مُعجزةُ الإسراء والمِعراج والبعد الحضاريّ

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الإسراء:1].

الإسراء والمِعراج معجزتان نوعيّتان متميّزتان، لهُما أبعاد كبيرة، تتجاوز حدودَ الزمان والمَكان، ودائرةَ مجرّد العقيدة والإيمان.. إنّهما تمتدّان مع هذه الأمّة عبر القرون إلى قيام الساعة..

وهما يجسّدان الصراع الحضاريّ بين حضارة تقوم على القيم والمَبادئ، التي قامت عليها دعوة الأنبياء والمُرسلين، ودعوة خاتمهم وسيّدهم محمّد بن عبد الله صَلّى الله عليه وسَلّمَ، وبين حضارة تقوم على الإفساد في الأرض، والتسلّط على عباد الله بالبغي والعدوان، والظلم والطغيان..

إنّ معجزة الإسراء أعطت بُعداً واقعيّاً ظاهراً، لختم النبوّة، وأنّ سيّدنا محمّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هو خاتم النبيّين، وأفضل المُرسلين، وسيّد الأوّلين والآخرين.. ويتجلى ذلك بغاية الوضوح في لقاء النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأنبياء في بيت المَقدس، وصلاته بهم إماماً.. فذلك إعلان عالميّ أنّه خير الأنبياء المُرسلين، وسيّد الأوّلين والآخرين.. وأنّ أمّته تبعاً لذلك هي خير الأمم، ووارثة النبوّات والرسالات.. وأنّها أصبحت المُؤتمنة على هدي النبوّات كلّها.. وهذا ما ينازع فيه بنو إسرائيل هذه الأمّة، ويحسدونها عليه ؛ إذ يدّعون أنّ الله تعالى فضّلهم على العالمين، ويتمادون في الدعوى زوراً إلى أنّهم شعب الله المُختار.. والحقيقة أنّهم لم يكونوا أمناء على دين الله، فقد حمّلوا رسالة أنبيائهم، فجحدوا نعمة الله عليهم، وخانوا ما ائتمنوا عليه، وحرّفوا دين الله تعالى، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً.. وكانوا على مدار التاريخ دعاة الشرّ والظلم، والبغي والإفساد في الأرض.. فنزع منهم هذا الشرف، وحرمهم هذه الخصوصيّة، وحمّل الله تعالى هذه الأمانة لأمّة خير الأنبياء، وخاتمهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..

ويؤيّد هذه الحقيقة الآيات في سورة الإسراء ؛ وذلك أنّ الله تعالى ذكر خبر الإسراء في آية واحدة فقط، وبعدها كان الحديث عن إفساد بني إسرائيل في الأرض، في صفحة واحدة، كانت سرداً لجرائمهم، وتسلّط أعدائهم عليهم، ثمّ جاء الحديث عن القرآن الكريم، وأنّه يهدي للتي هي أقوم، ثمّ فصّلت السورة في الحديث عن الأسس والمَبادئ والقيم، التي تؤهّل هذه الأمّة لوراثة الأنبياء، والخلافة في الأرض ؛ وفي هذا المَعنى يقول الشيخ صفي الرحمن المُباركفوري رحمه الله: « يرى القارئ في سورة الإسراء أنّ الله ذكر قصّة الإسراء في آية واحدة فقط، ثمّ أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم، ثمّ نبّههم بأنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، فربّما يظنّ القارئ أنّ الآيتين ليس بينهما ارتباط، والأمر ليس كذلك، فإنّ الله تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أنّ الإسراء إنّما وقع إلى بيت المَقدس ؛ لأنّ اليهود سيُعزلون عن منصب قيادة الإنسانية ؛ لمَا ارتكبوا من الجرائم، التي لم يبق معها مجال لبقائهم على هذا المنصب، وأنّ الله سينقل هذا المَنصب فعلاً إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى أمّته من بعده، ويجمع له ولأمّته بين مركزي الدعوة الإبراهيميّة كليهما: بين الكعبة المُشرّفة في المَسجد الحرام، وبين المَسجد الأقصى في بيت المَقدس، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحيّة من أمّة إلى أمّة، من أمّة ملأت تاريخها بالغدر والخيانة، والإثم والعدوان، إلى أمّة تتدفق بالبرّ والخيرات، وتكون أمينة على وحي الله تعالى، وقد خصّ الله رسولها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقرآن خير كتبه، وحفظه الله تعالى بحفظه من التحريف والتبديل، وهو يهدي الإنسانيّة كلّها للتي هي أقوم، وإلى آخر الزمان ». انظر: الرحيق المَختوم (1/128) بتصرّف وزيادة.

وبُعيدَ هذه الآيات تأتي آيات أخرى، تبيّن لهذه الأمّة قواعد الحضارة الربّانيّة المَرضيّة، وتعدّد أهمّ مبادئها وقيمها وآدابها، التي يبنى عليها المُجتمع، وتقوم عليها الحضارة الإنسانيّة الرشيدة، فهذه الأمّة هي المُرشّحة بهذا القرآن لبناء هذه الحضارة وقيامها.. واقرءوا الآيات التالية من هذه السورة بتدبّر، من قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا}[الإسراء:18]، فسترون الحديث عن إرادة الدنيا وإرادة الآخرة، وبيان مصير الفريقين من الناس، والحديث عن توحيد الله تعالى، وبرّ الوالدين، والأدب معهم، وصلة الرحم، والبعد عن التبذير في إنفاق المال، وتحريم قتل الأولاد خشية الفقر والإملاق، وتحريم الزنى، وتحريم قتل النفس، وتحريم أكل مَال اليَتِيمِ، وَالأَمر بالوفاء بِالعَهْدِ، وَالوفاء بالكَيْل بغير تطفيف، وَالوزن بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ، وتقرير المَسئوليّة الكبيرة عن السَّمْع وَالبَصَر وَالفُؤَاد، وتحريم الكبر والبطر، والمَشي في الأرض مرحاً.. ثمّ يقول الله سبحانه: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } [الإسراء:38].

وكما بدأ الحديث بتوحيد الله تعالى فإنّه يختتم به، فيقول الله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ.. } إنّها الحِكمَةِ الربّانيّة العالية، التي بها تربّى النفوس، وتبنى المُجتمعات، وعليها تقوم الأمم والحضارات.. {.. وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا}[الإسراء:39] ؛ وليبيّن الله تعالى للناس: أنّ الحضارة الحقّة هي ما قام على توحيد الله تعالى، واتّباع منهجه الحكيم في الحياة، لا ما قام على أهواء الناس ونزغات الشياطين، الذين لا يعرفون إلاّ الإفساد في الأرض والتدمير..

وعندما ضعفت هذه الأمّة، بتفرّقها واختلاف كلمتها، وتخلّفت عن القيام بمسئوليّاتها، التي كلّفها الله تعالى بها، تألّبت عليها الصليبيّة المَاكرة، واليهوديّة الحاقدة، فانتزعت منها أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى نبيّها صلّى الله عليه وسلّم، وعاث أولئك المُفسدون الأشرار في بيت المَقدس فساداً وإفساداً، وتباهوا بذلك وافتخروا، وسجّلوا ذلك بلا استحياء في كتبهم، وبأيدي مؤرّخيهم.. حدث ذلك في التاريخ، عقوبة لتخلّف الأمّة عن حمل رسالتها بحقّ.. ثمّ حرّر صلاح الدين الأيّوبيّ المَسجد الأقصى من رجس الصليبيّين.. ثمّ تسلّط اليهود اليوم مرّة أخرى على المَسجد الأقصى بأسباب الضعف والتخلّف نفسها، التي ابتليت بها الأمّة، ولا يزال التحدّي قائماً أمامها، من نفسها، ومن عدوّها..

وإنّ الحقيقة المُرّة التي تقهر الأحرار، وتقضّ مضاجعهم أنّه ما كان لأمّة ضرب الله عليها الذلّة والمَسكنة، وباءت بغضب من الله ؛ أنّ تقهر خير أمّة أخرجت للناس ؛ إلاّ لأنّ هذه الأمّة قد خرجت عن منهج ربّها، وانحرفت عن الحقّ بوصلتها، التي أقامها الله عليها.. فتفرّقت وتاهت تحت شتّى الرايات، وعبث بها أعداؤها، من شرق الأرض وغربها، حتّى غدت تائهة وراء فتن الدنيا وأهوائها، لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً..

ومع ذلك، ورغم كلّ التآمر العالميّ، الذي يحشد قواه مع الباطل، ويتنكّر للحقّ وأهله، فإنّ المَسجد الأقصى سيبقى البوصلة الإيمانيّة والحضاريّة لهذه الأمّة، إنّه رمز صدق الإيمان، والوقوف مع الحقّ، وهو علامة القوّة والصحّة ورشد المنهج، وإنّ من بركاته على هذه الأمّة أنّه يفضح أشرارها المُنافقين، المُتواطئين مع أعداء الأمّة والدين، ويكشف خيانتهم العظمى لقيم الأمّة وتاريخها وحضارتها، كما أنّ الوقوف مع المَسجد الأقصى وأهله يجمع خيار الأمّة المُؤمنين، ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خالفهم أو خذلهم، ويُبقي جذوة الجهاد متّقدة فيهم، وتعجز قوى الأرض كلّها عن إخمادها، ولا يزالون كذلك حتّى تقع مَعركة الحقّ الفاصلة المَوعودة، من الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع يهود، فينتصر الحقّ وأهله، ويهزم الباطل وجنده.. والله غالب على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون..

وبعد ؛ فنختم بهذا النداء الصادق من قلب مؤمن، غيور على دينه وأمّته، يستحثّ المُسلمين على الأخذ بأسباب القوّة، ويؤكّد على مركزيّة قضيّة القدس في حياتهم ومواقفهم، فليأخذوا لها أهبتها، وليعدّوا لها عدّتها: « ويكأنّ الله يخاطب المُؤمنين من خلال نبيهم صلّى الله عليه وسلّم: إذا كنتم تودّون العلوّ في المَكانة فدونكم القدس، وإن كنتم تودّون السمو في القيمة فدونكم القدس، وإن كنتم تودّون العروج، فلا بدّ لكم من الإسراء.. ويكأنّ المَسجد الأقصى ينادي بأمّته قائلاً: أيّها المسلمون، دون وحدة لا تصلون إليّ، ودون جمع كلمة لا تقربون مني، فتوحّدوا أيّها الموحدون! فلن تحصّلوا حرّيّتي إلاّ جمعاً واحداً، فأنا رمز وحدتكم، ونتيجة كلمتكم، وقلب توحيدكم ». من كلام فضيلة الدكتور محمد غورماز، رئيس الشئون الدينيّة السابق في تركيا. حفظه الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين