الشيخ محمّد أمين سراج رحمه الله

مَدرَسَة في الأصالة، لا بدّ من تحرير منهجها وتوثيقه

كلّ من تحدّث عن الشيخ محمّد أمين سراج رحمه الله تعالى ـ فيما قرأت ـ تحدّث عن الجانب العلميّ، وما يتّصل به، من نبوغ منذ الصغر، وتلقّ عن كبار الشيوخ، وتمكّن علميّ مشهود، واجتهاد في نشر العلم وتعليمه، وعن شخصيّته الربّانيّة المُتميّزة، التي جعلت منه مدرسة علميّة تربويّة فذّة، تهفو إليها قلوب طلاّب العلم، ينهلون من معينها، ويتربّون على مائدتها..

ولم أر من تحدّث أو أشار إلى جانب نشاطه الاجتماعيّ، ووعيه السياسيّ، ومتابعته لأوضاع المُجتمع الذي يعيش فيه وتقلّباته، وجهاده في تثبيت قلوب الناس على الحقّ، وحفظهم من الفتن العاتية العاصفة..

وكلّ ذي علم بالشأن والتركيّ يعلم أنّ الشيخ رحمه الله عاصر في عمره المَديد تقلّبات كبرى حدثت في مجتمعه، وواجه زلزالاً عنيفاً، أريد له أن ينتزع الأمّة التركيّة من عقيدتها وقيمها، وهوّيّتها الثقافيّة، وانتمائها للأمّة الإسلاميّة، فكان مناراً للحقّ، وكانت له مواقف راسخة، ثبت فيها ثبات الجبال الرواسي، وأخذ عنه ذلك كلّ من تربّى على يديه.. لم تهمّه شهرة، ولم يلتفت إلى منصب أو جاه، ولم يستطع صاحب هوى أو باطل أن يستغويه، أو يميله عن سبيله..

لقَد كان مدرسة في تقواه وورعه، وفي شخصيّته العلميّة، والأخلاقيّة، والفكريّة، ومَعلماً لأمّته على الحقّ، متواضعاً لله تعالى، وبين جميع إخوانه، سجيَّة منه وبغير تكلّفٍ، هادئاً في سيره الدعويِّ بغير ضجيج، يعرف معالم طريقه بدقّة، ويسير إلى غايته بكلّ طُمَأنينة، عاش لأمّته الإسلاميّة، لا يعرف الحدود المُصطنعة، قريب القلب والروح، والصلَة مع إخوانه المُؤمنين في أرجاء الأرضِ..

وكانَ مَدرسَةً في فكره السياسيّ ومَنهجه الدعويَّ، لم يُستجرّ من قوى الشرّ إلى معركة، تستنزف قواه وطاقاته بغَير طائل... لقد كان الجنديّ الغيور، المُرابط على ثغور الحقّ لا يبرحها، مهما تعرّض للشدائد والابتلاءات.. وكانَ عملُه الصابر الدءوب أقوى تأثيراً في الأرض من كلّ تخطيط ومكر.. فما أحوج الدعاة والحركة الإسلاميّة في كلّ مكان إلى دراسة حياة هذا العَلَم الفذّ، والاقتباس من حكمته ومنهجه..

وكان وراء العمل الإسلاميّ السياسيّ الناشئِ، يغذّيه بعلمه وفكره وحكمته ويرعاه، ويبنيه ويتعهّده، ويرشد شبابه، ويُقوّم سيره، ويسدّد خطاه، ولا يغفل عنه، كما ترعى الأمّ الحنون أطفالها، وتضحّي في سبيلهم بكلّ شيء..

لم يُكتب لي لقاء الشيخ رحمه الله إلاّ مرّات قليلة، بحكم قلّة زياراتي لإصطنبول.. ولكنّني تعرّفت على بعض ثمرات عمله، من أولئك التلَامِذَة الأبرار، الذين يملأون ساحات العمل العلميّ، والدعويّ، والسياسيّ، وكلّهم ذكر الشيخ على رأس حديثهِم في المَجالس، يذكرون مناقبه في كلّ مناسبة، ويستشهدونَ بكلامه، ويثنون على مواقفه..

لم يكن الشيخ يعيش في مسجده فحسب، بل كان مع أمّته من أدناها إلى أقصاها.. وأقصد "أقصاها" بمعنييه.. كان مسجده الفاتح بموقعه الدينيّ والحضاريّ المُتميّز موئل الزائرين والقاصدين من أرجاء الأرض، فكأنّ " الفاتح" تزوى فيه هموم الأمّة وقضايَاها، وتجتمع في شخص الشيخ آمالها وآلامها، فيجد القاصد للسلام على الشيخ في مجالسته الروح الشفّافة اللطيفة، وفي حديثه الأمَن والسكينة، واليقين بالله والطمأنينة، وفي احتفاء الناس به عزّة العلماء، وأصالة هذه الأمّة، التي لا تزال بقيّة الخير فيها تبشّر بأنّه ضارب الجذور في أعماقها، وأنّ نسمات الهُدى التي قدمّت منذ القرن الأوّل إلى هذه الأرض مع أبي أيوب الأنصاريّ، رضي الله عنه، لا تزال طريّة عبقة، تؤتي ثمراتها كلّ حين بإذن ربّها، وأنّها مُستعصية على كلّ محاولات الوأد أو الإقصاء والكتم..

لقد كان الرجل أمّة في إنسان، ومدرسة في عالم ومُعلّم، ومَعهداً في منهج دعوة، وبناء أمّة.. فهل يفي بحقّه، وحقّ الدين والأمّة أن تكتب فيه مقالات الثناء والمَديح، تقتصر على جانب من حياته فحسب، وكثير منها مكرّر متشابه.؟!

إن الشيخ رحمه الله لم يؤلّف كتباً تقرأ، ولكنّه ربّى رجالاً، ملأوا ساحات المُجتمع علماً وخيراً وبرّاً، فمن حقّه عليهم أن يصوغوا حياته وشخصيّته، ومنهجه وسيرته فصولاً في كتاب، توثّق حياته للأجيال القادمة، فهو لم يعد حقّاً قاصراً على الجيل، الذي عاش فيه.. بل أصبح ملك الأمّة كلّها، وصفحة مباركة في تاريخ علمائها ودعاتها.. فهل إلى سبيل من ذلك.؟ بأن يتداعى خيار تلامذته ومحبّيه إلى لقاء جامع، يتدارسون فيه حياة شيخهم رحمه الله، ويتّفقون على ما يكتبون من فصول حياته، التي عاشوها وعاينوها، فيكونون شهداء قسط وعدل، وأهل برّ وفضل؛ برّ بشيخهم، الذي مضى إلى ربّه بخير ما قدّم من عمل، والله يجزي المُحسنين، وفضل على أمّتهم، وهو فضل حقّ واجب، لا يسقطه أيّ عذر، ولا يبرّر فيه التأخير..

وإنّي لأهيب بأخي الشيخ مجد مكّي حفظه الله، أن ينهض لتحقيق هذا الأمر، بالسعي مع تلامذة الشيخ ومحبّيه، وهو الذي له اهتمام كبير بالعناية بحياة المَشايخ، وتوثيق أخبارهم وجمعها، برّاً منه ووفاء، جزاه الله خيراً، وشرح صدره لذلك..

وأختم بقصّة من حياة الشيخ رحمه الله لها دلالاتها الكبرى ومغزاها:

فقد حدّث بعض الإعلاميّين أنّه عندما نجح أردوغان برئاسة بلديّة إصطنبول الكبرى، كان هذا الإعلاميّ في إصطنبول، فصلّى الجمعة في مسجد الفاتح، يريد السلام على الشيخ والمباركة له بهذا النجاح للإسلاميّين، ففوجئ بأنّ أردوغان يصلّي في مسجد الفاتح، ويدخل ليسلّم على الشيخ، فبارك لهما الرجل، وهو يظهر اغتباطه الشديد بما حدث، فما كان من الشيخ رحمه الله إلاّ أن قال بلهجة جازمة قويّة: « والله لا نَرضَى له إلاّ أن يُصبحَ رئيسَ الجمهوريّة ».. أهي كلمة الواثق بربّه، الذي لو أقسم على الله تعالى لأبرّه.؟ أم هي فراسة المُؤمن، الذي ينظر بنور الله.؟ أم أنّ الشيخ كان يعايش العمل الإسلاميّ في بلده خطوة خطوة، بل له فيه بصمته المُتميّزة: تربية وتعليماً، ورعاية وتسديداً، وغيرة لا تعرف المُهادنة، بله المُداهنة.؟ وهذا هو الراجح الصحيح..

رحم الله الشيخ، وأعلى مقامه في علّيّين، وجعله مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، لقد كان حقّاً محمّداً في حياته منهجه، أميناً على دين الله، سراجاً للأمّة فيما مرّت به من ظلمات مدلهمّة، وعوّض الله الأمّة خيراً عن فقده، والحمد لله أوّلاً وآخراً، وعلى كلّ حال.. وإنّا لله، وإنّا لله راجعون..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين