سيدنا يعقوب عليه السلام مربياً

قص الله سبحانه وتعالى علينا مواقف بعض الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مع أولادهم، وذلك مثل نوح وإبراهيم وداود، وزكريا وقصة السيدة مريم وابنها المسيح عيسى... ولكن أكثر القصص تفصيلا وحوارا بين الأب وأبنائه هي قصة يعقوب عليه السلام، وجاءت مفصلة في سورة يوسف عليه السلام.

تستوقفنا في قصة يعقوب أمور كثيرة، فقد كان له عليه السلام عدد كبير من الأبناء...وكان له مواقف تربوية كثيرة ينبغي التوقف عندها، نوجز أهمها:

1 التوصية بالتوحيد، فالتوحيد أساس التربية الناجحة، وسبيل الخير والفلاح في الدنيا والآخرة، ولم يلتفت يعقوب عليه السلام في وصيته لهم إلى شيء من حطام الدنيا، قال تعالى: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)/ البقرة.

2 الصراحة مع الأب، فلا سر بين الولد وأبيه، ولذلك قص يوسف عليه السلام على أبيه منامه.

3 التنبيه على خطورة الحسد، وهو من الأمراض النفسية التي تسبب كثيرا من الجرائم، ولذلك طلب سيدنا يعقوب من يوسف أن يكتم قصة منامه عن إخوته، قال تعالى: (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5).

4 لم ينسب يعقوب عليه السلام الشر لأبنائه، بل نسبه للشيطان الذي يمرغ العلاقات الإنسانية بالوحل والقطيعة، فهو المسبب الأساسي للشر بسبب عداوته للإنسان.

5 التعبير الإيجابي والتفاؤل ببعض الإشارات الغيبية كما في منام أهل الحق، وتعبير الرؤيا بشكل إيجابي مفرح: (وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6).

6 هنالك جو أسري دافئ في أسرة يعقوب عليه السلام يسمح بالحوار بين الأبناء وأبيهم، ومناقشتهم لقراره بمنعه إرسال يوسف عليه السلام معهم، وما زالوا به حتى عدل عن ذلك وأرسله معهم، قال تعالى: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11).

7 حاجة الأبناء للتمتع بالطبيعة واللعب فيها (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12). والرتع للإنسان يقابل الرعي للحيوان، بمعنى أرسله معنا يأكل ويلعب في أحضان الطبيعة... وهذا يؤكد الحاجة للراحة والنزهة والاستجمام.. وأن لا تكون الحياة عملا متواصلا، فإن الله لا يمل حتى تملوا كما في الحديث.

وقد وافق يعقوب عليه السلام على إرسال يوسف معهم لإقراره بذلك.

8 يجب أن يتعهد الأولاد أمام أبيهم بحفظ أخيهم أثناء الرحلة، ولا يذهبوا دون تعهد. (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)

9 من الطبيعي أن يخاف المرء على ابنه من حوادث الدهر، والأخطار الخارجية المحتملة كالافتراس مثلا، وهذا من الفطرة، قال تعالى: (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13).

10 ينبغي قبول حجة الآخر إن كانت عقلية، رغم عدم اطمئنان القلب إليها أحيانا، فقد اضطر يعقوب عليه السلام لقبول حجتهم على مضض حين قالوا: (لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون).

11 المدرسة اليعقوبية في التربية تقوم على السلم وحقوق الإنسان، ونبذ أساليب العنف والتعذيب والتحقيق بأساليب لا إنسانية في الجريمة، أو اتهام الآخرين بشكل عنيف واستفزازي، فهي غاية في الرقي التربوي والحضاري، وقد تجلى ذلك بعدم استعمال يعقوب عليه السلام الضرب، أو التحقيق بصورة مروعة مع أولاده في العملية التربوية، مع علمه بكذبهم، وهذه قمة الأخلاق الرفيعة وحقوق الإنسان، فلا تعذيب في المنهج اليعقوبي ولا ضرب لاكتشاف الحقيقة، بل ترك الأمر لله تعالى حتى تنجلي الأمور.

وهذا سبق تربوي فريد، جاء به يعقوب عليه السلام قبل أن تقول التربية الحديثة بمنع الضرب للأولاد في البيوت والمدارس.

12 لا بد من احترام المتهم، وتجلى ذلك بأدب يعقوب عليه السلام مع أولاده، حيث قال: (بل سولت لكم أنفسكم أمرا) ولم يقل كذبتم أو نحو ذلك.

13 العاطفة الأبوية العميقة المنضبطة بقوة صبر يعقوب عليه السلام لفقد ابنه، حتى تسببت بفقده بصره عليه السلام.

14 لا بد أن يكون الصبر جميلا (فصبر جميل)، والصبر الجميل يكون بالتوكل على الله تعالى، وهو غير مصحوب بعبارات السخط والغضب والتأفف من قضاء الله وقدره..

15 لا بد من الاستعانة بالله عند المواقف الصعبة، فهو السند الحقيقي لعبده المؤمن عند الشدائد (والله المستعان على ما تصفون).

16 يجب تشجيع المذنب على إصلاح سلوكه بإعطائه فرصة، فقد أعطى يعقوب عليه السلام أولاده فرصة أخرى للإصلاح والثقة بهم، وذلك حين أرسل معهم أخاهم لأبيهم بنيامين معتمدا على الله، كما قال تعالى: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ ۖ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64).

وهكذا في حياتنا يجب أن نمنح المخطئ فرصة العفو والتصحيح، ولا نتخذ منه موقفا سلبيا طول حياته كلها، فيتحول إلى مجرم خطير.

17 جدد يعقوب عليه السلام أخذ الميثاق عليهم، وفي ذلك تأكيد وإشعار بالمسئولية الكبيرة: (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ ۖ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66).

18 علاقة العبودية الصحيحة مع الله تعالى هي سبيل نجاة العبد في الدنيا والآخرة، وهذا لا يمنع من أخذ الأسباب، بل يقتضيها، ولذلك حذرهم أبوهم من الحسد، وعلمهم حيلة عملية لاتقاء شر الحاسدين، وبين أنه لا واسطة للمرء عند ربه إلا عمله الصالح، وأن الأمور كلها بين يديه سبحانه وتعالى، ولا يكون التوكل إلا عليه سبحانه وتعالى، قال تعالى: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67).

19 من أسس التربية السليمة: التفاؤل والأمل والثقة بالله في أحلك الظروف، وهذا مهم جدا للتربوي، فلا يأس مع الإيمان، ولا حياة مع اليأس، قال تعالى: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83).

20 التجلد وكظم الغيظ في المواقف الصعبة، وذلك رغم معاناة يعقوب عليه السلام النفسية وفقده لبصره من البكاء، قال تعالى: (وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84).

21 حاجة المربي إلى بث شكواه، والمربي الناجح قد يكتفي بأن يبث الشكوى لله وحده، قال تعالى: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86).

22 وجوب التحلي بالأمل مع اتخاذ الأسباب في البحث عن الحقيقة، والتفاؤل هو صفة المؤمنين، واليأس من صفات الكافرين، قال تعالى: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87).

23 تأكيد يعقوب عليه السلام لأمر نبوته، وبشارة الله له بشأن اجتباء يوسف وعلو منزلته، قال تعالى: (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96).

24 الاستغفار للمذنب التائب أمر تربوي يساعد على إصلاح المجتمع، قال تعالى: (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98).

25 يجب تكريم الأبوين وتعظيمهم، ويحسن أن يكافئ الأبوان هذا بتكريمهم للابن وتعظيمه، وبخاصة في المناسبات العظيمة، قال تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100).

الخلاصة:

إن في المنهج التربوي لسيدنا يعقوب عليه السلام نبراسا للمربين من الآباء والمعلمين عبر التاريخ، وقصة يوسف مليئة بالجوانب والعبر التربوية والتعليمية، وكذلك بقية القصص القرآني، بل إن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما أساس التربية الناجحة السليمة الراشدة.

وما من أسلوب سليم في التربية والتعليم تهتدي إليه البشرية عبر تاريخها الطويل إلا وله أساس في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

نسأل الله أن يلطف بعباده، وينفعنا بقصص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وما فيهما من إرشادات تربوية قويمة، وأن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين