بليت بالضراء والسراء

باغتتني شكوى كورونا في شهر جمادى الأولى وهاجمني داء منها دَنِف مهاجمة، وصرت رهين الدثار والشعار، وأسير الحمى والسعال، وغلبني تعب وضنى، وأعيانى وصب وإجهاد، فتذكرت بعض ما قاله المتنبي لما نزل به ما هو من جنس نزيلي:

وزائرتي كأن بها حياء *** فليس تزور إلا في الظلام

بذلت لها المطارف والحشايا *** فعافتها وباتت في عظامي

يضيق الجلد عن نفسي وعنها *** فتوسعه بأنواع السقام

إذا ما فارقتني غسلتني *** كأنا عاكفان على حرام

كأن الصبح يطردها فتجري *** مدامعها بأربعة سجام

أراقب وقتها من غير شوق *** مراقبة المشوق المستهام

ويصدق وعدها والصدق شر *** إذا ألقاك في الكرب العظام

أبنت الدهر عندي كل بنت *** فكيف وصلت أنت من الزحام

وشكرت الله أن سلمني من أعراض هذا السقام الأخرى، وأنقذني من أدواء فتاكة، وأوبئة مشؤومة، وما خصني الوباء وحدي ملما بي دون سواي، بل كائن في كل قطعة من بريطانيا، وفي سائر أصقاع العالم وباء حصد الخلق حصدا، لم تنج منه العرب وفارس والروم، ولا الترك والهند والصين، أو ربيعة أو مضر أو سبأ، أو نجد وتهامة أو عروض، فما من بلدة ناعمة في عز أملاكها إلا وقد أظهر الدهر لها ما خبأ.

بليت بشر في جسمي ممتعا بعقلي، وقد أنبأني اللب بأني سألقى الردى، وما يهم من كان هذا النبأ له عقبى، فقير كل من في الأرض مكروب كئيب، فهي دار الفجائع والهموم والبلوى، ومأوى البؤس والأحزان والشكوى.

ذكرني الوباء أن المواهب أولاها وأخراها عارية، وأن العطايا طارفها وتالدها طارئة، ومن السفاهة غبطة بكوكب آفل أو ظل زائل، وأقبح بالمرء أن يطغى كلما استغنى، وأحسن بمرض يهذب نفس المرء تهذيبا، فالسعيد متعظ بما هو لاق، والشقي من سدت نوافذ اعتباره، إن طرق الغي سهلة واسعات، وطريق الهدى كسمِّ الخياط، أعوذ بربي من سخطه وتفريط نفسي وإفراطها، والناسك من ابتلي بالشر والخير فتنة فخرج منها سالما، لا من سبح وصلى وطاف بمكة سبعين لا سبعا، وهو قد ساء بمولاه ظنا.

حمدت إلهي أن شفاني من علة نغصت علي بعض أيامي وعافاني من ضر مستبطنا خيرا لي عميما، إنه ربي صورني وأحسن صورتي، فسبحان القدير الواحد، وليشهد الزمان والمكان أني برئت ممن كفر بربه وغوى، ولج في مهاوي الهوى، وكيف يخلد المرء إلى لذة أيام تعد فيها أنفاسه عدا، ومما يدل على فضل كورونا أن مسلكه صعب، والمجد تلقاك دونه شدائد، تنام على أمر وهمك ساهر، وتنزل عن أمر وعزمك راكب، ومن يعافَ مما يريبه فما حظه بالأدنى ولا يده بالخسرى.

ونلت على الصبر من الأجر ما لايقل من الأجر على الشكر، بلاء يصير معه رحمة خير من اليسر وطول البقاء، إن الصبح وهو أصبح وضاء وإن الظلام وهو أحم حالك ليتباريان ويسلكان إلى الورى ضيق المسالك، وما من فقر إلا ويرجى له الغنى، وما من غنى إلا ويخشى عليه من الفقر، أسبح في رخاء ولذة، وأطفو في بؤس ومضرة، فأسرع بشكر نعمة أنعم بها المولى فيما أصبت وفيما لم أصب، وأعجل بتسبيح رب لا كفاء له، والعاقل من رجا الواحد الصمد فإنه أعلى منة وأسمى يدا.

ما أكثر آلاء الله وأوفر نعمه، إذا ليلة هرم يومها أتى بعده يوم فتي، ساعة عناء وساعة هناء، ظلام يجيء ونهار يضيء، ونجم يغور ونجم يرى، وقد بلونا العيش أطواره فما وجدنا فيه غير الشقاء، فلما تقعرناه ألفينا في باطنه سعادات تتلوها سعادات، فإذا تغديت، وطابت نفسي، فليس في الحي إنسان مثلي، إلا إنسان قد تغدى قبلي ومثلي، وما مذهبي إلا الشكر على سراء، والصبر على ضراء، وللرجال فيما يعشقون مذاهب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين