في انتظار يوم التروية

في رحاب البيت العتيق

الشيخ : عبد الله نجيب سالم
 
ولما كان كثير من الحجاج يفدون إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج قبل أيام عديدة من يوم التروية، وتبقى لديهم وفرة من الأيام، قد تطول أو تقصر، بين أدائهم مناسك العمرة، وبين ابتداء أعمال الحج يوم التروية، فإنه من الواجب أن نتعرف إلى أهم وظائف الحاج في هذه الأيام المباركة، في تلك البلدة الطيبة.

والواجبات أو الوظائف الدينية أو الأحوال التي يكون مهتماً بها الحاج في مكة تناسب أمرين عظيمين اثنين:
أولهما: تناسب الحاج كعابد ساقه الحب إلى انتظار يوم اللقاء الأكبر في عرفات، وهو في سبيل ذلك بذل ماله، وفرّغ نفسه، وترك وطنه، وفارق أهله، ونزع ثيابه، وصحح نيّته، فكان وجوده في مكة ليس كوجود أي شخص فيها، بل كان وجوده فيها مميزاً وخاصاً.
وثانيهما: تناسب الظرف المعظم في الزمان والمكان في تلك الأيام الكريمة، فمن حرمة البيت الحرام إلى حرمة البلد الحرام، إلى حرمة الشهر الحرام، وتلك حُرُمات لعمري من أعظم الحرمات.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حين خاطب أصحابه بقوله:
ـ أي بلد هذا؟ أليس البلد الحرام؟ أي شهر هذا؟ أليس شهر ذي الحجة؟ أي يوم هذا؟ أليس يوم النحر؟ ثم بيّن أن تحريم الأموال والأعراض والدماء عظيم وخطير ومحرم عند الله كحرمة البلد هذا والشهر هذا والموقف هذا ....
لا رفث ولا فسوق ولا جدال
وإذن فالحاج ـ وهو في مكة ـ ينبغي عليه أن ينتبه إلى الأمور التالية:
أولاً: أن يتقيد بما أكد الله عليه في قوله سبحانه:
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومـَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَـجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ)(1).
والرفث: ذكر مقارفة النساء ودواعي ذلك، وهو أيضاً العبارات البذيئة والرديء من الكلام، واللغو الذي لا فائدة منه ولا طائل تحته.
والفسوق هو: إتيان المعاصي، كبرتْ أم صغرت، وذلك من الخروج عن طاعة الله، وقيل: هو السباب والتنابز بالألقاب.
والجدال: المِراء والمناقشة الحادة التي تورث الخصومة وتزرع الأحقاد في القلوب، ومنه الجدل مع الرفاق والحمالين والعمال والباعة.
وقد نبّه المولى سبحانه إلى أن من أقبل على الله قاصداً لرضاه متجرداً عن دنياه، ينزّه نفسه عن هذه الأمور التي تنافي أدب الحج، وتشغل بال الحاج، وتكدر عليه صفوه.
وإذا كان الحق سبحانه قد نبّه على المحذورات المنكرة والأفعال المستقذرة ليتركها الحاج ويبتعد عنها، فإنه جل في علاه قد أرشد إلى ما يستحب للحاج ويندب، ويُحث عليه ويطلب، فقال: (وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ)(1).
وفي هذا أقوى حافز على فعل الخير في أيام الخير...
وميدان الخير رحب، وأساليبه عديدة: فمن صدقة على فقير، إلى عون لضعيف، إلى إرشاد لضال، إلى توسعة للناس في الحرم، إلى إيثار لمحتاج ومضطر.. إلى غير ذلك من خير يقدمه المرء بين يدي لقاء ربه، هذا اللقاء الذي يحتاج إلى صقل القلوب، وإخلاص النية، وتطهير النفس، والتخلية عن كل وصف مذموم يبعدنا عن الله، والتحلية بكل وصف محمود يقربنا إلى الله.
(وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)(2)، والتقوى خير زاد، ومراقبة الله ومحاسبة النفس خير وسيلة لها، والحج إن لم يكن مَطْهرة للنفس من المآثم، ومَجْلاة لها عن الأكدار، وتصفيةً لها عن الأغيار، فمتى يا صاحب اللب السليم والفعل الحكيـم تسعى إلى حال الأبرار، ومنازل الأخيـار، وصفات الأحرار ؟!
نعم متى يا ترى ؟!
الصلاة ... ومناهل المثوبة
ثانياً: إن الصلاة في المسجد الحرام هي أفضل وأعظم الصلوات أجراً على الإطلاق، فكل صلاة تصليها هناك تعدل مئة ألف صلاة فيما سواه، كما جاء ذلك في الحديث الشريف، وإذن فليس ثمة بقعة فوق الأرض ترفع منها الصلاة بأجر أعظم، وقبولٍ أسرع، وتَجَلٍّ أكبر، من الصلاة في حرم الله حول بيت الله مع وفد الله.
ومن هنا فإن الأيام التي يقضيها الحاج في مكة انتظاراً ليوم التروية، أو حتى تلك التي يقضيها بعد أيام الحج مدة بقائه في مكة إثر قضاء النسك، إنما قمة السعادة فيها في الصلاة جماعة أو فرادى، فالصلاة هناك في الحرم المكي لها لذة وحلاوة، ونقاء وطلاوة، حيث يتردد القرآن بين جنبات الحرم المكي الذي شهد في أيام النبوة ملحمة الدعوة الخالدة ...
هذه أمام عين المصلي في الحرم المكي الكعبة المشرفة التي بقيت حبيسة الوثنية دهراً طويلاً، حتى حررها رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة الفتح مما عَلِق بها من لوثات الشرك والجاهلية.
بل هذه هي باحة الكعبة التي رأت جموع المسلمين في صفين يوم أسلم عمر رضي الله عنه، وقد خرجوا بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن دعوته لقريش جهاراً نهاراً بعد إسرار واستخفاء.
ثم أليست هذه الكعبة التي جعلها الله مثابة للناس:
(جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ)(1).
أين أمان اليوم من خوف الأمس ؟!
أين كثرة اليوم من قلة الأمس ؟!
أين إمكانيات اليوم من فقر وتواضع وبساطة الأمس ؟!
معان عظيمة يدركها المصلي حول الكعبة كلما ركع وسجد، وقام وقعد، وخفق قلبه ووَجَد.
الطواف عبادة
ثالثاً: وللمسلم مدة مكثه في مكة أن يكثر من الطواف كلما سنحت له الفرصة ووجد في نفسه قوة، فالطواف صلاة، ولكنها من نوع خاص يباح فيها الكلام المباح، ويستحب فيها الدعاء المبارك، ولا تحل إلا لطاهر.
وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من طاف أسبوعاً يحصيه، وصلى ركعتين، فله كعدل رقبة أو نسمة، وما رفع رجل قدمه ولا وضعها إلا كتب له الله بها حسنة، ومحا عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة "(1).
ويقرأ – ندباً- في ركعتي الطواف سورتين من قصار السور هما: سورة الكافرون، وسورة الإخلاص(2)، فقد أثر ذلك من عمل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا لا يمنع من إطالة القراءة والقيام إن وجد في نفسه نشاطاً لذلك خاصة في الأوقات والأماكن التي يخف فيها الزحام.
رابعاً: إذا كان الحاج قارناً أو متمتعاً وجب عليه ذبح الهدي: شاةٌ أو الاشتراك مع ستة في شيء من الإبل أو البقر، ويفعل ذلك بعد الوقوف بعرفات، فإن لم يكن مستطيعاً لذلك فعليه صيام عشرة أيام: ثلاثة في الحج، وسبعة في بلده إذا رجع.
وليبادر إن لم يكن مستطيعاً للذبح الواجب إلى أن يصوم الأيام الثلاثة قبل يوم عرفات بعد أدائه للعمرة التي سيقرنها بالحج إن كان قارناً، أو سيتمتع بعدها إلى وقت الحج إن كان متمتعاً.
ولهذا فإن من الأعمال التي يقوم بها المقيم في مكة قبل يوم التروية أن يصوم ما وجب عليه إن لم يكن مستطيعاً للذبح، وبهذا يجمع بين فضيلة الحج في أشهره، والصلاة في الكعبة، والصيام في البلد الحرام.
وما أفضل هذا من عمل مضاعف الأجر مبرور !!
لكن نُنَبّه هنا إلى أن الصيام المذكور يكون بعد إحرامه بالحج إن كان متمتعاً، فالصيام قبل الإحرام بالحج لا يجزئ عمن لم يستطع ذبح الهدي، أي أنه لا يصح صومه في حال إحلاله، بل لا بد من الإحرام بنية الحج أولاً، ثم الصيام بعده.
ومن فاته صيام الأيام الثلاثة هذه قبل عرفة صامها بعد يوم النحر.
الذنوب في مكة خطيرة وكبيرة
خامساً: من الأمور التي ينبغي أن ينتبه إليها المقيم في مكة مدة إقامته الحذر كل الحذر من ركوب الخطايا والذنوب بها، فإن ذلك ـ كما يقول الإمام أبوحامد الغزالي ـ مخطر، وبالحري أن يورث مقت الله عز وجل لشرف الموضع.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما من بلد يؤاخذ فيه العبد بالنية قبل العمل إلا مكة، وتلا قول الله عز وجل:
(وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(1).
أي أنه يؤاخِذ على مجرد الإرادة.
ويقال: إن السيئات تضاعف بها كما تضاعف الحسنات.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: الاحتكار بمكة من الإلحاد، وقيل: الكذب أيضاً، وقال ابن عباس أيضاً: لأَن أذنب سبعين ذنباً بركَيّة (وهي موضع بين الطائف ومكة) أحب إلي من أن أذنب ذنباً واحداً بمكة.
وإن شدة الخوف من الوقوع في الذنب بمكة دفع بعض الصالحين إلى عدم المجاورة فيها.
سادساً: والنظر إلى البيت الحرام عبادة، والجلوس في الحرم عبادة، والإكثار من الاستغفار عبادة، وذكر الله عبادة، وكل ذلك مضاعف الأجر، فلا ينبغي أن يغفل الحاج عن ذلك باللهو في الكلام، أو الجدال مع الناس، أو الانصراف كلية إلى الأسواق، أو التعلق بمتاع الحياة الدنيا، أو الاهتمام الزائد بالرفاهية، فما عند الله خير وأبقى، والحج هو العج والثج، والحاج هو التَّفِل الشعث.
ربنا تقبل منا، وأرنا مناسكنا، وتب علينا... يا أرحم الراحمين.
 
أم إسماعيل (هاجر)
هذه هي قصة أم إسماعيل هاجر... يحسن بنا أن نسوقها هنا كاملة موضحة بين يدي الحاج في أيام النسك العظيم.
ولا يكاد الحاج في حل ولا ترحال تمر به لحظة إلا ويذكر أم إسماعيل زوجة أبي الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، تلك المرأة الصالحة المؤمنة التي ارتبط اسمها بالصفا والمروة وزمزم ومكة وإبراهيم والعرب، بعد أن ضربت في التوكل على الله والامتثال لأمره أروع الأمثلة وأعلاها.
امرأة من أرض الكنانة
و"هاجر" في الأصل جارية قبطية من مصر، تؤكد الروايات المتعددة أن ملك مصر قد وهبها لسارة زوجة إبراهيم عليه السلام، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
ـ لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كِذْبات: اثنتان منهن في ذات الله، قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ)(1) وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)(2) وقال:
بينا هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل للجبار: إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه وسأله عنها، فقال: من هذه؟
قال: أختي.
فأتى سارة فقال: يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني.
فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأُخذ، فقال: ادعي الله لي، ولا أضرك، فدعت الله فأُطلق.
ثم تناولها الثانية، فأٌخذ مثلها أو أشد، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فأٌطلق. فدعا بعض حجبته فقال:
ـ إنكم لم تأتوني بإنسان وأتيتموني بشيطان !!
فأخدمها هاجر.
فأتته ـ أي إبراهيم ـ وهو قائم يصلي، فأومأ بيده: مَهيم؟
فقالت: رد الله كيد الكافر ـ أو الفاجر ـ في نحره، وأخدم هاجر.
قال أبوهريرة رضي الله عنه: فتلك أمكم يا بني ماء السماء(1).
الرحيل إلى فلسطين
ثم إن إبراهيم عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها، ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجر القبطية أيضاً... فلما استقر في فلسطين سأل الله ذرية طيبة على كبر السن وبلوغ الشيب فبشّره الله بذلك.
وقالت سارة لإبراهيم عليه السلام: إن الرب قد أحرمني الولد، فادخل على أمتي هذه لعل الله يرزقني منها ولداً.
فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم، فحملت منه، قالوا: فلما حملت ارتفعت نفسها، وتعاظمت على سيدتها، فغارت منها سارة، فشكت إلى إبراهيم ذلك، فقال لها:
ـ افعلي بها ما شئت، فخافت هاجر فهربت، فنزلت عند عين هناك.
فقال لها ملك من الملائكة: لا تخافي، فإن الله جاعل من هذا الغلام الذي حملت خيراً، وأمرها بالرجوع.
ولما رجعت هاجر وضعت إسماعيل عليه السلام، ويقولون: إن عُمُر إبراهيم الخليل آنذاك كان ستاً وثمانين سنة.
ومن فلسطين إلى مكة
واشتدت غيرة سارة بعد ولادة هاجر، فطلبت من الخليل عليه السلام أن يغيّب وجهها عنها... فأمره ربه أن يسير بها وبولدها حتى وضعهما حيث مكة اليوم، وكان الولد رضيعاً، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما وترك لهما جُراباً فيه تمر وسِقاءً فيه ماء.
ثم قفّى إبراهيم عليه السلام منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل.
فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟؟ فقالت ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها... وهي تتكلم، فقالت:
ـ آلله أَمَرك بهذا ؟
ـ قال: نعم. قالت:
ـ إذن لا يضيعنا. ثم رجعت...
فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه:
ـ (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
وبدأت المأساة
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال ـ يتلبط ـ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه.
فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحداً؟ فلم تَرَ أحداً، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت بطن الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي.
ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً؟ فلم تَرَ أحداً، فعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
ـ " فلذلك سعى الناس بينهما ".
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، فقالت: صه, تريد نفسها، ثم تسمّعت فسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعتَ، إن كان عندك غوث، فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه ـ أو قال: بجناحه ـ حتى ظهر الماء، فجعلت تحوّضُه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرِف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
ـ " يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم ـ أو قال: لو لم تغرف من    الماء - لكانت زمزم عيناً معيناً "، قال: فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك: لا تخافي الضَّيْعَة فإن ها هنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.
القبيلة العابرة ... جرهم
وكان مكان البيت مرتَفَعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من كَداء، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً فقالوا:
ـ إنّ هذا الطائر ليدور على ماء، لَعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَرْياً أو جريين، فإذا هم بالماء، فرجعوا، فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء.
فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟
قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء عندنا.
قالوا: نعم.
يقول ابن عباس: يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
ـ " فألفى ذلك أم اسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم، حتى كان بها أهل أبيات منهم ".
إسماعيل... يكوّن أسرة
وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنْفَسهم، وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم.
وماتت أم اسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج اسماعيل يطالع تركته ـ وكان يتردد عليهم ـ فلم يجد اسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا.
ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم؟
فقالت: نحن بشرٍّ، نحن في ضيق وشدة، وشكت إليه،
قال: إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه.
فلما جاء اسماعيل كأنه آنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد؟
فقالت: نعم جاء شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا في جهد وشدة.
قال: فهل أوصاك بشيء؟
قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول لك: غير عتبة بابك.
قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، فالحقي بأهلك وطلقها.
وتزوج اسماعيل من جُرْهم أخرى، ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد، فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه؟
فقالت: خرج يبتغي لنا.
قال: كيف أنتم؟
فقالت: نحن بخير وسعة، وأَثنتْ على الله عز وجل.
فقال: ما طعامكم؟
قالت: اللحم ـ تعني الصيد ـ.
قال: فما شرابكم؟
قالت: الماء ـ تعني زمزم ـ.
قال إبراهيم: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، وأوصاها أن تقول لإسماعيل: ثبت عتبة بابك.
وجاء إسماعيل بعد ذهاب أبيه إبراهيم وعودته إلى بلاد الشام، وأخبرته امرأته بأمر الرجل الكبير الذي لم تعرف شأنه، حتى أعلمها زوجها إسماعيل أنه أباه، وأنه يأمر بإمساكها والإحسان إليها.
هذا هو الجزء الأول من قصة أم إسماعيل هاجر، نقلناه عن ابن كثير رحمه الله، وهو يبرز الصلة الكبيرة والعميقة بين هاجر وإسماعيل وبين مكة وزمزم والصفا والمروة والسعي كما قدمنا.
ويبقى أمام الحاج وهو مقبل على أفعال الحج بعد يوم التروية أن نروي  له بقية قصة أم إسماعيل لتكتمل الصورة أمام ناظريه ويقف على حقيقة تاريخية حية متجددة، فنقول:
وبقيت هاجر مع ولدها إسماعيل في مكة حتى شب وترعرع، وكان إبراهيم عليه السلام ـ وهو يقيم مع زوجته الأخرى سارة في أرض الشام ـ يتردد على هاجر وولدها، كلما سنحت له الفرصة بذلك.
فلما بلغ معه السعي
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه:
ـ (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ)(1).
قال مجاهد: أي لما شب إسماعيل وصار يسعى في مصالحه كأبيه، وارتجل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل، أُمر إبراهيم بذبح ولده الذي أفرده عن أمر ربه، وهو بِكْره ووحيده الذي ليس له غيره.
وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعاً : " رؤيا الأنبياء وحي في المنام "(2).
فأجاب إبراهيم أمر ربه، وامتثل لأمره، وسارع إلى طاعته... ولكنه عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسراً، ويذبحه قهراً:
ـ (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) فبادر الغلام الحليم، سر والده الخليل إبراهيم، فقال بكل البر والنجابة، وغاية التسليم لله والإنابة:
_ (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
 
وروى عن أبي هريرة قوله لكعب الأحبار: أفلا أخبرك عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: إنه لما رأى ذبح ابنه، قال الشيطان: إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبداً...  فخرج إبراهيم بابنه ليذبحه، فذهب الشيطان فدخل على زوجة إبراهيم.
فقال: أين يذهب إبراهيم بابنك؟
قالت: غَدَا به لبعض حاجته.
قال: فإنه لم يَغْدُ بهِ لحاجته، إنما ذهب به ليذبحه.
قالت: ولم يذبحه؟
قال: زعم أن ربه أمره بذلك.
قالت: فقد أحسن أن يطبع ربه.
أين يذهب بك أبوك؟!
فذهب الشيطان في أثر إبراهيم وإسماعيل فأدركهما.
فقال للغلام: أين يذهب بك أبوك؟
قال: لبعض حاجته.
قال: فإنه لا يذهب بك لحاجته، ولكنه يذهب بك ليذبحك.
قال: ولم يذبحني؟
قال: يزعم أن ربه أمره بذلك.
قال: فوالله لئن كان الله تعالى أمره بذلك ليفعلن... قال: فيئس منه فتركه.
ولحق بإبراهيم عليه السلام.
فقال: أين غدوت بابنك؟
قال: لحاجة.
 
قال: فإنك لم تَغْدُ به لحاجة وإنما غدوت به لتذبحه.
قال: ولم أذبحه؟
قال: تزعم أن ربك أمرك بذلك.
قال: فوالله لأفعلن، قال فتركه ويئس أن يطاع.
قال الله تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي فلما استسلما لأمر الله تعالى، وعزما على ذلك، وتلّه: ألقاه على وجهه، بحيث أصبح جبينه على الأرض وقفاه مما يلي أباه.
وهنا يذكر أن إسماعيل قال لأبيه وهو يستعد للذبح: يا أبت أُشددْ وثاقي، وكُبّ وجهي، واشحذْ سكيني، وشمّر ثيابك، واخفِ خبري عن أمي حتى لا تجزع.
وتشهد الولد للموت، وانتصب للذبح، وقام الوالد بسكينه يطأ بقدم الحب الراسخ لله كل نوازع الأبوة وعواطفها، حتى وضع حد السكين على قفا ولده، ثم جرها، فإذا بها لا تقطع، وإذا بصوت يناديه:
ـ (يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا).
فحصل المقصود من اختبارك وطاعتك، ومبادرتك إلى أمر ربك، وبَذْلُك ولدك للقربان، كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالُك مبذول للضيفان، ولهذا قال تعالى:
ـ (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ).
وفديناه بذبح عظيم
وزيادة في تكريم الله له، وإظهاراً لقبول المولى عز وجل استسلام إبراهيم وابنه، فدى الله إسماعيل بكبشٍ عظيم يذبحه إبراهيم مكان ولده.
ـ (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).
فأرسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولده الموثق وأطلق سراحه، واتبع الكبش، فأخرجه إلى الجمرة الأولى فرماه بسبع حصيات، ثم أفلته عندها، فجاء إلى الجمرة الوسطى فأخرجه عندها، فرماه بسبع حصيات، ثم أفلته، فأدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات، فأخرجه عندها، ثم أخذه فأتى به المنحر من منى، فذبحه. يقول ابن عباس:
ـ فوالذي نفس ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة حتى وحش، أي يبس.
ويقال: إن إبراهيم إنما رمى عند الجمرات الثلاث الشيطان، كلما أدركه ووسوس له رماه بسبع حصيات يبعده عنه ويرجمه، ولذلك خلد الله رجم إبراهيم للشيطان برجم الحجاج في نفس الأمنكة التي اعترض فيها إبراهيم عليه السلام، وجعل ذلك من الحجاج عملاً يتكرر كل عام في حركة إيمانية، يستشعر فيها المؤمن لذةً وعاطفة، وحرارة وحماساً، ليبقى دائم الاستعداد للصراع مع الشر ومع إبليس وجنوده، الذين ليس لهم إلا الرجم والهوان عند المؤمن.
ويعود إبراهيم بولده إسماعيل عليهما السلام، وقد قرت عين الوالد بالولد، وعين الولد بالقبول، فيرجعان إلى هاجر وقد ثبت الله موقفها عند امتحان ولدها، كما ثبت قلبها من قبل عندما وُضعت في الأرض المنقطعة.
ويقول أهل التوراة: إن إبراهيم أمره الله بأن يختن ولده إسماعيل، وكل من عنده من العبيد وغيرهم، فختنهم، وذلك بعد مضي تسع وتسعين سنة من عمره، فيكون عمر إسماعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة.

الأمر ببناء البيت
ثم لبث إبراهيم عن ولده ما شاء الله له أن يلبث، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْري نبلاً له تحت دوحة، قريباً من ماء زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، من الترحيب والمعانقة وحسن الاستقبال، ثم قال له أبوه:
ـ يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر.
قال: فاصنع ما أمرك به ربك.
قال: وتعينني؟!
قال: وأُعينك.
قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها.
قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحَجَر، فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان:
ـ ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
دعاوى باطلة ...
وقد حاول اليهود ـ لعنهم الله ـ أن يدعوا أن الذبيح الذي أمر إبراهيم بذبحه إنما هو ولد إبراهيم إسحاق لا إسماعيل، وإنما حملهم على هذا حسد العرب، فإن إسماعيل أبو العرب الذين يسكنون الحجاز، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسحاق والد يعقوب ـ وهو إسرائيل ـ الذي ينتسب إليه اليهود، فأرادوا أن يجرّوا هذا الشرف إليهم، فحرفوا كلام الله، وزادوا فيه، وهم قوم بهت، ولم يقروا بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وقد قال بهذا القول طائفة من السلف، أخذوا هذا القول عن كعب الأحبار، أو من صحف أهل الكتاب.
ولكن ابن كثير يقول في البداية والنهاية وهو يفند هذا القول ويبيّن زيفه:
ـ وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم، حتى نترك لأجله ظاهر الكتاب العزيز، ولا يفهم هذا من القرآن، بل المفهوم، بل المنطوق، بل النص عند التأمل على أنه إسماعيل.
وما أحسن ما استدل به ابن كعب القرظي على أنه إسماعيل وليس إسحاق، من قوله تعالى: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ).
قال: فكيف تقع البشارة بإسحاق وبأنه سيولد لإبراهيم، ثم يؤمر بذبح ولده الذي لم يكن ولد بعد، فدل هذا على أن الملائكة بشّرته بإسحاق، وأنه في نفس الوقت أمر بذبح ولده الموجود، ولم يكن ثمة ولد موجود إلا إسماعيل.
هذا وقد تعددت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وكثير من التابعين أنه: إسماعيل.
وقد روي أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى رجل كان عنده بالشام، كان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه، وكان يُرى أنه من علمائهم، قال: فسأله عمر:
ـ أيُّ ابْنَيْ إبراهيم أمر بذبحه؟
قال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن اليهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه والفضل الذي ذكره الله منه، لِصَبْره لما أُمر به.
والحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، ونسأله سبحانه أن يرينا الحق حقاً ويثبتنا عليه، ويميتنا عليه... وأن يرينا الباطل باطلاً، ويلهمنا اجتنابه والابتعاد عنه.
 
حديث عن الكعبة
ومن المفيد للمسلم ـ وهو في رحاب بيت الله الحرام ـ أن يحيط علماً ببعض الفوائد المتعلقة بالكعبة المشرفة، مما يخص كسوتها التي نراها تزهو بها، بعدما بلغت من الكمال والجمال الشيء العظيم ... ومما يخص الصلاة في داخلها إن أمكنه ذلك وقد أصبح هذا منالاً عزيزاً ... ومما يخص بعض الأحاديث التي وردت في شأن هدمها وما ستتعرض له من مآسٍ وأهوال آخر الزمن، إلى غير ذلك من الفوائد التي سنتعرض لها على النحو التالي:
مَنْ أول مَنْ كسى الكعبة ؟
أولاً: كسوة الكعبة: وقد أطنب الإمام ابن حجر في الفتح(1) في استقصاء الأقوال الدالة على أول من كسى الكعبة، وأنواع الكسوة التي استخدمت في ذلك، ثم أجمل تلك الأقوال بخلاصة مفيدة يقول فيها: فحصلنا في أول من كسى الكعبة مطلقاً ثلاثة أقوال: إسماعيل وعدنان وتبع، ويحتمل أن يكون إسماعيل أول من كساها مطلقاً أي كسوة كانت، ثم كان أول من كساها الأنطاع (الجلود) عدنان، ثم الوصائل (وهي ثياب حبرة من عصب اليمن) تبع.
وأما أول من كساها الديباج فقد وردت في ذلك ستة أقوال منها: ما رواه الفاكهي في كتاب مكة قال: أصاب خالد بن جعفر بن كلاب لطيمة(1) في الجاهلية فيها نمط من ديباج، فأرسل إلى الكعبة، فنيط عليها.
وروى الدارقطني: أن أول من كسى الكعبة الديباج نتيلة بنت حنان والدة العباس بن عبدالمطلب، كانت أضلت العباس صغيراً فنذرت إن وجدتَه أن تكسو البيت، فرده عليها رجل من جذام، فكست الكعبة ثياباً بيضاء.
وروى الواقدي عن إبراهيم بن أبي ربيعة قال: كُسي البيت في الجاهلية الأنطاع، ثم كساه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية، ثم كساه عمر وعثمان القَباطي، ثم كساه الحجاج الديباج.
وسبب تغيير كسوة الكعبة في عام الفتح ما ذكره الفاكهي عن سعيد بن المسيّب قال: لما كان عام الفتح أتت امرأة تجمّر الكعبة، فاحترقت ثيابها، وكانت كسوة المشركين، فكساها المسلمون بعد ذلك.
وكسى الكعبة ابنُ الزبير بالديباج بعد إعادة عمارتها، لكن لم يداوم على كسوتها الديباج، ثم قام الحجاج بأمر عبدالملك بن مروان بكسوتها بالديباج أيضاً كسوة ولم يكن أوفق منها.
وذكر أن المأمون كساها الديباج الأبيض واستمر بعده، وكسيت في أيام الفاطميين الدبياج الأبيض كذلك، ثم كساها محمد بن سبكتكين ديباجاً أصفر، وكساهـا الناصر العباسي ديباجاً أخضر، ثم كساها ديباجـاً أسود فاستمر حتى اليوم ...
من وراء الفيافي والقفار
ويضيف ابن حجر قوله: ولم تزل الملوك يتداولون كسوتها إلى أن وقف عليها الصالح إسماعيل بن الناصر في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة قرية في نواحي القاهرة يقال لها ببسوس...
وبقيت كسوتها ترسل إليها من مصر في موكب مهيب تهتز له المشاعر، حتى أنشأت الحكومة السعودية مصنعاً خاصاً في مكة، لصنع الكسوة الطيبة، ووفرت له كافة الإمكانات المطلوبة، لتكون كسوة الكعبة على هيئتها البهية التي نراها عليها اليوم.
وجرت العادة أنه قبل يوم النحر بقليل يجري رفع أستار الكعبة إلى وسطها تقريباً، لتغطي نصفها الأسفل بطانتها البيضاء، فتبدو وكأنها محرمة مع المحرمين، حتى إذا كانت ليلة النحر جرى استبدال كسوتها بكسوة جديدة...
وقد كانت في الجاهلية تكسى يوم عاشوراء من كل عام.
هدايا الملوك !!
وأما بالنسبة للكسوة القديمة المستبدلة كل عام، فإنها تحفظ في غاية التكريم، لتهدى إلى الملوك والزعماء، وتعرض في المتاحف والقصور...
وقد ذكر الفاكهي في كتاب مكة أن شيبة بن عثمان الحجبي (صاحب البيت الحرام) قال لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تجتمع عندنا فتكثر، فننزعها، فنحفر أبياراً فنعمقها وندفنها، لكي لا تلبسها الحائض والجنب، قالت: بئس ما صنعت، ولكن بعها فاجعل ثمنها في سبيل الله وفي المساكين.
كما روى الفاكهي عن رجل من بني شيبة قال: رأيت شيبة بن عثمان يقسم ما سقط من الكعبة على المساكين.
وأخرج ابن أبي نجيم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه كان ينزع كسوة البيت كل سنة، فيقسمها على الحجاج.

ودخل رسول الله r البيت
ثانياً: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة مرة واحدة عام الفتح، ثم حج ولم يدخلها ... وليس دخولها من شعائر الحج ولا العمرة، وإنما هو مستحب لمن يستطيع ذلك دون إيذاء أحد، وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها ـ كما في رواية الترمذي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندي وهو قرير العين، طيب النفس، فرجع وهو حزين، فقلت له، فقال:
ـ إني دخلت الكعبة، ووَدِدْتُ أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي...
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأغلقوا عليهم، فلما فتحوا كنت أول من وَلَج، فلقيت بلالاً فسألته:
ـ هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟
قال: نعم، ركعتين بين السارتين اللتين عن يسارك إذا دخلت، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين(1).
حجر إسماعيل من البيت
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأدخلني الحجر (حجر إسماعيل) فقال لي:
ـ " صلّي فيه إن أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت، فإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه عن البيت "(2).
وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كبّر في نواحي البيت لما دخله(3). كما وردت في روايات أخرى أنه دعا داخله، وقد أخرج البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعاً قال:
ـ " من دخل البيت دخل في حسنة وخرج مغفوراً له ".
الذهب والفضة ... تكريم وزينة
ثالثاً: كانوا في الجاهلية يهدون إلى الكعبة الهدايا النفيسة ذات الثمن الغالي.
وحكى بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في الكعبة يوم الفتح ستين أوقية، فقيل له: لو استعنت بها على حربك. فلم يحركه.
وقد أراد عمر رضي الله عنه ذات مرة في خلافته أن يقسم مال الكعبة في الفقراء والمساكين، فلم يوافقه على ذلك شيبة حاجب الكعبة، وقال له:
ـ إن صاحبيك (يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه) لم يفعلا.
فقال: هما المرآن أقتدي بهما.
ومن هنا استدل بعض العلماء كالتقي السبكي على جواز تعليق قناديل الذهب والفضة في الكعبة وتحلية الكعبة بهما، وذلك لأن للكعبة من التعظيم ما ليس لبقية المساجد، بدليل تجويز سترها بالديباج والحرير، وبعدم إنكار السلف ذلك.
رابعاً: ورد الحث على الاستكثار من الطواف بهذا البيت والعناية به، قبل أن يأتي يوم يتمكن فيه بعض أعدائه ـ وما أكثرهم منذ القديم ـ من هدمه والعياذ بالله !!
ولئن لحق الهلاك بأبرهة وفيله قبل أن يهدم الكعبة، ولئن وردت بعض الروايات تذكر خسفاً يحل بأول وآخر الجيش الذي يغزو، فإن هذا كله مختوم بمحاولة أخيرة يقوم بها رجل وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
ـ " كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً "(1) وفي رواية أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة "(2).
ومن هنا يقول علي كرم الله وجهه: استكثروا من الطواف بهذا البيت، قبل أن يحال بينكم وبينه.
هذا طرف من الأمور المتعلقة بالكعبة، زادها الله تشريفاً وتعظيماً، سردناه للحاج ليكون على اطلاع ومعرفة ببعض المعلومات الضرورية عن أقدس مكان وأطهره.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين