اللغة العربية الخالدة

"اللغة العربية الفصحى في سبيلها إلى الموت ".

كلمةٌ قالها أحد أدعياء الثَّقافة والتَّنوير، وأحد الرُّموز المستعصية على الفهم والهضم، بَـلْـهَ التَّذوقِ والخَضْمِ والقَضْمِ، بدءًا مِن لقبه الذي تلقَّفه مِن أسماء الآلهة المزعومة في أساطير اليونان[وهو أدونيس الذي يحاول أدعياء الأدب والثقافة والحداثة أن يجعلوا منه شيئًا مذكورًا!] وانتهاءً بنتاجه الذي ينضوي تحت ما يسمى شعر الحداثة وقصيدة النَّثر والشِّعر المنثور- بل النَّثر المشعور - وكروبٍ أخرى جِسام بُلينا بها في زمن الرُّويبِضَة، وهو الرجل التَّافه يتكلم في أمر العامَّة، كما خبَّر الصَّادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:

«إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَينْطِقُ فِيهَا الرُّوَيبِضَةُ " قِيلَ: وَمَا الرُّوَيبِضَةُ؟ يا رَسُولَ اللهِ قَالَ: " السَّفِيهُ يتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» [مسند الإمام أحمد برقم:7912].

نعم زعم هذا الـمُعْرِقُ في الموت أنَّ العربية في سبيلها إلى الموت، وهو لعمري ميتٌ وابن ميتٍ، وذو نسبٍ في الهالكين عريق، على حين تتأبَّى هذه العربية عليه وعلى أمثاله، بل تتأبَّى على القرون، وتتحدَّى الزَّمان والمكان، وتعلو رايتها فوق كلِّ رايةٍ، وهي تجبهُهُ وتجبَهُ كل منبهرٍ بالآخرين إلى حدِّ كراهية الذَّات والتَّنكر للانتماء بأنَّها كما قال العلامة الشيخ محمد بهجة الأثري رحمه الله:

مخلّـَدَةُ الشَّبابِ على الليالي=فلا يدنو مشيبٌ مِن حِماها

يشيخُ الدَّهرُ حالًا بعدَ حالٍ=وما تنفكُّ تَزهو في صِـباها

عجبتُ لها ومنبتها الصَّحارى=تُـغَذِّي إرْبـَةَ الدُّنيا لُغاها

حباها بارئُ الأصوات أحلى=وأعذبَ ما يرفُّ به صداها

مُـنـغـَّمـةٌ كأنَّ لها رباطًا=مع الإيـقاعِ توقِعُهُ خطاها

هي الفصحى لنـا وَزَرٌ وحقٌّ=علينـا بـرُّها ومنى رضاها

هي باقية ٌخالدةٌ؛ لأنَّها لغة القرآن وهو ميتٌ زائل لأنَّه بقية إنسانٍ، هي قويةٌ راسخةٌ؛ لأنَّها هوية أمَّةٍ وهو ضعيفٌ واهٍ لأنَّه انسلخ حتَّى عن أمِّه، هي عزيزةٌ أبيةٌ؛ لأنَّها تأبى الذُّل والدَّنية وهو ذليلٌ خانعٌ لأنَّه تابعٌ منقادٌ، هي ماكثةٌ في الأرض؛ لأنَّها تنفع النَّاس وهو ذاهبٌ جفاءً لأنَّه زبَدٌ: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا ينْفَعُ النَّاسَ فَيمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾[الرعد17].

أمَّا أنت أيها الدَّعي الجهول فقد هانت عليك نفسك، فهانت عليك لغتك، ولم تعلم أنَّ في تحقير لغتك تحقيرًا لذاتك، وفي عداء للغتك عداءً لأمَّتك ووجودك، وفي كراهيتك لهذه اللُّغة كراهيةً لنفسك اللاقسة، وجبلَّتك الثَّقيلة.

ولا تنسَ، وما إخالك ناسيا، أنَّ التي تَطعن بها هي لغة القرآن، التي اصطفاها الباري سبحانه لتكون لغة وحيه وكلامه، وهو جلَّ وعلا قد تكفَّل بحفظها حفظًا لذكره وقرآنه حيثُ يقول في محكم تنزيله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9].

وحقًّا كان الخير أنْ تصمت بدلًا مِن أنْ تَهْرِفَ بما لا تَعرف، وتَتَطاول على ما لا تُحسن.

مُتْ بداءِ الصَّمتِ خيرٌ=لكَ عن داءِ الكلامِ

إنَّمـا السالمُ مَـنْ ألـ=ـجمَ فـاهُ بلجامِ

وأمَّا العربية فإنَّها لغةٌ لن تموت بإذن الله، إنَّها لغةٌ خالدةٌ ما دامت السَّموات والأرض والجبال حتَّى يرث الله الأرض ومَنْ عليها، ولا ريبَ أنَّ استعادة الثِّقة بقدرتها على مواكبة التَّطور الحديث أمرٌ يحتاج إلى عملٍ وجدٍّ، وإلى أن نأخذ الكتاب بقوَّةٍ؛ صغيرنا وكبيرنا عالمنا ومتعلِّمنا، مسؤولنا ورعيتنا، فالمسؤولية مشتركةٌ بين الجميع وهي: رفع راية اللُّغة العربية حتَّى تعود إلى سلطانها القديم يوم كان النَّاس كلما أرادوا أن يتعلَّموا شيئًا أو يطوروا أنفسهم يقال لهم لا بدَّ أن تتعلَّموا العربية أولًا؛ فزاد المعرفة هو العربية، وبها انتشر الإسلام وتلي القرآن وعمَّ السَّلام، وبها كُتِبَت العلوم والفنون والآداب والأشعار، وعنها نَقَلَ النَّاس الحضارة والثَّقافة في مشرق الأرض ومغربها، وبحروفها وخطوطها زُينَت القصور والمساجد والقاعات، فضلًا عن أنَّ هذا الحرف الجميل غدا وعاءً لكثيرٍ مِن اللُّغات في العالم كالتركية العثمانية والفارسية والأوردية.

إنَّ العربية مفخرةٌ مِن مفاخر العرب والإسلام، وحقيقٌ بكلِّ مَن انتمى إلى واحدٍ منهما أو إلى كليهما أن يفخر بها، وأن يعتزَّ بالانتماء إليها، وإلَّا ففي إسلامه شكٌّ، وفي عروبته ريبٌ، بل في إنسانيته دَخَلٌ ودَخَن.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين