عن استدلال الإسلاميّين بمقولة

يستندُ الخطاب التعبويّ والتربويّ والدّعوي عند عموم الجماعات الإسلاميّة إلى أفكار ومقولات عديدة يتمّ الاستدلال بها على صواب المشروع الذي تتبناه الجماعة وصدق الفكرة التي تنتهجها، ومن هذه المستندات على صواب مواقف الجماعة وصحة منهجها وقوف العدوّ ضدّها وتحالف أهل الباطل في معاداتها.

ولئن كان هذا الخطاب حاضرًا عند عموم الجماعات الإسلاميّة غير أنّه في السنوات الأخيرة كان الأشدّ ظهورًا ووضوحًا عند داعش والقاعدة، حيث يحاول التنظيمان إثبات قداسة ما يحملان وينتهجان من أفكار من خلال استحضار تحالف الأعداء من "أهل الكفر" و"أساطين الباطل" ضدّهما.

لم يَقُلها الشّافعيّ

"اتبع سهام عدوّك ترشدك إلى الحقّ" هذه العبارة المشهورة المنسوبة إلى الإمام الشّافعي؛ والتي تزخر بها وسائل التّواصل الاجتماعي، ويستحضرُها كثيرٌ من الإسلاميّين وأصحاب المشاريع لإثبات أنّهم على الحقّ؛ وتغصّ بها منتديات داعش والقاعدة الدعويّة هي مقولةٌ باطلة من حيثُ نسبتُها إلى الإمام الشّافعي فلم ترد في أيّ كتاب من كتبه ولم ترد في غير ذلك من الكتب التي تنقل عن غيره من الأعلام الكبار.

تتمّ نسبتها من قبل واضعيها إلى الإمام الشّافعيّ رحمه الله تعالى لتكتسب موثوقيّتها العالية وقبولَها دون أدنى تمحيصٍ من قبل المتلقّي

وما هي إلّا كغيرها من العبارات الشّائعة المنسوبة إلى الأعلام من العلماء والمفكرين التي تنتشر في وسائل التّواصل الاجتماعي انتشار النّار في الهشيم ولا يكون لها أصلٌ من الصّحة من حيثُ نسبتُها إلى قائليها.

وإنّما تتمّ نسبتها من قبل واضعيها إلى الإمام الشّافعيّ رحمه الله تعالى لتكتسب موثوقيّتها العالية وقبولَها دون أدنى تمحيصٍ من قبل المتلقّي.

وماذا عن المضمون؟

والمقولة باطلةٌ أيضًا من حيثُ مضمونُها؛ فالصّراع لا يكون بين الحقّ والباطل على الدّوام، فقد يحتدمُ الصّراع بين الباطل والباطل أيضًا.

وإنّ ثنائيّة الصّراع التي رسّخها الخطاب التّعبوي في العمل الإسلامي في كثيرٍ من الأحيان؛ هي صورة انقسام العالم إلى فسطاطين هما الحقّ والباطل، وأنَّ المعركة تحتدم على الدّوام بينهما ممّا جعل الصّورة المستقرّة في الأذهان متّجهة إلى ثنائيّة الحقّ والباطل دون النّظر إلى تعقيدات التّشابك في الصّراع بين القوى الموصومة بأنّها قوى الباطل بل بين القوى المنسوبة إلى الحقّ في أحيان عديدة. ‏

وارتكز هذا الخطاب القائم على قسمة الحقّ والباطل على أنّ الباطل إذا كان في جهةٍ فالحقّ هو في الجهة المقابلة بالضرورة دون النّظر في سلوكه ومواقفه وأفكاره، فكيف إذا اجتمعت مجموعةٌ من قوى الباطل وتحالفت ضدّ جهةٍ وكيان ما وكان هذا الكيان يرفع في أدبيّاته تحكيم الشّريعة وإقامة الدّولة الإسلاميّة؟!

إشكال استدلاليّ

إذا اجتمعت قوى الباطل وحشدت حشودها ضدّ جهةٍ ما أو كيانٍ ما أو جماعةٍ ما أو دولةٍ ما أو أحدٍ ما؛ فسرعان ما يتمّ استحضار هذا القول المنسوب للشّافعي على أنَّ اجتماعها ضدّه ليس إلّا دليلًا على أنّه هو الحقّ أو أنّه على الحقّ.

والغريب أنَّ هذا الدليل يحضر في أدبيّات عموم القوى الإسلاميّة على ما بينها من تناقض، من داعش والقاعدة وصولًا إلى الطرق الصّوفية مرورًا بما بينهما من الجماعات والقوى والتيارات.

وتعدّ هذه المقولة من أجلى استدلالات داعش على أنّ اجتماع دول العالم وتحالفه ضدّها يؤكّد أنّها هي الحقّ وعلى الحقّ تسير، وقد لاقى هذا الاستدلال وقعه في نفوس الكثيرين ممّن تلقّوا هذا الخطاب التعبوي في حياتهم.

وكذلك تبرز في هذا الإطار مقولةٌ يكررها الكثيرون مفادها "حيثما كانت أميركا وإسرائيل فإنّ الحقّ في الجهة المقابلة حتمًا" ممّا استدعى من الكثيرين تبنّي مواقف مساندة لكثيرٍ من القوى والدّول والجهات والأشخاص واعتبارها على الحقّ فقط لأنّ أميركا أو "إسرائيل" تقف منهم موقفًا عدائيًّا.

ويكمن الإشكال في الاستدلال بهذه المقولة في جعلها قانونًا مطّردًا يتمّ تعميمه على كلّ الحالات والوقائع والمواجهات.

وهذا غير صحيح ويدحضه الواقع المعاش كما تنقضه حركة التّاريخ بل تدلّ النّصوص الشّرعيّة التي ينبغي أن تكون هي موضع الاستدلال على خلافه.

فقد بينت نصوص القرآن الكريم على أنَّ قوى الباطل قد تتقاتلُ وتتصارعُ فيما بينَها، بل إنّ صراع الباطل البينيّ يكون شديدًا للغاية، وقد قال الله تعالى في وصف أهل الباطل حينَ يتصارعون فيما بينهم: "بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ".

حركة التّاريخ تنقض هذا الاستدلال وتؤكّد صراع الباطل مع الباطل، وأنَّ الباطل يقتل بعضه بعضًا، ابتداءً من حروب الإمبراطوريّات العظمى الفرس والرّوم

وكذلك فإنَّ الاستدلال باطلٌ أيضًا من جهة الواقع؛ فإنَّ القوى الموصومة بالباطل ما فتئت تتصارع فيما بينها، لا سيما في عالم اليوم الذي تتصارع فيه القوى الكبرى بحثًا عن مصالحها فمنذ مئة سنة وقوى الأرض تتصارعُ فيما بينها في حروبٍ عسكريّة عالميّة أو حروبٍ باردة يستعلي فيها الباطل بعضه على بعض.

وكذلكَ فإنَّ حركة التّاريخ تنقض هذا الاستدلال وتؤكّد صراع الباطل مع الباطل، وأنَّ الباطل يقتل بعضه بعضًا، ابتداءً من حروب الإمبراطوريّات العظمى الفرس والرّوم فيما بينها وهو صراعٌ جليّ بين الباطل والباطل.

وإنّ ترسيخ هذا الخطاب والاستدلال بهذه القاعدة وجعلها عنوانًا من عناوين معرفة الحق هو خدمة مجانيّة يقدّمها مستخدمو هذه العبارة من الدّعاة والإسلاميّين للقاعدة وداعش التي تحاول اكتساب مشروعيّتها الشعبيّة من فكرة استعداء أهل الباطل وتحالف الكفار كما تسميه ضدّها.

وهذا يستدعي مراجعة خطابنا التعبويّ ومنهجيتنا في التقييم والاستدلال على الحقّ؛ فالحقّ يستدلّ عليه بالحق ولا يُستَدلّ على الحقّ بالباطل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين