نبي الرحمة (15)

بيعة العقبة الأولى:

قد ذكرنا أن ستة من أهل يثرب أسلموا في موسم الحج سنة ١١ من النبوة، وواعدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إبلاغ رسالته في قومهم.

وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي- موسم الحج سنة ١٢ من النبوة اثنا عشر رجلاً، فيهم خمسة من الستة. وسبعة سواهم، وهم:

١-معاذ بن الحارث، ابن عفراء من بني النجار.

٢-ذَكْوَان بن عبد القيس من بني زُرَيْق.

٣-عبادة بن الصامت من بني غَنْم.

٤-يزيد بن ثعلبة من حلفاء بني غنم.

٥-العباس بن عُبَادة بن نَضْلَة من بني سالم.

٦-أبو الهَيْثَم بن التَّيَّهَان من بني عبد الأشهل.

٧-عُوَيْم بن ساعدة من بني عمرو بن عَوْف.

الأخيران من الأوس، والبقية كلهم من الخزرج.

التقى هؤلاء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند العقبة بمنى فبايعوه.

عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا، فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله، فأمره إلى الله؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه). قال: فبايعته ـ وفي نسخة: فبايعناه ـ على ذلك.

أول سفير في يثرب:

بعد أن تمت بيعة العقبة الأولى، بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المبايعين مصعب بن عمير، ليعلمهم شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، ويقوم بنشر الإسلام.

نزل مصعب على أسعد بن زُرَارة، فخرجا يوماً إلى دار بني عبد الأشهل ودار بني ظَفَر، واجتمع إليهما رجال من المسلمين، فلما سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وهما سيدا قومهما بني عبد الأشهل، قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا. فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه. وجاء أسيد فوقف عليهما متشتماً، وقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته أكف عنك ما تكره، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب بالإسلام، وتلا عليه القرآن. قال: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، ففعل ذلك. ثم قال: إن ورائي رجلًا إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن, ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه، فقال سعد: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم, فلما جاء أسيد قال له سعد: ما فعلت؟ فقال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت. وقد حَدَثْتُ أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ـ وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ـ لِيُخْفِرُوك. فقام سعد مغضبًا للذي ذكر له، فأخذ حربته، وخرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتماً، ثم قال لأسعد: والله يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمْتَ هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره؟ فقال مصعب لسعد بن معاذ: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال: قد أنصفت، ثم ركز حربته فجلس. فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلّله، ثم قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم؟ قالا: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. ففعل ذلك. ثم أخذ حربته فأقبل إلى نادي قومه، فلما وقف عليهم قال: يابني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة، إلا الأُصَيْرِم تأخر إسلامه إلى يوم أحد، فأسلم وقاتل وقتل، ولم يسجد لله سجدة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عمل قليلاً وأجر كثيراً).

وأقام مصعب في بيت أسعد يدعو إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها مسلمون ومسلمات، إلا دار بني أمية بن زيد وخَطْمَة ووائل. كان فيهم قيس بن الأسلت الشاعر وكانوا يطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى كان عام الخندق سنة خمس من الهجرة

عاد مصعب بن عمير إلى مكة قبل موسم الحج التالي يحمل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم البشائر ويقص عليه خبر قبائل يثرب، وما لها من قوة ومنعة.

بيعة العقبة الثانية:

في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفساً من المسلمين من أهل يثرب،جاؤوا ضمن حجاج قومهم من المشركين، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم حتى متى نترك النبي صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟

عن كعب بن مالك الأنصاري قال: خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حَرَام، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا ـ وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرناـ فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً. ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، قال: فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيباً. قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلل القَطَا، مستخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، وامرأتان من نسائنا؛ نُسَيْبَة بنت كعب-أم عُمَارة- من بني مازن بن النجار،وأسماء بنت عمروـ أم منيع ـ من بني سلمة. فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا، ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، وكان أول متكلم، فقال: يا معشر الخزرج ـ وكان العرب يسمون الأنصار خزرجاً، خزرجها وأوسها كليهماـ إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذِلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ماقلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ماأحببت.

*بنود البيعة: قال جابر: قلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال:(على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله،لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة).

وفي رواية كعب ـ التي رواها ابن إسحاق ـ البند الأخير فقط من هذه البنود، ففيه: قال كعب: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال:(أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأبناءكم). فأخذ البراء بن مَعْرُور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبياً، لنمنعنك مما نمنع أُزُرَنا منه، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الْحَلْقَة، ورثناها كابراً عن كابر. قال: فاعترض القول ـ والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أبو الهيثم بن التَّيَّهَان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها- يعنى اليهود-فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:(بل الدَّمُ الدَّمُ، والهَدْمُ الْهَدْمُ، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم).

* التأكيد من خطورة البيعة: وبعد أن تمت المحادثة حول شروط البيعة، وأجمعوا على الشروع في عقدها، قام رجلان من الرعيل الأول ممن أسلموا في مواسم سنتي١١، ١٢ من النبوة، أحدهما تلو الآخر، ليؤكدا للقوم خطورة المسؤولية، حتى لا يبايعوه إلا على جلية من الأمر، وليعرفا مدى استعداد القوم للتضحية ويتأكدا من ذلك. قال ابن إسحاق: لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نَضْلَة: هل تدورن علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نَهَكَتْ أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال:(الجنة). قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه. وفي رواية جابر [قال]: فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة ـ وهو أصغر السبعين ـ فقال: رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله.

* عقد البيعة: بعد إقرار بنود البيعة قال جابر -بعد أن حكى قول أسعد بن زرارة- فقالوا: يا أسعد! أمط عنا يدك، فوالله! لانذر هذه البيعة، ولانستقيلها.

وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القوم للتضحية في هذا السبيل وتأكد منه ـ وكان هو الداعية الكبير مع مصعب بن عمير ـ فكان هو السابق إلى هذه البيعة. قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده. وبعد ذلك بدأت البيعة العامة، قال جابر: فقمنا إليه رجلًا رجلًا فأخذ علينا البيعة، يعطينا بذلك الجنة. وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولًا. ما صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أجنبية قط.

بعد أن تمت البيعة قال صلى الله عليه وسلم:(أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم). فتم اختيارهم في الحال، تسعةنقباء من الخزرج:أسعد بن زُرَارَة بن عدس،وسعد بن الرَّبِيع بن عمرو، وعبد الله بن رواحة بن ثعلبة، ورافع بن مالك بن العَجْلان، والبراء بن مَعْرُور بن صَخْر، وعبد الله بن عمرو بن حَرَام، وعبادة بن الصامت بن قيس، وسعد بن عبادة بن دُلَيْم، والمنذر بن عمرو بن خُنَيْس.

وثلاثة نقباء من الأوس: أُسَيْد بن حُضَيْر بن سِمَاك، وسعد بن خَيْثَمَة بن الحارث،ورفاعة بن عبد المنذر بن زبير.

لما تم انتخابهم أخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقاً آخر بصفتهم رؤساء مسؤولين.

قال لهم صلى الله عليه وسلم:(أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي)ـ يعني المسلمين ـ قالوا: نعم.

تم إبرام المعاهدة، وكان القوم على وشك الانفضاض، واكتشفها أحد الشياطين، فقام ذلك الشيطان على مرتفع من الأرض، وصاح بأنفذ صوت سمع قط: يا أهل الأخاشب ـ المنازل ـ هل لكم في مُحمد والصباة معه؟ قد اجتمعوا على حربكم. فقال صلى الله عليه وسلم:(هذا أزَبُّ العقبة، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك). ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم). قال العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلنّ على أهل منى غدًا بأسيافنا. فقال صلى الله عليه وسلم:(لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم)، فرجعوا وناموا حتى أصبحوا.

ولما قرع هذا الخبر آذان قريش وقعت فيهم ضجة، فما إن أصبحوا حتى توجه وفد كبير من زعماء مكة وأكابر مجرميها إلى أهل يثرب، وقال الوفد: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. ولما كان مشركو الخزرج لا يعرفون شيئاً عن هذه البيعة؛ لأنها تمت في سرية تامة في ظلام الليل، انبعث هؤلاء المشركون يحلفون بالله: ما كان من شيء وما علمناه، حتى أتوا عبد الله بن أبي بن سلول، فجعل يقول: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومي ليفتاتوا علي بمثل هذا، ولو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني. أما المسلمون فنظر بعضهم إلى بعض، ثم لاذوا بالصمت، فلم يتحدث أحد منهم بنفي أو إثبات. ومال زعماء قريش إلى تصديق المشركين. عاد زعماء مكة وهم على شبه اليقين من كذب هذا الخبر، لكنهم لم يزالوا يَتَنَطَّسُونه ـ يكثرون البحث عنه ويدققون النظر فيه ـ حتى تأكد لديهم أن الخبر صحيح، والبيعة قد تمت فعلًا، وذلك بعدما نفر الحجيج إلى أوطانهم.

يتبع...

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين