهم في الآخرة.

ومن باب أثر التفصيل في حوادث التاريخ قصت السورة أثر عمل المرأة في الأحداث، فقد ذكرت في قصة موسى خمس نساء: أمه وأخته وامرأة فرعون وابنتي الشيخ الكبير، وإحداهما زوج موسى من بعد. وفيه شبه إحصاء لصلات المرأة بالإنسان في المرتبة الأولى.

وقَصص التاريخ يفيدك ما لم تره وما لم تحضره: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين) الآيات.

وفي السورة كثير من سُنن التاريخ، نحو: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتَها) الآيات، وكثيرًا ما تؤدي الأفعال إلى غير مقصودها: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزنًا)، والعلو في الأرض قرين تفريق الناس شيعًا واستضعاف بعضهم: (علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم)، وقرين الاستعراض الإعلامي للتضليل: (يا هامان ابن لي صرحًا لعلي أطلع إلى إله موسى)، وقد يكون النقص والذنب في المصلحين: (قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي)، والإخوان من النسب ومن غير النسب عضد ونصرة: (سنشد عضدك بأخيك)، وقد يهتدي بك البعيد ولا يهتدي القريب: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون)، ثم بعد وصفهم: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)، والأمر لله في كل ما يكون، وإنما يحمل الظالمون أوزارهم: (وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة)، ثم سنَّة الاستبدال والتدافع والتداول في الحياة كما يخلف النهار الليل، ويخلف الليل النهار، فلا الليل سرمد ولا النهار سرمد، ولو كانا كذلك ما استقامت الحياة.

وقصة قارون في السورة تثنية بطغيان المال بعد طغيان السلطان في قصَّة فرعون، وهو ركن في منظومة العتو والعلو في الأرض، مع فرعون وهامان كما سلف في أول السورة، ولكنه استحق تفصيلا ومشهدًا مستقلًّا لما له من أثر في العامَّة والخاصَّة وفي الأحداث. وموعظة قومه البليغة له تدل على أن السيرة المطلوبة التي يرضاها الله في المال متعالمة بين الناس موروثة لا يجهلونها، ولكنهم إذا حصل المال في أيديهم افتتنوا وطغوا. وسنة من سنن الطاغين بالمال المباهاة وعرض ما لهم من زينة ورياش وأبهة على أعين الناس: (فخرج على قومه في زينته)، فيفتتن به أبناء الدنيا وطالبوها لنفسها، ثم تكون العاقبة فاجعة ومفاجئة وداعية إلى الاعتبار بالخسف وعدم النصير.

ومن عادة القرآن الكريم أنه يجعل الآخرة حاضرة في حسِّ المتلقي، ويقابلها بما يحدث في الدنيا، وينبه على مآلات الأمور، وأخطرها ما يكون يوم القيامة، حيث يأخذ كل جزاءه، ويقر في ذلك اليوم بظلمه، ويتواجه الخصوم، والأتباع والمتبوعون، ويتبرأ المتبوعون من تابعيهم، وتظهر الحقيقة جلية، يراها الجميع، ويعترف بها. وفي السورة مشاهد للقيامة بهذا المعنى.

وختامُ السورة عجيبٌ في الإشارة إلى دورة التاريخ، ذلك أنه جعل القرآن هو المعيار للحق وإن زاغ عنه من زاغ، ووصل بينه وبين المعاد الدنيوي: (إنَّ الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) الآية، وإذا كان الله عالـمًا بالضالِّ والمهتدي، فالمنهج هو ترك مظاهرة الكافرين، والاستمساك بالوحي، والدعوة إليه، وجوهرُه التوحيد، وكل ما تراه هالك، وراجع إلى ربك، ولا بقاء إلا لله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين