نبي الرحمة (16)

طلائع الهجرة وبرلمان قريش:

بعد بيعة العقبة الثانية، أَذِن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بالهجرة إلى يثرب وبدأ المسلمون يهاجرون، وأخذ المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم؛ لاحساسهم بالخطر، فبعد شهرين وبضعة أيام لم يبق بمكة من المسلمين إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعلي ـ أقاما بأمره لهما ـ ومن حبسه المشركون كرهاً، وأعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج، وأعد أبو بكر جهازه. وعن عائشة قالت: قال رسول الله وآله صلى الله عليه وسلم للمسلمين:(إني أُرِيْتُ دار هجرتكم، ذات نخل بين لابَتَيْن)ـ وهما الحرتان ـ فهاجر من هاجر قِبَل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قِبَل المدينة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(على رِسْلِك، فأني أرجو أن يؤذن لي). فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال:(نعم)، فحبس أبو بكر نفسه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمَر ـ وهو الخَبَطُ ـ أربعة أشهر.

ولما رأى المشركون أن المسلمين قد تجهزوا وخرجوا، وساقوا الذراري والأموال إلى الأوس والخزرج أصابتهم الكآبة والقلق، فقد تجسّد أمامهم خطر يهددهم. فهم يعلمون ما في شخصية محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قوة التأثير، وما في أصحابه من العزيمة والفداء في سبيله، ثم ما في قبائل الأوس والخزرج من القوة والمنعة، ويعرفون موقع المدينة الاستراتيجي في التجارة من اليمن إلى الشام. و أهل مكة يتاجرون إلى الشام. فصاروا يبحثون عن وسائل لدفع الخطر الذي مبعثه هو حامل لواء الإسلام محمد صلى الله وآله عليه وسلم.

وفي ٢٦ صفر سنة ١٤من النبوة. عقد برلمان مكة [دار الندوة] أخطر اجتماع له في تاريخه، وتوافد إلى هذا الاجتماع جميع نُوّاب القبائل القرشية، ليتدارسوا خطة تكفل القضاء على حامل لواء الدعوة الإسلامية، ولما جاؤوا اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، ووقف على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأياً ونصحاً. قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم، وبدأ الاجتماع. قال أبو الأسود: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فنكون أصلحنا أمرنا وألْفَتَنا كما كانت. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمِنْتُم أن يحلّ على حي من العرب، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبّروا فيه رأياً غير هذا. قال أبو البختري: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا قبله، حتى يصيبه ما أصابهم. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه ليخرجنّ أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلا أشكّ أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره. قال أبو جهل: والله إنّ لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نَسِيباً وَسِيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل جميعاً، فلم يقدِر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فرضوا منا بالعَقْل، فعقلناه لهم. قال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره. ووافق برلمان مكة بالإجماع، ورجعوا إلى بيوتهم وصمموا على تنفيذ القرار فوراً.

الهجرة:

نزل جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله أذِن له بالخروج، وحدد له الوقت قائلاً:(لا تَبِتْ هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه). قالت عائشة: بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متقنِّعاً، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداءٌ له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء صلى الله عليه وآله وسلم فاستأذن، فَأُذِنَ له فدخل، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:(أَخْرِج مَنْ عندك). فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله. قال: (فإني قد أُذِنَ لي في الخروج)، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم:(نعم). ثم أبرم معه خطة الهجرة ورجع إلى بيته ينتظر مجيء الليل.

تطويق منزله صلى الله عليه وآله وسلم:

أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد لتنفيذ الخطة التي أبرمها برلمان مكة، واختير لذلك أحد عشر رئيساً من هؤلاء الأكابر.

قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى قام فيثبون عليه، وكانت عادته صلى الله عليه وسلم أن ينام أول الليل، ويخرج بعد نصف الليل أو ثلثيه إلى المسجد الحرام يصلي فيه. وكانوا على ثقة من نجاح مؤامرتهم، حتى وقف أبو جهل وقال لهم في سخرية واستهزاء: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بُعثتم من بعد موتكم، فجُعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بُعثتم من بعد موتكم، ثم جُعلت لكم نار تحرقون فيها. وكان ميعاد تنفيذ المؤامرة بعد منتصف الليل، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكنّ الله غالب على أمره، فقد فعل ما خاطب به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما بعد:{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} [الأنفال:٣٠].

في هذه الساعة الحرجة قال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب:(نم على فراشي، وتسبح ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم) وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينام في برده ذلك إذا نام. ثم خرج صلى الله عليه وسلم، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذرُّه على رؤوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو:{وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}[يس:٩]. مضى إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً باتجاه اليمن. وبقي المحاصرون ينتظرون ساعة الصفر. حتى جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال: ما تنتظرون؟ قالوا:محمداً. قال: خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم، وذر على رؤوسكم التراب، وانطلق لحاجته، قالوا: والله ماأبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم. ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا علياً، فقالوا: والله إن هذا لمحمد نائماً، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. وقام عليٌّ عن الفراش، فسُقِطَ في أيديهم، وسألوه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لا علم لي به.

من الدار إلى الغار:

غادر صلى الله عليه وآله وسلم بيته في ليلة ٢٧ صفر سنة ١٤ من النبوة. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن قريشاً سَتَجِدُّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار هو طريق المدينة المتجه شمالاً، فسلك الطريق الذي يضادّه تماماً، والمتجه نحو اليمن، سلك نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور، وهذا جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة، فحفيت قدماه صلى الله عليه وسلم، فحمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهى به إلى غار في قمة الجبل عرف في التاريخ بغار ثور.

اذ هما في الغار:

ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقباً فشق إزاره وسدها به، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ادخل، فدخل صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجهه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:(ما لك يا أبا بكر؟) قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل صلى الله عليه وآله وسلم، فذهب ما يجده. وكَمُنَا في الغار ثلاث ليال، وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة: وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيُدْلِج من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، وكان يرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر مِنْحَة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْل- لبن مِنْحَتِهما ورَضيفِهما- حتى يَنْعِق بها عامر بن فُهَيْرَة بغَلَس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليُعَفي عليه.

وجُنَّ جنون قريش، وضربوا علياً، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما. وجاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري والله أين أبي؟ فرفع أبو جهل يده فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها.

وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة، تحت المراقبة المسلحة ، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين.

وحينئذ جدَّت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان.

ووصل المطاردون إلى باب الغار، وعن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: (اسكت يا أبا بكر، اثنان، الله ثالثهما). وفي لفظ: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما).

كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة .

في الطريق إلى المدينة:

استأجر صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه دليلاً ماهراً بالطريق،هو عبد الله بن أُرَيْقِط الليثى، وكان على دين كفار قريش، وأمناه على ذلك، وسلما إليه راحلتيهما، وواعداه عند غار ثَوْر بعد ثلاث ليال، وفي ليلة الاثنين ـ غرة ربيع الأول سنة ١ هـ جاءهما، وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: بأبي أنت يا رسول الله، خذ إحدى راحلتيَّ هاتين، وقرَّب إليه أفضلهما، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بالثمن) وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسُفْرَتِهما، ونسيت أن تجعل لها عِصَامًا، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت الآخر فسميت ذات النطاقين. ثم ارتحل صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر ومعهما عامر بن فُهَيْرة، وأخذ بهم الدليل على طريق الساحل وأول مأ سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غرباً نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالاً على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقاً لم يكن يسلكه أحد إلا نادراً.

وهاك بعض ما وقع في الطريق: ١-عن أبي بكر قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق، لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة، لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عنده، وسويت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مكاناً بيدي، ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت: نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا، فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة أو مكة. قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت: أفتحلب؟ قال: نعم. فأخذ شاة، فقلت: انفض الضرع من التراب والشعر والقَذَى، فحلب في قعب كُثْبة من لبن، ومعي إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يرتوي منها، يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قال: (ألم يأن للرحيل؟) قلت: بلى، قال: فارتحلنا.

٢-كان من دأب أبي بكر أنه كان ردفاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان شيخاً يُعرف، ونبي الله صلى الله عليه وآله وسلم شاب لا يُعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق، وإنما يعني سبيل الخير.

٣-وتبعهما في الطريق سراقة بن مالك. قال سراقة: بينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا، ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني رأيت آنفاً أسودة بالساحل، أراها محمداً وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم. فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي، وهي من وراء أكَمَة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي، فركبتها، فعرفتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الإلتفات- ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت له، إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني، ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب لي في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . قال أبو بكر: ارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا منهم أحد غير سراقة بن مالك بن جُعْشُم، على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، قال:{لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}[التوبة:٤٠] ورجع سراقة فوجد الناس في الطلب فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما ها هنا. وكان أول النهار جاهداً عليهما، وآخره حارساً لهما.

٤-مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخيمة أم مَعْبَد الخزاعية، فسألاها: هل عندها شيء؟ قالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى والشاء عازب، وكانت سنة شهباء. فنظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال:(ما هذه الشاة يا أم معبد؟) قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال:(هل بها من لبن؟) قالت: هي أجهد من ذلك. فقال:(أتأذنين لى أن أحلبها؟) قالت: نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها. فمسح صلى الله عليه وآله وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتَفَاجَّتْ عليه ودَرَّتْ، فدعا بإناء لها يَرْبِض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها فارتحلوا. وجاء أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً، فلما رأى اللبن عجب، فقال: من أين لك هذا؟ والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا، قال: إني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صِفِيه لي يا أم معبد، فوصفته بصفاته الرائعة كأنّ السامع ينظر إليه وهو أمامه، فقال: والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلنّ إن وجدت إلى ذلك سبيلاً.

٥-في الطريق لقي صلى الله عليه وسلم بُريْدَة بن الحُصَيْب الأسلمي ومعه نحو ثمانين بيتاً، فأسلم وأسلموا، وصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العشاء فصلوا خلفه.

٦-مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأبي أوْس تميم بن حَجَر، وكان قد أبطأ عليه بعض ظهره، فكان هو وأبوبكر على جمل واحد، فحمله أوس على فحل من إبله، وبعث معهما غلاماً له اسمه مسعود، وقال: اسلك بهما حيث تعلم من محارم الطريق ولا تفارقهما، فسلك بهما الطريق حتى أدخلهما المدينة، ثم رد صلى الله عليه وسلم مسعوداً إلى سيده.

٧-وفي الطريق ـ في بطن رِيم ـ لقي صلى الله عليه وآله وسلم الزبير، وهو في ركب من المسلمين، كانوا تجاراً قافلين من الشام، فكسا الزبير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر ثياباً بيضاء.

 النزول بقباء:

في يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول في السنة الأولى من الهجرة نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقباء.

قال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحَرَّة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أَوْفى رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مُبَيَّضِين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح. وتلقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بظهر الحرة. وقال ابن القيم: وسُمِعت الرَجّة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيّوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه. قال عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك. وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يوماً مشهوداً لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، ونزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كلثوم بن الهدم، ومكث علي بن أبي طالب بمكة ثلاثًا حتى أدى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشياً على قدميه حتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهَدْم. وأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقباء أربعة أيام. وأسس أول مسجد أسس على التقوى -قباء- وصلى فيه، فلما كان اليوم الخامس ـ يوم الجمعة ـ ركب بأمر الله له وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار ـ أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل.

دخول المدينة:

وبعد الجمعة دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة- ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويعبر عنها بالمدينة مختصراً- وكان يوماً تاريخياً أغر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات فرحاً وسروراً:

طلع البدر علينا **من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا ** جئت بالأمر المطاع

والأنصار وإن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عليه، فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته: هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول لهم:(خلوا سبيلها فإنها مأمورة)، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بني النجار ـ أخواله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وكان من توفيق الله لها، فإنه أحَبَّ أن ينزل على أخواله، يكرمهم بذلك، وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله، فأدخله بيته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (المرء مع رحله) وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته، فكانت عنده.

وفي رواية أنس، قال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أي بيوت أهلنا أقرب؟) فقال أبو أيوب: أنا يا رسول الله، هذه داري، وهذا بابي. قال:(فانطلق فهيئ لنا مقيلاً)، قال: قوما على بركة الله.

وبعد أيام وصلت إليه زوجته سَوْدَة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، ومنهم عائشة، وبقيت زينب عند أبي العاص، لم يُمَكِّنْها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر .

قالت عائشة: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وُعِكَ أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدُك؟ ويا بلال كيف تجدُك؟ فكانا يردان عليها وقد أخذتهما الحُمّى.

قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرته، فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ حباً، وصحّحها، وبارك في صاعها ومُدِّها، وانقل حُمَّاهَا فاجعلها بالجُحْفَة).

إلى هنا انتهى العهد المكي من حياته صلى الله عليه وآله وسلم.

يتبع ........

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة ( الرحيق المختوم )

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين