فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (22) والأخيرة

ولنترك هذه المرويات إلى مبادئ أساسية في الإسلام، كانت - بداهة - منطلق نبيه في جهاده، فقد قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين}[القصص:83]، أي: أن طلاب الاستعلاء في هذه الحياة، وناشري الفساد في أرجائها مطرودون من رحمة الله.
والواقع أنَّ أغلب القادة الفاتحين، والساسة البارزين كانوا من هذا الطراز الذي يضحك من كلمة التقوى، ويهزأ من الدار الآخرة. وزبانية الاستعمار قديما وحديثا من هذا الصنف المقطوع عن الله، الجاهل كل الجهل بسبيل الله.
أما نبي الإسلام فهو لا يعرف إلا هذه السبيل ولا يقاتل إلا فيها.
الإسلام قاطع في أن الذين يكدحون للدنيا وحدها، ويجحدون ما وراءها لا تُفتح لهم أبواب السماء، ولا ينتظرهم فيها خير: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُون(15) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُون(16)} [هود].
إن تلك التعاليم الرفيعة تكشف عن حقيقة القتال الذي خاضه محمد وصحبه! إنه لله أولا وآخرا. تحمَّله صاحب الرسالة الخاتمة كي يحمي الحق، ويرد عنه كيد الكائدين، تحمله كي تبقى للركع السجود حرية العبادة، تحمله كي يقال: الله أكبر، فلا يجيء جبار وغد ليسد فم العابد الموحد.
أما من قاتل ليهتف باسمه، أو ليغنم مالا، قل أو كثر، فليس له في الإسلام نصيب، ولا "بسبيل الله " صلة!.
إن نبي الملحمة هو نبي المرحمة، هو نبي الصلاة والزكاة، والبر والتقوى شخصية متكاملة، التقت فيها أمجاد الإنسانية الرفيعة كلها.
وإذا كنا نقدم تفسيرا للقتال الذي أراده الإسلام فمن حقنا أن نطلب من القوى المعادية للإسلام تفسيرا لما صنعت ولا تزال تصنع بالإسلام وأمته.
إن الإسلام اصطدم أول تاريخه بالوثنية واليهودية والنصرانية، فهل تغيرت مواقف المشركين وأهل الكتاب منه بعد مرور أربعة عشر قرنا؟ أم لا يزالون يضنون عليه بحق الحياة؟. في الهند ـ حيث تسود الوثنية ـ نقرأ بين الحين والحين أنباء عن المذابح الطائفية هناك، وهذا هو العنوان المختار لقتل ألوف المسلمين بالجملة.
وذكر المسلمون هناك أنَّ القتلَ يستمر عندما يكون المسلمون في بلد ما أقل من خمس السكان! أما عندما يكون المسلمون حول النصف فإن المذابح تقل لأن المقاومة ترهب، وخسائر المهاجمين تزيد.
وقد ذبح من المسلمين نحو المليون عندما أنشئت "باكستان " ولا يزال القتل الجماعي مصير المسلمين في مئات القرى.
هل راجع الضمير الوثني نفسه في هذه المآسي؟ هل سيراجع نفسه يوما؟. وقرأنا من شهور مقتل عشرة آلاف مسلم في "تشاد"! وهذا الخبر المشؤوم نموذج لأخبار كثيرة عن مذابح المسلمين في أفريقية الوسطى، منذ بدأ النشاط التبشيري يرسخ أقدامه هناك. والصليبية الحديثة هي المسؤولة عن هذه المجازر الكالحة. ولقد صرخت في قطر إسلامي عزيز، وأنا أقرأ هذه الأخبار طالبا من المسلمين أن يجعلوا للشهداء يوما من أيام السنة نبكي فيه الدم المهدر والتوحيد المستباح.
إنَّ دمنا أرخص دم في دنيا الناس، ولو أن الكلاب قتلت بهذه الأعداد الكبيرة لغضب لها جماعات الرفق بالحيوان!.
وفي أواسط هذا القرن الرابع عشر تحركت اليهودية، وتذكرت بغتة أن لها صلة بفلسطين، وبدأ الهجوم الصهيوني على مراحل. وفرض على العرب أن يستسلموا، فإذا وجدت رصاصة في بيت نسفت جدرانه، وسوي بالرغام.
كم يبلغ قتلانا في فلسطين منذ بدأ غزوها؟ ألوف وألوف!. ومطلوب من المسلمين الآن أن ينسوا ويستكينوا !
إن الذين قاتلوا الإسلام من قديم لا تزال قلوبهم مغلفة بالضغائن، ولا يزالون يبيتون الشر لمحمد، وتراثه. والغريب بعد ذلك كله أن يتهموا الإسلام بالعدوان، وهم الذين اسودَّت قلوبهم وصحائفهم بالمنكر من الأقوال والأفعال!!.
هل يُترك هذا الطغيان يُحق الباطل ويبطل الحق؟ هل يُترك ليُذل العزيز ويُعز الذليل؟.
لقد أُمر المسلمون أن يعتمدوا على الله، ويقاوموا هذا العنف، وقيل لهم: لا تقبلوا الضيم، ولا ترخصوا الحق: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُم}[محمد:35].
إنَّ السلام هنا يعني الضياع المادي والأدبي، ولا يتقبله إلا جبان خاسر الدين والدنيا.
وهذا سر عشرات ومئات الأحاديث والآيات التي أوصت بالجهاد، وهو جهاد - كما علمت - في سبيل الله لا إشباعا لغرور، ولا تمشيا مع طمع، ولا جريا وراء جاه، ولا عصبية لجنس، ولا دعما لباطل في هذه الحياة، إنه منع للشرك أن يقهر التوحيد، ومنع للظلم أن يجتاح الحقوق ومنع للقوة أن تمحو العدل.
في جو من التوقير والتهيب نرمق رجالا صنعهم محمد المحب لربه، الراضي عنه، الفاني فيه، نفخ فيهم من روحه فإذا هم ليوث بالنهار، رهبان بالليل، يؤثرون الله على أنفسهم، وينشدون قبوله بالنفس والنفيس.
هم مجاهدون أتقياء، أشداء على الكفار رحماء بينهم، من قُتل منهم مات شهيدا في سبيل الله، ومن عاش منهم بقي حارسا يقظا لكلمات الله.
كان الواحد منهم ينزع نفسه من أحضان عروسه ليلقى - في سبيل الله - حتفه، وهو سعيد. كان الواحد منهم يذهل عن الأهل والعشيرة - في مجتمع قوامه العصبية للأهل والعشيرة - ويتغرب بعقيدته، مستبدلا أهلا بأهل، وعشيرة بعشيرة.
وعندما أنظر إلى دنيا الناس الآن أرى العجب، لقد رأيت كثيرين باعوا دينهم بعرض من الدنيا، وقالوا كلمات الكفر حرصا على منصب أو تطلعا إلى آخر، أو تركوا الحق يموت مستوحشا لأن إيناسه يُغضِب بعض الكبراء.
أين هؤلاء الصغار.. من الرجال الذين ربَّاهم محمدٌ فاستقرَّ بهم التوحيد وكان مطاردا، وعُرفت الآخرة في سيرتهم، وكانت مجهولة؟.
في المجتمع العالمي الآن يُقال: إن خطتنا بناء دار لكل شاب، وتمليك سيارة لكل أسرة، وتمكين أفراد العائلة من كذا وكذا من وسائل الرفاهية، ثم ماذا؟ لا شيء. الحديث عن الله، والآخرة شيء مضحك.
أما محمد الوافد الغريب على أنصاره بالمدينة فيتوجه أول ما يتوجه إلى بناء المسجد منشدا مع البناة المتطوعين من صحبه. "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة!! ".
لقد بدأ يبني جيش الحق بكلمات من نور، أو من نار، يقول: " لغدوة في سبيل الله، أو روحة خير من الدنيا وما فيها " وفي رواية : "غدوة في سبيل الله، أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس ".
" ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله ".
" رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها".
"رباط شهر خير من صيام دهر".
" من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا". "ما خالط قلب امرئ رهج ـ فزغ وقلق ـ في سبيل الله إلا حرم الله عليه النار".
"من بلغ العدو بسهم رفع الله له درجة، ما بين الدرجتين مائة عام ".
"مقام الرجل في الصف في سبيل الله أفضل عند الله من عبادة الرجل ستين سنة ".
"إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف ".
وعن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يضمن الله لمن خرج في سبيله ـ لا يُخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي ـ فهو ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر، أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل ، ثم أغزو فأُقتل !".
هذه الكلمات إلى جانب آيات الكتاب العزيز، إلى جانب التطبيق العملي لرسول ظل نحو ربع قرن ـ هو أمد الرسالة ـ دؤوبا منتظما في نصرة ربه كأنه كوكب دوار، لا توقف ولا شرود..
ذلك كله صنع الجيل الذي ثبت أركان الحق، وأرسى قواعده إلى آخر الدهر.
الويل للعالم إذا نام الشرطة، واستيقظ اللصوص، وقد أسهر محمد ليله وجنَّد رجاله ليحرسوا مسيرة الحق، ويطاردوا العصابات التي ألفت الغارة عليه حينا بعد حين.
إنَّ الرجل الذي تورَّمت أقدامه من طول تهجده هو الذي انطلق في ميادين الكفاح المر يضرب ناشري الخرافات، ويمهِّد الأرض لغارسي الحقائق.
ونؤكد مرة أخرى أنه ما اعتمد الإكراه وسيلة لغرس عقيدة، بل إن أنبياء الله كلهم يأبون هذه الوسيلة في غرس الإيمان. الذي حكاه التاريخ، ولا يزال يحكيه، أن الضلال المسلح هو الذي يقوم بأعمال الفتنة والنهب، وأن موقفه من الإسلام لا ينطوي على مهادنة أو شرف.
وهنا يجب أن نقدر محمدا قدره، إن توحيد الله سبحانه وتعالى هو الشيء الذي أطبق المرسلون عليه كلهم، ما يعرفون غير ذلك، ما يعرف آدم، ولا نوح، ولا إبراهيم، ولا موسى أن لله ولدا، هو إله معه، وذلك غير إله ثالث اسمه روح القدس!!.
إن هذا التثليث غريب على السماء، منكور الأصل والوجهة، ومن حق محمد ـ والأنبياء كلهم وراءه ـ أن يصرخوا بالحقيقة الواحدة، وأن يمنعوا كل عقبة تعترضها.
إنَّ الأرض والسماء وما بينهما تهتف مع محمد وهو يشقُّ أجواز الفضاء بكلمات الأذان؛ فإذا استحمق بشر، وظن الآلهة عشرا فليستحمق ما شاء، ولكن ليس له أن يستغل سلطته أو ثروته في إيذاء الموحدين، وإغلاق أفواههم.
ويوم ينكسر سيفه، وهو يحاول قطع الطريق على قافلة الحق، فليذهب إلى الجحيم، ولا مكان للعطف عليه، أو إهانة الذين نجوا منه.
وفي عصرنا هذا تقع مفارقات مستغربة، هناك من يريد إقناع المسلمين بترك رسالتهم! والتنكر للحق الذي شرفهم الله به! والتخلف عن محمد خير من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا!.
وما أشك في أن هذا الصوت القبيح مستأجر للشيوعية أو الصهيونية أو الصليبية، ومصيره إن شاء الله إلى الاضمحلال والتلاشي، فإن الأوفياء لله ورسوله سيبقون على العهد إلى قيام الساعة يؤمنون بالله، ويكفرون بالجبت والطاغوت.
وقد شاء الله أن تقترن الشهادة له بالوحدانية مع الشهادة لمحمد بالرسالة، وذلك لأمر واضح، أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان أشد الناس جؤارا بذكر الله وحده، ومحو كل أثارة من شرك تتسلل إلى دينه. لقد تعلمنا منه أن نعرف الله معرفة اليقين، وأن نحبه الحب المكين وأن نتابعه وهو يردد : {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين (163)}[الأنعام]
فماذا يقول الآخرون؟ إنهم يهرفون بما لا يعرفون! والموعد ساحة العرض: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُون (31)}[الزمر].
ختامٌ:
هناك أئمة كبار لهم في دراسة السيرة الشريفة بصر أطول، وخبرة أعمق، وقد يستطيعون خيرا مني أن يتحدثوا في: (فن الذكر والدعاء، عند خاتم الأنبياء).
بعضهم قرأنا له من علمائنا الأقدمين، وبعضهم سيتمخض عنه المستقبل؟ لأن التعرف على صاحب الرسالة العظمى، واكتشاف جوانب العظمة فيه لم يتم بعد، على كثرة الكاتبين، والدارسين.
في شبابي كتبت " فقه السيرة " وحسبت أني أتيت بشيء طائل في الإبانة عن عظمة محمد صلى الله عليه وسلم!.
ثم عرفت ـ بعد ـ أن محاولتي كانت محدودة، وإن كانت ـ بستر الله ـ غير مردودة. ثم كلفتني "إدارة الشؤون الدينية" بدولة قطر أن أسطر هذه الصحائف فاستجبت.
وكانت عدتي التي اعتمدت عليها عاطفة حيث تتحرك في قلبي نحو محمد صلى الله عليه وسلم، تجعلني حفيا بمناجاته لله، مشوقا إلى متابعته، والإفادة منه. لكن العاطفة الحارة لا تستر البصر الكليل، والهمة القاصرة. لذلك انتهيت من الكتابة، وقد استولى علي الشعور بالنقص، ثم قلت: جهد المقل، ولعل غيري يتم ما بدأت.
إن الكتابة في شمائل محمد صلى الله عليه وسلم وعبادته وفروسيته ميدان لا يزال ينتظر الرجال.. وأستغفر الله أولا، وآخرا. "
انتهى الكتاب والحمد لله أولاً وآخراً "
الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين