الوصول إلى البلد الحرام

أم القرى... ذكريات وأحداث
 
الشيخ : عبد الله نجيب سالم
بين أغلب المواقيت ومكة مسافة قصيرة غالباً، ما عدا ميقات أهل المدينة، ولذا فلا يكاد الحاج يحرم ويتوجه إلى مكة بلد الله الحرام حتى يصلها بعد وقت قصير، في غمرة بحر لجي من الأحاسيس والمشاعر.
والوصول إلى مكة المكرمة يعني بالنسبة للمسلم المحب أشياء كثيرة جداً...
فمكة هي أم القرى، وهي البلدة التي حرمها الله سبحانه على لسان نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام، وهي البلدة التي يَبُكّ (أي يدق ويذل) بها الله أعناق الجبابرة العتاة.
مكة هي البلدة التي شهدت أول نداء الوحي، عندما نزل على رسول الله  في غار حراء، بقول الحق سبحانه:
- (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(1).
 ثم استمر جبريل يتردد على رسول الله  سراً وجهراً، ليلاً ونهاراً  حتى خرج  مهاجراً  إلى المدينة.
مكة هي البلدة التي ولد فيها رسول الله ، وترعرع في بيوتها وطرقها، ونشأ مع شبابها وفتيانها، واحتفظ لنفسه بأحلى الذكريات عن عمه أبي طالب، وجده عبد المطلب، وأمه آمنة، ومرضعته حليمة، وحاضنته أم أيمن... وأمه من بعد أمه فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب.
مكة هي البلدة التي بدأت منها الدعوة إلى التوحيد، وفيها نشأت جحافل المؤمنين وتكونت، ومن أبنائها كان المهاجرون الأوائل الذين لا يعدلهم في إيمانهم ولا سبقهم ولا أثرهم في الإسلام شيء أبداً‍..
ألم تر عيون مكة مصعب بن عمير أنضر شبابها يخلع الدنيا ويفر إلى الله، ألم تسمع بطحاء مكة صرخات بلال وهو يتلقى بصدره العاري أصناف العذاب ويردد: أحد أحد، ألم تكتو مشاعر مكة مع خباب المستضعف الذي تحمّل ظهره كياتٍ حامية من سيدته لترده عن دينه... ألم تكن مكة أولاً وآخراً رغم كل شيء بلد الحب والأماني للعاشقين والعابدين والركع السجود.
عزاء خاص لمحب واله
نعم إذا لاحت بيوت مكة لعيون الحجيج، وبدت ملامحها لنواظرهم تردد في خواطرهم مبلغ الحب العظيم، الذي كان يكنه رسول الله  لمكة... هذا الحب الغامر لم يكتُمْه النبي  لحظة خرج مغادراً مكة مهاجراً  مع صاحبه الصديق أبي بكر تحت ضغط المشركين واضطهادهم، فقد ورد أنه عليه السلام وقف خارج مكة ثم نظر إليها نظرة محب أجبر على فراق حبيبه، دون إرادة منه ولا رغبة، ثم قال لها بحسرة وأسى:
ـ " ما أطيبك من بلد‍ والله لأنت أحب بلاد الله إلي.. ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت "(1)
ومن هنا جاء القرآن الكريم معزياً  ومواسياً... يَعِدُ الرسول  بالعودة إلى موطنه الذي فارقه، والرجوع إلى البلدة التي أحبها من كل قلبه:
(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)(1).
وهكذا... فإن ذكريات مكة كثيرة، وذاكرتها حافظة قوية لا تنسى أبداً‍!..
إن العواطف تجيش، والقلوب تهتز، والنفوس تضطرب فرحاً كلما دنت خطوة بعد خطوة من بلد الله الحرام.
الاغتسال سنة
ولهذا فلا غرو إذا كان دخول مكة قد حظي في الشريعة الإسلامية بكل عناية واهتمام، ومن ذلك استحباب الاغتسال لدخول مكة زيادة في النظافة والطهارة، سواء كان المحرم طاهراً أم كانت المحرمة  حائضاً أو نفساء، كما يستحب مكة نهاراً، وأن يكون دخوله للبلد ـ إن أمكنه ـ من أعلاها المعروف بباب المعلى، وذلك اقتداء برسول الله .
حرمات وتحذير
وإن مما يذكره الحاج ساعة دخوله البلد الحرام حديث رسول الله   يوم افتتح مكة حيث قال:
- " لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا، فإن هذا بلد حرّم الله يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولا لأحد بعدي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا مَنْ عرّفها، ولا يختلى خلاها... فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لا بد منه لقَيْنهم ولبيوتهم. قال عليه الصلاة والسلام: إلا الإذخر "(1)
وإذن فإن من أكبر الكبائر إخراج هذا البلد عن حرمته التي حرّمه الله بها وميزه عن سواه،... وإن استحلال القتال فيه، أو ترويع الآمنين، أو إثارة الفتن، أو بث الفرقة فيه من أكبر دواعي غضب الله عز وجل وسريع نقمته.
ولنتبصر قول الحق سبحانه عن البلد الحرام:
(وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(2) لنرى كيف توعد الله سبحانه من ارتكب في البلد الحرام ظلماً، أو أرادة مجرد إرادة، بعذاب عاجل أليم... وقد نص الحديث النبوي على صورة من صور الإلحاد بظلم في البلد الحرام قد لا تخطر على بال... وذلك في معرض تحريم أي إلحاد فيه... وهي صورة احتكار الطعام، فقال عليه السلام:
- " احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه "(3).
بل وقد تنزه بعض الصالحين عن اللغو ورفع الصوت ونحو ذلك فيه، خوفاً من الوقوع في المخذور أو النيل من حرمة الحرم، فقد أخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد قال: كان لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما فسطاطان، أحدهما في الحل، والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يصلي صلى في الذي في الحرم، وإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الذي في الحل، فقيل له فقال:
ـ نُحدَّث أن من الإلحاد فيه: لا والله، وبلى والله.(1)
ومن قبيل تعظيم البلد الحرام مكة كره الإمام مالك رحمه الله المجاورة بمكة خشية مضاعفة السيآت إن وقعت،  لأن لمكة مزية خاصة، وهي:
أن الحسنات تضاعف لفاعلها فيها، وكذلك السيئات تضاعف على مرتكبها فيها، يقول مجاهد: تضاعف السيآت بمكة كما تضاعف الحسنات.
تجربة ودرس قاس لأصحاب الفيل
ومكة بلد الله يحرسها الله سبحانه بعينه التي لا تنام، ويعجل العقوبة بالدنيا لمن همّ فيها بإفساد في الأرض، كما أخرج  ابن أبي حاتم عن الربيع ابن أنس عن بعض المهاجرين والأنصار أنهم أخبروه: أيما أحدٍ أراد به (أي بالحرم) ما أراد أصحاب الفيل عجل لهم العقوبة في الدنيا.(2)
ولعل من المفيد أن نتذكر جميعاً قصة أصحاب الفيل، الذين حدثتهم أنفسهم بغزو مكة وهدم البيت العتيق، فخرجوا تحت إمرة نجاشيّهم أبرهة، وحشدوا جموعهم أعتدتهم، وساقوا معهم الفيل أمامهم، حتى إذا بلغوا مشارف مكة أرسل الله عليهم جنداً من جنده: طيوراً من السماء تحمل العذاب الماحق، فلم يَبْق منهم ديّار ولا نافخ نار، وقد خلّد الله هذه القصة بقوله:
 (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ  فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ)(1).
هذه المعاني غيض من فيض، وجزء من شريط الذكرى المكي، ساعة اكتحال عين الحاج بمنظر بيوت مكة وساحتها ومعالمها.
(إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) صدق الله العظيم.
اللهم ضاعف لنا حسناتنا، وقنا شر أنفسنا، وسيئات أعمالنا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين