وهم الإنجاز! ما لا يسعُكَ جهله في عامنا الجديد

قبيل أيامٍ من انقضاءِ هذا العام، عُرضت قوائم الإنجازات لكلِّ إنسان رأىٰ من نفسه إنجازًا.. فكافأها بالإشادة، وهذا من وجهٍ أمرٌ حَسَن، وإشاعة لمعاني العمل، والحركة، والتقدُّم، وترك الركون... لكن من وجهٍ آخر، قد تُسببُ إرباكًا لأحدهم، وتُضعِفُ فيه معنىٰ الحياة؛ لأنه شعر بالعجز حيال كل هذه المنجزات.. "لا علاقة لصاحب الإنجاز بهذا الأثر الذي تركه على بعضهم"؛ لأنهم فهموا الإنجاز بطريقةٍ معلولة، ربما تضرُّ بهم إن قرروا السير وفقَ إنجازاتِ الآخرين!

إن كان من كلمةٍ أضعها في حائطي في مُبتدَأ هذا العام، فهي قولي لك: "الإنجاز الحقيقي ما يعنيكَ أنتَ دونَ سواك". كل ما تراه من إنجازاتِ الآخرين، أمرٌ عظيم، لكن لا تعنيكَ في كثيرٍ من الأحيان، الطريق الذي يسيرُ فيه غيرك، ليسَ شرطًا أن تسيرَ فيه.. مفهوم الإنجاز عندَ الآخر ليسَ بالضرورة أن يكون هو ذات المفهوم لديك.. وبهذا يُفهَم معنىٰ الإنجاز الإنساني، عندما نوسِّع دائرة المعنى، بعيدًا عن حصرها في حيزٍ ضيق، إن لم تقم به ضاقت بكَ الدنيا واقعدتكَ عن الحِراك!

في هذا الفضاء الواسع، تلتقي يوميًا بمئات أو آلاف الأشخاص، منهم من يحمل ذات الملامح، ومنهم من يختلف عنك، ومنهم من تلتقي وتتباين معه في منعرجاتٍ عديدة.. كل ما يعرضه هؤلاء من إنجازٍ محسوس مادي، بفعل مواهبهم وإمكانتهم المختلفة، هو خاصٌّ بهم، ببيئتهم، بطريقةِ تفكيرهم، بتكوينهم، وعندما تظن أن إنجازات هؤلاء كان من المفترض أن تنجزها، ثم توهمُ نفسك أن بإمكانك أن تلتحق بهم وتكون "هُم"؛ يضربكَ بعد مدةٍ يسيرة سوط الواقع، وحقيقة الحياة، ليقولان لك: توقف، دع عنكَ هذا العبث!

أعرفُ من دخلوا في وضعٍ نفسيٍّ متردٍٍ؛ لأنهم يبحثونَ عن إنجازاتِ غيرهم ليحققوها، في لحظةٍ ما، يريدون أن يكونوا فلاسفة، وعلماء، وأدباء، يتقنونَ أدق النظريات العلمية، ويقولونَ الشعر، ويفقهون في عالمِ الحشرات، والجمال، والمال، ويدندنون بـ نيشته، وفوكو، وابن تيمية، ونزار..!

الأسماء التي تترددُ على مسامعنا كثيرًا، الكتبُ التي يقرأها الآخرون لا تلزمني بالضرورة، الدورات التي يأخذونها، الحقول العلمية التي أتقنوها، كل شيءٍ لا يمسُّ حياتك مباشرة، ولا يساعدكَ في مشروعك، ولا يسهمُ في اكتشافِ ذاتك، والتقدم بها، لا يعنيك.. نعم لا يعنيك في شيء؛ لأنكَ تسير وفق إنجازاتِ إنسانٍ آخر، مهمِلًا حقيقة إنجازك الذي ينتظرك، ولو كانَ أمرًا يسيرًا فيما يراه الناس!

تعوَّد أن تتقبلَ هذه الحقيقة، أنَّ "الجميع ليسَ أنت"، وأنك لو أنفقتَ عمركَ في تحقيقِ إنجازات غيرك لما وُفقتَ لذلك، وأن الإنجاز ليسَ شيئًا محسوسًا فحسب، تستطيع أن تُقلع عن عادةٍ سيئة، حملتها معكَ منذ سنين، ثم جاهدتَ نفسك وتركتها خلفك، تستطيع أن تبني عادةً جديدة لم تكن في خارطة الحياة من قبل، هذه إنجازات ليست محسوسة، غيرك لا يراها، لا تستطيع أن تباهي بها، لكن أثرها عليكَ عظيم، ويتجلىٰ فيها حقيقة الإنجاز.

النظرة المادية إلى مفهومِ الإنجاز اقتحمت علينا الحياة المعرفية، دون أن نشعر، فأصبح بعضنا يلهثُ عن إنجازاتٍ ولو كانت عابرة، كل "دورة" يريد أن يدخلها ولو كانت لا تعنيه في شيء، من أجل شهادةٍ يفتخر بها، كل عملٍ وراءه إشادة يشاركُ فيه، إيغالًا منه في البحثِ عن الإنجاز الضائع، قد يلتقط صورة عند منشأةٍ كبرى لها دلالة معينة، ليوحي للآخر بأنه قدَّم إنجازًا أو هو في دربِ الإنجاز، لقد أصاب حياتنا جنون الإنجاز المُقعِد عن الإنجاز الحقيقي..!

مفهوم التكثير من الإنجاز، واللهث بشكلٍ مَرَضي وراء هذا الوهم؛ لا يبني إنسانًا متزنًا.. ولا يصنع شخصية معرفية رصينة، وإنما يقدِّم شخصياتٍ هلامية، ضبابية، تنشد الإنجاز، لكنها سلكت دربًا خاطئًا.

جرِّب أن تعكف على كتاب واحد من أجزاءِ عدة، ولو أخذ منك عامًا كاملًا، جرِّب أن تتفرغَ لمشروعٍ فكري ترىٰ أنه يستحق أن تنفقَ فيه الأيام والليالي، جرِّب أن تبحثَ عن علاقاتٍ جديدة، تساعدك في سد شيء من النقص الذي تعاني منه، لأن بعضهم يرممون حياتنا بطريقة فريدة..! جرِّب أن تقرأ كتبًا ما سمعتها من أحد، استمتع بلذةِ اكتشافها، حاول أن تربط الإنجاز بالقيم، وأن تجعل الإنجاز بجانبِ الأمور التي تجد نفسك فيها، حينها فقط تدخل في دائرةِ الإنجاز وإن رآك الآخر باهتًا بلا لمعان!

أحد أذكى أصدقائي قبيل أيامٍ عرض قائمة مقروءاته، في نظر اللاهثين وراءَ الإنجاز والقوائمِ الضوئية؛ سيجدونها شيئًا عاديًا، ليست ذا بال.. بينما هي هي.. رغم قلتها.. أكبرتُه في نفسي، لأني أعرفُ أنَّ هذه القائمة القصيرة تصبُّ في بنائه بشكلٍ محكم، وأنه يسير بخطى ثابتة، وأنَّ إنجازات الآخرين لا تعنيه، وأنه يعي جيدًا كيفَ يقضي الحياة في الاستمتاع بأمورٍ يحبها دونَ أن تُملى عليه.

الإنجاز الحقيقي ما تراه في نفسكَ إنجازًا، ويستحق أن تقومَ به، قمْ به، ولتحفظكَ عناية الإله يا صديقي..

كل عام أنتَ بخير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين