الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم

الحمدُ للهِ الذي أنزلَ الفرقانَ على عبدِه ليكونَ للعالمينَ نذيرًا، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيِّدِنا محمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ، الذي أرسلَه ربُّه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللهِ بإذنِه وسراجًا منيرًا.

أما بعدُ!

فإنَّ القرآنَ الكريمَ كتابُ اللهِ الخالدُ، أنزله هدايةً للعالمين، فهو خطابُ الله إلى الإنسانية جميعًا، يستحثُّ العقول لتنهض لسَبرِ معانيه، والوقوف على مراد الله فيه، والامتثال لأوامره ونواهيه. ولا بِدْعَ أن يشتغل المسلمون بالقرآن تلاوةً وحفظًا ودرسًا، فهو أُسُّ وجودهم المعنوي، ومبنى هُوِيَّتِهم الحضارية، وقِوام كينونتهم الاجتماعية، ومن حكم المولى عز وجل العليم الخبير أن يقيض من أعداء الدين من يخدمونه من حيث لا يشعرون، فإن إثارة أعداء الإسلام للشبه الباطلة دفعت الكثير من الغيورين إلى الرد عليها، والذود عن حياض القرآن الكريم.

وكما هو معلوم أن القرآن الكريم نزل منجمًا تبعًا للأحداث والظروف التي عاشتها الدعوة المحمدية، ثم هو في المصحف على ترتيب آخر، ولم يكن هذا الترتيب للآيات في سُورها من صنع بشر، بل كان توقيفيًّا من الله سبحانه وتعالى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالآية أو الآيات يرشُده أمين الوحي إلى موضعها من سورتها، فيقرؤها صلى الله عليه وسلم على أصحابه وعلى كتَّاب وحيه، ثم يأمرهم بكتابتها في موضع كذا من سورة كذا بين كذا وكذا، وقد نقل العلماء الإجماع على ذلك، وساقوا الأدلة عليه، كما ذكر السيوطي في الاتقان وغيره، كما أن الرأي المختار في ترتيب السور الأصح أنه توقيفي.

أولًا: لقد كانت هذه الظاهرة القرآنية التي تعتبر من دلائل الإعجاز سببًا في أن يدعي بعض الناس على القرآن جهلًا واستكبارًا أنه كتاب لم يأت على نسق الكتب الموضوعية؛ إذ ليست له مقدمة، وليست فيه مباحث موضوعية مرتبة لها أغراض ومقاصد في فصول وأبواب، وإنما كان القرآن مشتملًا على عدة سور، كل سورة منه احتوت على آيات متعددة، كل آية في غرض، فهذه للوعظ وتلك للزجر، وهذه قصة، مما يعني افتقاد القرآن للترابط بين آياته وسوره، فلا تجد رباطًا يربط بين الآيات، ولا غرضًا يجمع الشتات، وقد تبجح بعض المستشرقين وغيرهم، وعدُّوا هذا عيبًا في القرآن واضطرابًا في التأليف، وتلك لعمري أفكار الصبيان أو أفكار المَرَدَة من الشياطين الذين اتخذوها سهامًا للطعن على القرآن الكريم.

وإذا نظرنا إلى هذا الكلام من الناحية التاريخية فإن القرآن الكريم حينما نزل على العرب بلغة العرب، وهم أعلم الناس بلغته، وتحداهم تحديًا صارخًا بأن يأتوا بمثله أو بعشر سور منه أو بسورة واحدة، وقال لهم في تحديه «لن تفعلوا»، ومع هذا عجزوا عجزًا تامًا، ثم وصفوه كما قال الوليد بن المغيرة بعد ما فكر وقدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر، هكذا وصف العرب القرآن، مع أنهم أعداء للنبي وللقرآن، فلم يقولوا: إنه مفكك ولم يقولوا إنه على خلاف الكتب، ولا إنه ضعيف مهلهل، ولكنهم قالوا: عجبًا إنه يفعل فعل السحر.

أما الكلام على السورة ككل مع بيان أغراضها العامة والخاصة وما فيها مع بيان ربط الموضوعات بعضها ببعض حتى تبدو السورة في منتهى الإحكام والدقة -الوحدة الموضوعية للسورة- فإن أول إلى من تكلم في هذا الباب ومهد له وكشف عن بعض أسراره هو الفخر الرازي، ومن الجهود المعتبرة فيما يتعلق بالوحدة الموضوعية في السورة، ما قدمه العلامة الشاطبي في كتابه «الموافقات» إذ يقول: "إن السورة الواحدة مهما تعددت قضاياها فهي تكون قضية واحدة؛ أي تهدف إلى غرض واحد أو تسعى لإتمامه، وإن اشتملت على عديد من المعاني، وضرب مثلًا لذلك بسورة المؤمنون".

ومن خصائص القرآن أن كل سورة قد جمعت بين آيات مختلفة النزول زمانًا ومكانًا تهدف إلى غرض واحد له في الغالب مقدمات ونتائج، فكل سورة لها حدود ورسوم وأهداف وأغراض تدور حولها، فتعرض لتحقيق ذلك إلى عدة معان، وتأخذ من كل معنى ما يتناسب مع هدفها

وسور القرآن في ذلك نوعان:

أ. نوع يشتمل على غرض واحد، وإن استتبع نظرات جانبية، وأغلب ذلك في سور المفصل كالماعون والفيل وغيرها، وهناك من المفصل ما قد اشتمل على قضيتين مثل سورة العلق.

ب. النوع الثاني من السور لم يقتصر على غرض واحد، بل جمع أغراضًا عديدة، وطرق موضوعات كثيرة، وإن كان للجميع هدف واحد، ونهاية واحدة، وهذه معجزة من أكبر معجزات القرآن الكريم.

وقد اختلف الدارسون في التعبير عن هذه الخصيصة؛ فمنهم من سماها نظام السورة، ومنهم من عبر عنها بالوحدة المعنوية أو العضوية، ومنهم من يطلق عليها الوحدة البنائية، إلى غير ذلك من المصلحات والألفاظ.

وقد عبر عنها البعض بالوحدة الموضوعية في السورة، إلا أن هذا التعبير قد يستشكل عليه بأنه قد يتوهم أن للسورة موضوعًا واحدًا فقط، لكن ما يزيل هذا الإشكال هو أن السورة قد تتعدد موضوعاتها وتستبع أغراض مختلفة لكنها وحدة كاملة، ملتحمة في نسيج واحد لها هدف واحد تتجه إليه.

ومن يرد الدليل العملي على وحدة السورة فليرجع إلى ما قدمه الدكتور محمد عبد الله دراز في دراسته التطبيقية لسورة البقرة في كتابه النبأ العظيم، كما اختار العالم المفسر محمد محمود حجازي سورة النساء للحديث عليها في كتابه الوحدة الموضوعية في القرآن، وبين أن الهدف الذي تطلعت إليه من أولها إلى آخرها هو استقرار الأمن للدولة مع وضع الأسس الثابتة والدعائم الصحيحة له، وهي في تحقيق هذا كان لها غرضان أساسيان، هما: استقرار الأمن العام للدولة بالاستقرار الداخلي للأسرة والمجتمع، والآخر استقرار الأمن العام للدولة بالاستقرار الخارجي للأمة كلها.

وعن كيفية الكشف عن وحدة السورة والطريقة الأمثل يقول الدكتور دراز: إن السياسة الرشيدة في دراسة النسق القرآني تقضي بأن يكون هذا النحو من الدرس هو الخطوة الأولى فيه؛ فلا يتقدم الناظر إلى البحث في الصلات بين جزء منه، وهي تلك الصلات مبثوثة في مثاني الآيات ومطالعها ومقاطعها إلا بعد أن يحكم النظر في السورة كلها بإحصاء أجزائها وضبط مقاصدها على وجه يكون معوانًا له على السير في تلك التفاصيل عن بينة.

ويرى دراز أن العلماء قديمًا-النيسابوري والرازي وأبو بكر بن العربي والبقاعي والشاطبي- ذهبوا إلى أن السورة مهما تعددت قضاياها فهي كلام واحد يتعلق آخره بأوله، وأوله بآخره، ويترامى بجملته إلى غرض واحد، كما تتعلق الجمل بعضها ببعض في القضية الواحدة، وأنه لا غنى لمستفهم نظم السورة عن استيفاء النظر في جميعها، كما لا غنى عن ذلك في أجزاء القضية.

مما سبق نرى أن العلماء قد دعوا إلى النظر الكلي في السورة بحثًا عن الخيط الذي تنتظم فيه وتحديدًا لمقاصدها الكلية، وبحثًا عن الهدف الذي تتجه إليه وتدور حوله تفاصيله، وبهذا يكون النظر في وحدة السورة ونظامها وسيلة وأداة يستعان بها لتحقيق الترابط الشامل بين آيات القرآن.

ثانيًا: ومن الشبه التي وجهت للطعن في القرآن الكريم، الآيات التي تتعلق بتكرار الموضوع الواحد، معتبرين ذلك نقصًا في القدرة عن الإبانة، وعجزًا عن تتميم العبارة دفعة واحدة.

وقد قدم العلماء دراسات تطبيقًا عمليًّة لنفي هذه الشبه، منها دراسة العالم المفسر الشيخ محمد محمود حجازي في كتابه الوحدة الموضوعية في القرآن، من خلال نظره للآيات التي تعرضت للإنسان، ووصفته بأوصاف متعددة، فهل يعد هذا تكرارًا لا ترابط فيه؟ أم هناك تباين واختلاف؟ أم هو موضوع واحد متكامل تام ذكر في عدة سور؟

وخلاصة فهمه أن هذه الأوصاف كشفت الإنسان، وأظهرته على حقيقته، وأبانت غرائزه وميوله وطبائعه، وأن كل آية مناسبة تمامًا لما قبلها وما بعدها، وأنك إذا أخذت هذه القضايا المتناثرة لحكم وأسرار وجمعتها تكون منها موضوع واحد متكامل؛ هو ما نسميه بالوحدة الموضوعية في القرآن؛ أي: وحدة الموضوع.

ونختم الحديث في هذا الموضوع بما قدمه العلامة الهندي عبدالحميد الفراهي في نظريته في التفسير في كتابه «دلائل النظام»، وطبقها في تفسير المعروف بنظام القرآن، وتقوم نظرية الفراهي على مبدأ النظام القرآني؛ أي: الوحدة الموضوعية في القرآن، ومفاد هذا المبدأ أن «القرآن الحكيم كلام منظم مرتب من أوله إلى آخره على غاية حسن النظم والترتيب، وليس فيه شيء من الاقتضاب؛ لا في آياته ولا في سوره، بل آياته مرتبة في كل سورة، كالفصوص في الخواتم، وسوره منظومه في سلك واحد كالدرر في القلائد، حتى لو قدم ما أخر أو أخر ما قدم؛ لبَطَلَ النظام، وفسدت بلاغة الكلام، بل ربما يعود إلى قريب من الهذيان».

ويبين الفراهي مراده من نظام السورة فيقول: «أن تكون لكل سورة صورة مشخصة، فإن معاني الكلام إذا ارتبط بعضها ببعض وجرت إلى عمود واحد، كان الكلام ذا وحدانية، فحينئذٍ لا يكون إلا وله صورة مشخصة، ذلك أن الكلام الصحيح النظام لا بد له من عمود يجري إليه الكلام، فلا بد لطالب النظام أن يتأمل في مساق الكلام؛ ذلك أن السورة تحوي مطالب شتى، ولا تعلم ما هو العمود الذي سيق إليه المعاني، ولن تهتدي إلى معرفة اتصال الكلام بعضه ببعض دون معرفتك بمساق الكلام، ووجهته التي تسلك إليها أجزاؤه، حتى تراها منظومة في سلك واحد. وبالجملة فالنظام هو الذي يعطي السورة وحدانيتها التي بها صارت سورة كاملة مستقلة بنفسها ذات عمود تجري إليه أجزاؤها».

مما سبق نرى أن النظام القرآني عند الفراهي يطلق على مفهومين: أعم وأخص. فالأعم يتصل بنظم القرآن كله بجميع آياته وسوره، والأخص هو نظام السورة الواحدة من القرآن.

إذًا فعلم النظام-كما قدم الفراهي- يجعل السورة كلامًا واحدًا، ويكتشف الوحدة التي صارت به سورة كاملة مستقلة بنفسها، ذات عمود تجري عليه أجزاؤها، ويربط الآيات بعضها ببعض؛ حتى تأخذ كل آية محلها الخاص، وبهذا تكون كل سورة مناسبة لما قبلها أو بعدها، ومن تدبر القرآن في ضوء النظام فلا شك أنه لا يخطئ في فهم معانيه؛ وذلك لأن النظام يبين له سمت الكلام، وينفي عنه تشاكس المعاني، وعلى هذا الأصل ترى القرآن كلامًا واحدًا، وهذا هو مفهوم الوحدة الموضوعية لسور القرآن.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين