مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (87)

قال تعالى:(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[البقرة: 106]

السؤال الأول:

في الآية هناك قراءتان لكلمة (نُنْسِهَا) ما الفرق بينهما؟

الجواب:

قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وأبو جعفر وخَلَف (نُنْسِهَا) وقرأها ابن كثير وأبو عمرو (ننسأها)، فأمّا قراءة (نُنْسِهَا) فهي من النسيان، أي: نُنسي الناس إياها وذلك بأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بترك قراءتها حتى ينساها المسلمون، وقراءة (ننسأها) بمعنى نؤخِّرها، أي نُؤخِّرُ تلاوتها، أو نؤخر العمل بها، مما يؤدي إلى إبطال العمل بقراءتها أو بحكمها.

السؤال الثاني:

ولكن لِمَ قال تعالى: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) [البقرة:106] ولم يبين بأي شيء هي أفضل وخير من الآية المنسوخة؟

الجواب:

(نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) أُجمِلت جهة الخيرية ولم يُذكر وجه الخير؛ لتذهب نفسك كل مذهب ممكن، فقد ترى أنّ الخيرية في الاشتمال على ما يناسب مصلحة الناس، ويرى غيرك ما فيه رفق بالمكلفين ورحمة بهم في مواضع الشدة وهكذا.

السؤال الثالث:

ما الفرق بين الإنساء والنسيان؟ وما علاقة النسيان بالشيطان؟

الجواب:

1ـ النسيان: خلقه الله في الإنسان؛ لذلك ينسى الشخص من تلقاء نفسه، ويكون عما كان. أمّا السهو فيكون عما لم يكن.

2ـ الإنساء: من أنسى , مثل: أكرم إكراماً.

3ـ لا النسيان ولا الإنساء يختص بالشيطان, لكنْ قد تستطيع أن تُنسي شخصاً أمراً ما بإلهائك إياه ببعض الأمور الأخرى.

4ـ الله تعالى ينسب الإنساء لنفسه كما في قوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر:19].

شواهد قرآنية: 

ـ آية طه [52] (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى) [طه:52] لا ينسى من تلقاء نفسه.

ـ آية الكهف [63] (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ) [الكهف:63] فتى موسى يتكلم عن نفسه أنّ الشيطان بسبب وساوسه ألهاه فنسي.

ـ آية يوسف [42] (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) [يوسف:42] هذا سرد لما حدث؛ يتكلم عن الشخص الذي ظن أنه ناج, أي: أنّ الشيطان بسبب وساوسه وإلهائه له جعله ينسى موضوع يوسف عليه السلام.

ـ آية البقرة [286]: (إِنْ نَسِينَا) [البقرة:286] عامة من تلقاء أنفسهم.

ـ آية المؤمنون: (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) [المؤمنون:110] أي: أنّ انشغالكم بسخرية المؤمنين أنساكم ذكر الله والإيمان به.

ـ آية البقرة [106] (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة:106] متعلقة بالله تعالى.

السؤال الرابع:

ما اهم دلالات هذه الآية؟

الجواب:

1ـ هذه الآية تشير إلى الحملة الماكرة التي يشنها اليهود ضد الإسلام بالتشكيك والطعن فيه , وهذا الأمر قديم متجدد , وهو نفسه ما تقوم به الصهيونية العالمية والصليبية العالمية في كل عصر ومِصر , فقد اعتذراليهودعن إيمانهم بالنبي محمد عليه السلام بقولهم: (قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ) [البقرة:91] ويكفرون بغيره , وهم يزعمون أنّ شريعتهم لا تُنسخ , وأنّ محمداَ صلى الله عليه وسلم وصفها بأنها حق , وأنه جاء مصدقاً لها , فكيف يكون شرعه مبطلاً للتوراة !!؟

2ـ أثار تحويل القبلة إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت المقدس حسد اليهود للنبي عليه السلام وللإسلام وأهله , فانتهزوا هذه الفرصة للطعن في الإسلام فقالوا: إنّ محمداً يأمر أصحابه بأمر وينهاهم عنه غداً , ويقول لهم اليوم قولاً ويخالفه غداً , فنزلت هذه الآية لتبين أنّ الله ما يرفع من حكمٍ أو يبدله إلا أتى بما هو خير منه وأنفع بما يتفق مع مصلحة العباد , بعد أن يكون الحكم الأول قد أدى وظيفته في الوقت المناسب , ويأت الله بخير من الآية المنسوخة حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية , فهو سبحانه قادر لا يعجزه شيء. 

3ـ اليهود يزعمون أنّ التوارة لا تُنسخ , وأنّ ذلك مانعٌ لهم من الدخول في الإسلام , والواقع أنّ التوارة قد نُسخت جزئياً بشريعة عيسى عليه السلام , فرفعت بعض أحكامها وأثبتت أحكاماً أخرى , فهو نسخٌ لها في الجملة. أمّا شريعة محمد عليه السلام فقد أبطلت شريعة عيسى إبطالاً تاماً , وأبطلت أيضاً ما قبلها من سائر الشرائع , فهو رفعٌ كلي لجميع ما سبق من الشرائع , بحيث لا يجوز لأحد أي يعتنق أي شريعة سماوية أو أرضية غير الإسلام.

4ـ النسء تأخير عن وقت إلى وقت , ففيه مدارٌ بين السابق واللاحق بخلاف النسخ , لأنّ النسخ معقب للسابق والنسء مداول للمؤخر , وهو نمطٌ عليٌ خفيُ المنحنى ,ومن أمثاله ما وقع في النسء من نهي النبي عليه السلام عن لحوم الأضاحي , كما جاء في حديث البخاري عن طريق عبد الرحمن بن عابس عن أبيه قال: قلت لعائشة: أنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث؟ قالت: ما فعله إلا في عام جاع فيه الناس , فأراد أن يُطعم الغنيُ الفقيرَ.(تفسير نظم الدرر). 

وأما النسيان والتنسية فمعناه أخفى من النسيء , وهو ما يظهره الله من البيانات على سبيل إدخال النسيان على من ليس شأنه أن ينسء , كالسنن التي أبداها النبي عليه السلام عن تنسيته كما ورد من قوله: (إني لأُنَسّى لأسُنّ) , وقال عليه الصلاة والسلام: (بئسما لأحدكم أن يقول: نَسيتُ , بل هو نُسّي) , ومنه قيامه عليه السلام من اثنتين وسلامه من اثنتين حتى أظهر سنّة ذلك لأمته.

5ـ ورد أنّ النسخ على ثلاثة أنواع:

آ ـ نسخُ الآية والحكم معاً: (أي الآية لم تعد تقرأ وحكمها قد رُفع فليس معمولاً به , كما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرمْن فنُسخن بخمس رضعات معلومات).

هذا عند جمهور العلماء , وعند الشافعية لا يرون جواز نسخ القرآن بالسنة.

ب ـ نسخ التلاوة دون الحكم: [ أي الآية نُسخت وبقي الحكم , كحكم الرجم في سورة النور: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله) ] وقيل أنها نُسخت لشناعة وقوع الزنا من الشيخ والشيخة وبقي الحكم معمولاً به , كما ثبت في السنة في رجم الزاني المحصن والزانية المحصنة مثل ـ ماعز الأسلمي والغامدية ـ 

ج ـ نسخ الحكم وبقاء التلاوة: كما في آية تقديم الصدقة عند مناجاة الرسول آية المجادلة رقم 12 في قوله تعالى:

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

ومن ذلك نسخت الوصية للوالدين الواردة في آية المواريث في آية النساء 11 وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ نُسخت بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث)

والله أعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين